يثب

داعش … وما أدراك ما داعش

د. كمال اللبواني

 1-  من يشغل داعش ؟

أصبح التكلم بوضوح وموضوعية وتكامل عن داعش ضروريا ، وهذا يحتاج لبحث كامل وليس مجرد مقال ، لذلك سنجزئ  الموضوع لعدة أبواب  طويلة نسبيا .. أملا في تغطيته من كل جوانبه … فعذرا من القارئ المستعجل في هذا الزمن السريع … و في هذا العرض لن نكرر ما يقال ويردد عادة من مواقف مسبقة مؤدلجة  مبنية على موقف سياسي يقع ضمن بروباغاندا محددة الأهداف،  أصبحت بابا للتجارة ولكسب ود الغرب  ودعمه ، أو لاكتساب صفة الاعتدال التي تستقدم هذا الدعم المنتظر (عجل الله بفرجه ) …

لا يعقل لأي تنظيم سياسي ، ولا لأي كيان أو قوة أن يوجد بمعزل عن المجتمع ، فالسياسة بكل أشكالها هي حالات تنظيمية متطورة في مجتمع انساني متحضر ، و عليه وبالنظر لغياب أو عدم وضوح  القاعدة المجتمعية التي انطلقت منها داعش ، لذلك تعتبر داعش منظمة اصطناعية فوق المجتمع وضده … تتحرك عابرة للتشكيلات الاجتماعية المختلفة وللحدود السياسية بين الدول . وتعيش على دعم دول أو منظمات تمدها بما تحتاجه من موارد يفترض أن يكون المجتمع الذي نشأت فيه مصدرها لو كانت طبيعية …. فهي مجموعة متطوعين دوليين ، منتشرين في أماكن متفرقة ، تجمعهم أيديولوجيا عسكرية مقدسة ، من دون هوية قومية ، ومن دون مرجعيات يستمدون منها الشرعية ، فمشروعيتهم من ذواتهم ، ومن تفسيرهم الخاص للدين .. ووجودهم بفعل قوتهم فقط ، وقوتهم تحتاج لمصدر داعم … يعتبر هو الموظف وهو المستخدم ….   فداعش منطقيا هي أداة بيد الجهات التي تدعمها ، لأن وجودها الطبيعي العفوي المستقل شبه مستحيل …

هذا التوصيف يستمر صحيحا حتى ما قبل حصولها على الأرض والموارد ، التي تهيء لها امكانية تشكيل ما يشبه الدولة الخاصة بها ، وهذا بالضبط ما عملت عليه داعش منذ البداية ساعية لترسيخ كيان /دولة لها مؤسسات / سمتها أخيرا خلافة اسلامية ، حيث تستطيع الاستقلال عن مصادرها ومشغليها  لو أرادت ذلك ، وتستطيع أن تتحول كأي نظام قهري لسلطة تحكم مجتمعا ما ، وتستخدمه كقاعدة لها بالإقناع أو بالإكراه، وتحوله لحشد من التبع الطائعين … حالها كحال كل أنظمة القمع السائدة في العالم المتخلف، بعد أن تتجذر في هذا المجتمع  وتربط مصالح مكوناته بها وعبرها ، لتصبح حينها الحرب على داعش تعني قتال الشعب المختطف من قبلها ( كما هي الحرب اليوم مع النظام الأسدي وغيره من المنظمات الارهابية التي تحظى بالمكان ) ..

 والسؤال الهام هو : هل داعش تفهم ذلك وتحملت حتى تمكنت، أو فهمت ذلك  بعد حصوله من دون توقع مسبق منها ، و في كلا الحالين هل هي اليوم تسير في مسار الاستقلال عن مشغليها السابقين ؟ هل وصلت داعش لمرحلة الاستقلال عن مشغليها ، وهل تستطيع الافلات من المتحكمين بها ؟…… وما أكثرهم وما أسوأهم كما سنشرح …  هل أفلتت داعش من يد الخبثاء الذين رعوها وهي طفلة تحبو ، إلى أن صارت تشكل فعلا منافسا لهم وخطرا عليهم ، أم أن اللعبة ما تزال تحت السيطرة وداعش لها دور مستمر في تغيير خريطة المنطقة ؟ . من كان يتخيل أن تقبل بعض مكونات الشعب السوري الاستمرار في دعم المجرم الأسد ، أو القبول في تقسيم سوريا من دون ظهور داعش ، وكم خدم ظهورها هذا النظام لكي يدعي محاربة الارهاب عبر ابادة وتهجير نصف الشعب .. ومن كان يتخيل أن تجد داعش بعض التعاون من المجتمع لولا انتشار خيبة الأمل واليأس الرهيب ، الذي  حرص على احداثه  الصديق والشقيق عند عموم الشعب المعذب .. وهل داعش ستستطيع فعلا تقويض فرص بقاء النظام وتكسب بذلك المزيد من الشعبية . أم أنها ستتقاسم مع هذا النظام البلاد والعباد بالتوافق الضمني معه،  وتعيث فسادا وتقتيلا معه في عموم البلاد،  و بالتالي تتبادل معه الجريمة والشرعية والتبرير .. الذي يعفي المجتمع الدولي من كل مسؤولياته؟

سؤال ستبقى الاجابة عليه مرهونة بما سيأتي من أحداث .. بعد أن صارت داعش ومثيلاتها من التنظيمات الجهادية السلفية التكفيرية ، تؤثر على مصير معظم الدول الاسلامية الفاشلة ، بدءا بأفغانستان وجزئيا باكستان ، مرورا بالعراق وسوريا وليبيا ، وجزئيا لبنان واليمن والسودان . وتهدد دولا أخرى قريبة من مرحلة الفشل  مثل مصر والاردن والسعودية والسودان وتونس والجزائر والكويت والبحرين … و كل هذا يرتبط ليس بمؤامرة بل بطبيعة البنى الثقافية السياسية الموروثة في هذه المجتمعات، وطريقة تفاعل هذا الموروث مع متغيرات الحضارة السريعة والجذرية ، وهذا موضوع سنعود اليه لا حقا .. لكننا سنركز أولا على اصطناع داعش وتنميتها وتوظيفها  من قبل انظمة القمع ،  قبل أن تتلاقى مع حالة موضوعية مناسبة لها .. تتجلى في عدم التلاؤم بين الموروث السياسي الديني ، وبين الحضارة الحديثة وقيمها … وهذه حقيقة تتطلب اعادة النظر في فقه الدولة والسياسة الاسلامي ، بما يتناسب مع بنية الدول الحديثة ودورها و بما يتجاوز الدولة القديمة السلطانية ودولة البيعة البدوية ، لصالح دولة المؤسسات والنظام والحقوق القانونية . لكي لا يبقى الخيار التحديثي الوحيد محصورا في الدولة القهرية العسكرية ، التي تحاول داعش انشاءها لكن بأسماء اسلامية تطلق على بنى ارهابية قهرية ونظام استعباد مخابراتي شمولي حديث مشابه لغيره من أنظمة القهر .

بداية سنعرج بالعودة للوراء قليلا على بعض الحقائق التاريخية، بما يخص بداية داعش بالذات ، والتي تسمح لنا بفهم من كان سببا في نشأتها وكيف عمل على ذلك وكيف خطط لاستخدامها حتى قبل اندلاع الثورة والربيع العربي …

عندما كان حافظ الأسد في سنته الأخيرة ، تكلم عن التيار الجهادي الاسلامي كتيار واعد واحتمال بديل يفكر فيه أحيانا !!! ، تحدث عن ذلك بصيغة تهديد وعصا يهزها في وجه الغرب الذي يطالبه بإجراء اصلاحات ، ولسان حاله هو (إما الاستبداد أو التطرف ) ، فالخيار الديمقراطي الاصلاحي هو نهاية للاستقرار ، الذي عنوانه بقاء الأسد في السلطة إلى الأبد ، ولكي تتحول هذه الفكرة لقناعة عند الغرب قام بتدمير كل مؤسسات المجتمع المدني ، وكل التنظيمات السياسية الديمقراطية ، واختراق كل قوى التطرف داخل سوريا ودعمها سرا ، طالما هي تحت سيطرة المخابرات ، وخارجها من دون شروط مسبقة : ان كانت بألوانها الشيعية ( حزب الله والدعوة …. )  أو بألوانها  السنية (الجهاد وحماس وبعض التنظيمات الأخرى .. ) وهو ما جعل الغرب يصر على اتهام سوريا بدعم الارهاب ، فتكررت دعوة الأسد  السخيفة لتعريف الارهاب ، وادعاءه الأسبقية في محاربته ، متفاخرا في جرائمه التي ارتكبها ، ومستذكرا صراع الثمانينات الذي حدث بسبب الاحتقان الطائفي الذي تسبب به سلوك النظام الطائفي ، حيث وجدت ردة الفعل  الدعم من نظام صدام البعثي الذي قدم الدعم الكبير للإخوان المسلمين ، والطليعة المقاتلة ، لتشجيعها على استخدام العنف ضد نظام الأسد التمييزي الفاسد ، و هو ما رد عليه الأسد بدعم حزب الدعوة الايراني في العراق لاستخدام العنف ضد نظام صدام السني هناك ، وهكذا وقف الأسد مدعي العروبة والعلمانية بشكل صريح وواضح مع ايران الاسلامية الشيعية الارهابية في حربها ضد العراق العربية البعثية وأطبق الحصار على العراق وساهم في ترهيب دولته ..

وهنا نركز على نقطة مهمة :  أن دعم التطرف والعنف الجهادي منذ بدايته في السبعينات كان مصدره الاستبداد ، وهو أداة استخدمها البعث  والمستبدين ، ويد قذرة لمحاربة خصومهم يوظفونها بالطريقة التي تناسبهم. فالإرهاب صناعة بعثية ديكتاتورية بامتياز ، وأحد تعبيرات الاستبداد والفساد والعنصرية وعبادة الفرد الذي طغى على الأنظمة الحديثة التي ركبها الاستعمار  …  وليس منتج تراثي اسلامي ، الا بمقدر تزاوج هذه المنظمات  مع منظري التيارات الجهادية السلفية ، المرتبطين بمصادر التشدد والغلو التي تصل حد الخروج .. والذين دخلوا حالة شراكة وعداء ،وصراع وتوافق ، مع هذه الأنظمة … فهم في سوريا حلفاء نظام العراق ، وفي العراق حلفاء نظام سوريا  ، وهذا هو  سبب تطرفهم وتناقضهم واضطراب غايات سلوكهم وعدم وضوح أهدافهم  .. حيث يظهر الدين في المرتبة الثالثة من الأهمية بعد السياسة وغاياتها، والسلطة ومغرياتها .

أما قصة داعش بجذرها الحقيقي وهويتها المتكاملة فقد بدأت مع غزو العراق .. عندما قرر النظام السوري والنظام الايراني استنزاف الهجوم الأمريكي على المنطقة ، والذي أعلن أن هدفه قلع أنظمة الاستبداد التي ترعى الارهاب … بعد استخلاص نظام بوش الدروس من أحداث أيلول 2001 ، واستنتاجه أن الاستبداد هو من يولد الأرضية للتخلف والعنف وظاهرة الارهاب … فكان الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق ، ولكي لا يمتد ويهدد نظام ايران ونظام سوريا الموضوعين على قائمة الأنظمة التي لا يمكن اصلاحها .. صار هدف ايران وسوريا  المباشر هو افشال دولة العراق ، و كل المشروع الديمقراطي الأمريكي  الذي أطلقه بوش في الشرق الأوسط الكبير ، و الذي يفترض أن الحرب على ظاهرة الارهاب هذه التي طالت بأذيتها أمن العالم أجمع ، يتطلب تدمير البنية التحتية والأرضية المناسبة لنموها أي (الاستبداد )، وهو التغيير الجذري اليتيم الذي حدث في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ،  وهو ما وحد كل أنظمة المنطقة ضده ، والتي عملت بتناغم لإفشال مشروع الديمقراطية  وسياسة زرعها في المنطقة ، والتي تراجعت عنها ادارة أوباما وعادت لتعتمد على أنظمة القمع والاستبداد من جديد كسابق عهد أمريكا الحرة سيدة الحضارة والديمقراطيات في العالم  ، لكن مشروع الديمقراطية هو حاجة لشعوب المنطقة أولا … لذلك فهو سيهاجمها من جديد بشكل عفوي عبر الربيع العربي ، الذي أرعب هذه الأنظمة وجعلها تتناغم من جديد لوقفه ، بل للتآمر عليه وسحقه  كما جرى في مصر وليبيا وتونس واليمن وأخيرا سوريا .. وبوسائل وطرق مختلفة متناسبة مع ظرف وخصوصية كل بلد وثورة .

وهكذا عملت أنظمة المنطقة وخاصة سوريا وايران … وتعاونت على افشال دولة العراق المحكومة من الاحتلال الأمريكي ، و على استنزاف الاندفاع الأمريكي المتحمس للتغيير بل كسره ، وهكذا صار دعم التطرف السني في العراق وافغانستان  سياسة ثابتة لإيران وسوريا المتشيعتين !!، ومعهم سرا كذا دولة عربية تخشى من الضغوط الأمريكية المتزايدة المطالبة بالإصلاحات … و لا ننسى دور روسيا التي حرصت أن تسقي أمريكا ذات الكأس الذي شربه الروس ، عندما دعمت الولايات المتحدة القاعدة وطالبان لإخراجهم من أفغانستان .. فلعبت معها نفس اللعبة في افغانستان والعراق وسوريا  وما تزال .. عبر حمايتها ودعمها الضمني لكل منظمات ودول التطرف المعادية للغرب وأمريكا ، وأحيانا بشكل سافر وعلني صفيق باستخدام  الفيتو .


2- قصص ارهابية :

لنتذكر في هذا السياق قصة مصعب الزرقاوي الأردني ، وتهريب السيارات المفخخة من سوريا للأردن حيث حاولوا ارسال مفخخات عادية وكيميائية بإمكانها قتل عشرات الآلاف في عمان .. ولنتذكر رفيقه شاكر العبسي المتهم باغتيال ديبلوماسي في عمان والمحكوم بالإعدام هناك والذي فر لسوريا ، ثم جُنّد وهو معتقل في سجن صيدنايا على يد آصف شوكت الصهر ..  والذي أخرجه بصفقة وسلمه كل مخازن وتنظيم فتح الانتفاضة (الجناح الفتحاوي الذي شقه النظام عن قيادة عرفات ، بعد هزيمته وطرده من بيروت على يد الجيش الاسرائيلي ثم طرابلس على يد الجيش السوري ) ، وأرسل النظام مع العبسي  إلى شمال لبنان 500 مجاهد سلفي ، ومعهم قائمة اغتيالات ب 36 شخصية لبنانية تعارض النظام السوري وحزب الله ، وهم من ثبت تورطهم بقتل الجميّل الابن ، والقيام بعدة عمليات تفجير واغتيال ، وقتلوا هناك بطريقة فجة من قتلوا ، لكن بأسلوب مخالف لما قامت به المخابرات السورية وأمن حزب الله ( أقصد السيارات المفخخة  والعبوات اللاصقة ) ثم قاموا  بعد ذلك بفتح معركة نهر البارد لتفجير صراع فلسطيني لبناني يطيح بلبنان ، ردا على قرار افتتاح المحكمة الدولية الخاصة بقتلة الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وبقية حوادث الاغتيال التي طالت قادة الحراك السياسي اللبناني المعارض للنفوذ السوري – الايراني .

فالشيخ رفيق الحريري قتل بالرغم من تحذير المجتمع الدولي للنظام السوري عبر الوسيط الدولي تيري رود لارسن  الذي أرسل على عجل لتحذير الأسد بشكل صريح وواضح من مغبة تنفيذ هذا الاغتيال ، وهو ما سمعته من شخص السفيرة الأمريكية مارغريت سكوبي في دمشق قبل رحيلها احتجاجا في شباط 2005، لكن هذا التحذير لم يمنع الأسد من قتل الشهيد بعد أيام قليلة فقط من التحذير ،  بتفجير سيارة فخخت في سوريا بخبرات من أحمد جبريل ، وب2 طن من مواد شديدة الانفجار من مخزون الجيش بيعت لسوريا بنوعية معروفة ، و اقتيدت السيارة بعد تفخيخها للبنان ، حيث تولى حزب الله هناك تقديم الدعم اللوجستي الكامل للعملية ، بينما تولى النظام السوري تأمين الارهابي الانتحاري من المخزون الذي يجمعه ويرسله للعراق ، و أوهم الانتحاري أنه يغتال علاوي ، وتولى عملية التمويه والصاق العملية بالمجموعات الاسلامية المتطرفة ( الدواعش ) عبر أبو عدس المعتقل قبل شهر من الاغتيال مع زياد رمضان ابن خالته في سجون سوريا ( ملف قضية التوقيف كله موجود عند المحامي هيثم المالح وتدخله فيه لدى المحكمة الدولية هو سبب اعتقال المحامي ) و سجل لأبو عدس المسكين الشريط الشهير وهو تحت تأثير الأدوية النفسية ، بإشراف اللواء بهجت سليمان ، ثم ارسل الشريط المزور مع عميل حزب الله غسان بن جدو مراسل الجزيرة يومها … وخير الأسد بين الانسحاب غير المشروط من لبنان أو التعرض لضربات جوية فسحب جيشه وترك عصاباته .

وللعلم أنه هناك 34 عملية اغتيال لقادة لبنانيين قامت بها المخابرات السورية في لبنان منذ تدخلها فيه عام 1976 قبل اغتيال رفيق الحريري ، ونفس العدد بعده .  بدءا بالصحفي سليم اللوزي والمفتي حسن خالد والشهيد كمال جنبلاط  والرئيس الجميّل ، ونهاية بسمير القصير وجبران التويني و وسام عيد … وعندما سألنا عن سبب اصرار شيراك والمجتمع الدولي على التحقيق في هذا الاغتيال بالذات .. قالوا لا يجب أن تستمر سياسة الافلات من العقاب لأن المجرم سيطالكم  أيضا .. فماذا حدث؟؟  لقد طال المنطقة كلها و شمل الشعب السوري كله في أكبر مجزرة في هذا القرن .

هنا  لا يجب أن ننسى شريط الفيديو ( السي دي ) الذي حاول  اللواء غازي كنعان بواسطته أن يبرأ نفسه ، ويعيد تقديم  أوراق اعتماده لتسلم السلطة بدلا من بشار المدان والخارج عن الطاعة ، حيث أقر في الشريط الذي سجله لنفسه بكامل تفاصيل علاقة نظام بشار بالإرهاب في لبنان والأردن والعراق ، وحاول توصيله بعد أن شعر بالمراقبة عبر المعارضة وعندما فشل حاول تسليمه للسفارة الفرنسية ، والذي دفع ثمن افتضاحه طلقة في رأسه منتحرا على طريقة الزعبي الذي انتحر بثلاث رصاصات قناصة أطلقها على نفسه من البلكون المقابل ، وتبع غازي أخوه الذي ربما حصل على نسخة من السي دي ،  فانتحرا أيضا على سكة قطار بذات الطريقة التي انتحر بها خاطف وقاتل الشيخ معشوق الخزنوي الذي لم ينس قبل أن ينتحر على السكة أن يضع طلقة قاتلة في قلبه ، استخرجها من سرق جثته من قبره في الدير  وشرحها وقدم تقريره لجهات دولية .. وهذه الأفلام البوليسية التي تشبه الفانتازيا .. تعبر عن طريقة أبناء مخلوف في التصفية الراقية والارهاب المتحضر  … التي تختلف جدا عن سكاكين داعش المتخلفة . لذلك كان صهرهم أبو سليمان قبل أن يصبح أبو باسل ، يريد تعريفا جديدا للإرهاب بحيث يكون تعريفا طائفيا خاص ومحصور بالسنة دون غيرهم  .

ولا ننسى قصة اختطاف الشاهد الملك هَسّام هَسّام الرقيب في المخابرات العسكرية بعد أن كشف شخصيته لأخيه ادريس المسجون في سجن عدرا الجناح الثالث بتهمة احتيال ، والذي كان يتواصل معه عبر الهاتف فعلم مدير السجن العميد سمير الشيخ ( أبو رامي ) عبر عواينيته وأخفى ادريس وأطلع المسؤولين ، وقام بعدها بمرافقة ثلاثة سجناء شبيحة من كبار مهربي القرداحة وممن تربطهم علاقات وثيقة بآل الأسد  برئاسة المهرب الشبيح محمد علي سلهب ، الذي كان يتحكم بسجن عدرا كيف يشاء ، ويبيع به ما يشاء من ممنوعات ومخدرات ،  وبعد الايحاء بإطلاق سراح أخيه ادريس هَسّام  واستخدامه كطعم  دخلوا الأراضي اللبنانية  واستدرجوا هسام لأطراف مدينة بيروت ، حيث قاموا باختطافه واقتياده مع سيارته لقرب الحدود السورية ثم عادوا به للسجن وصوروا هناك فيلم تراجعه عن اعترافاته وشهادته أمام لجنة التحقيق الدولية والمسجلة في بيروت ، وتم تصوير تراجعه في غرفة العقيد نائب رئيس الفرع ، وبحضور ماهر الأسد شخصيا وهو صديق الفارس الغير ذهبي سمير الشيخ الذي كان يرعى أحصنة باسل الأسد ،  واستمر بعده كشريك لزوجة ماهر الحالية  في مزرعة الخيول ، و أصر ماهر على تكرار براءته شخصيا وعدة مرات على لسان الشاهد الذي شرب طن من الماء لشدة خوفه ..  ثم منح الشبيحة الثلاث وادريس عفوا خاصا وقرب هسام وأخوه من جهاز الأمن العسكري لدرجة أن ادريس تجرأ على انتحال شخصية سائق آصف شوكت وقبض عنه شيك مزور بمبلغ 80 مليون ليرة ، ليعود بعدها للسجن بعد رفضه اعادة المبلغ ، ولذات غرفتي في الجناح السادس 611 حيث تأكدت من تفاصيل هذه القصة التي عايشتها في حينها أيضا حيث جال الشرطة والشبيحة  مع هسام في أجنحة السجن فرحين وهاتفين للقائد ومدير السجن عام 2006.. و هي القصة التي استخدمت لتضليل العدالة الدولية وتشويه التحقيق الدولي في جريمة العصر ..  باشتراك رموز وقادة النظام من رتبة ماهر وآصف .. وفيما بعد منح سمير الشيخ منصب محافظ دير الزور لقمع الثورة فيها تقديرا لخدماته وولائه وهو بكل آسف ابن جبل الزاوية ومدمن على الكوكائين والنساء ، ويستغل منصبه بالسجن لذلك الغرض ويستغل السجناء وبناتهم ، ويبيع في السجن ما لا يقل عن 2 كغ  هيروئين شهريا ما عدا الحشيش والحبوب ويتقاسم ريعهم مع وزارة الداخلية والأمن السياسي .. بأرباح تفوق ال 25 مليون ليرة كل شهر . ( وهذا نموذج عن النظام الذي يجب أن نتصالح معه لمحاربة الارهاب كما طلب منا السفير فورد )

ونتذكر كيف فر شاكر العبسي من المخيم المدمر بسيارة تليفزيون المنار التابع لحزب الله ، والتي دخلت للتغطية الاعلامية وخرجت دون أن تفتش وهي تحمل معها شاكر وبعض أقرب رفاقه ككنز ثمين لا يجوز التفريط بهم من أول استخدام ، وبعدها ارسل لدمشق ليسكن بشقة في مخيم اليرموك بحماية أحمد جبريل وفتح الانتفاضة ، وعندما تزايدت الضغوط وانكشف أمر وجوده ، اعتقله النظام وسمح لوفد أوروبي بلقائه أملا في حصول النظام على صك البراءة من فم العبسي شخصيا ، قبل أن يقوم النظام بقتله بيد ضابط كبير يعتقد أنه من آل  مخلوف أيضا ، وبعد أن اكتشف النظام عدم فعالية كذبته ، دعمها بافتعال تفجير القزاز أمام فرع الأمن العسكري وعلى سوره الخارجي البعيد عن مدخله المكتظ ، بمسرحية مكشوفة ضمن مسرحياته التي يقدم نفسه بها كضحية للإرهاب ، و التي تكاثرت في تلك الفترة وقبلها .. ومنها محاولة تفجير السفارة الأمريكية بقنبلة دخانية و بغاز غير قابل للاحتراق وبسيارة تحمل ( اسطوانات الأوكسيجين )، والتي احترق داخلها  اربعة منتحرين ، ولا أدري لماذا أربعة من ذات الأسرة ، وقبله افتعال حادث المزة مع مهرب للسلاح للعراق بعلم المخابرات ( شلاش حسن .. ونهار ) والذي كان جاري في منفردات الأمن السياسي وسمعت منه القصة كاملة، حيث أجبر على الاعتراف بما لقن به .. مقابل علاج أخوه المصاب والذي اعتقل معه في حادث مطاردة ، ولم يكن يعلم أن أخاه قد فارق الحياة ، و هكذا ألبس تهمة الاعتداء بعدة قذائف آر بي جي على مبنى مهجور للأمم المتحدة !! باسم القاعدة ؟ ، مع أنه كان بجانب السفارة الايرانية ومقابل السفارة الكندية ، و بجوار عدة سفارات غربية امبريالية صهيونية شاركت  في حرب العراق .. فأي قاعدة هذه التي لا تدرس أهدافها … وللعلم هو طالب سنة أخيرة للطب البيطري وله العديد من الأخوة الصغار كان يذكرهم دوما ، وتطوع للحرب في العراق على يد شيخ في دمشق لكنه عاد من هناك بمهمة نقل السلاح لهم من مضايا ، وباستخدام ميكرو باص يعمل على خط خان الشيح ، وقد كان مصابا في رجله وهزيل قبل سوقه للإعدام . وكنت أرقبه من ثقب في باب زنزانتي عندما يمر بالكريدور ، وأتكلم معه في آخر الليل .

وهكذا وبنفس الطريقة والعقل الارهابي الجبان ( بعكس الداعشي الشجاع ) يتهم النظام تنظيم العبسي الذي كان برعايته وحمايته  بتفجير القزاز ، وينفذ حكم الاعدام بثمانية أشخاص بينهم ابنة العبسي ، التي خاف أن تفضح تعاون النظام مع والدها قبل  تصفيته ، بعد اجباره على تقديم شهادته التي تبرئ النظام السوري من جرائم ترهيب لبنان للوفد الأوروبي الساذج .. وجرى تنفيذ الحكم  في سجن عدرا حيث كنا فيه حينها  على ايام العميد نبيل الغجري رئيس السجن ، وبحضور العقيد زياد بكرو ضابط أمن السجن . وشريك سمير الشيخ بالمتعة  وبيت سره كونه ابن بلده ومدمن مثله .

ولنتذكر كيف جند النظام و وظف مصعب الزرقاوي رفيق العبسي وزميله في ترهيب الأردن ، للعمل على ترهيب العراق أيضا ،  وهو الذي روع سكان العراق وأحرق مقدساتهم ودور عبادتهم ، وهو صاحب فكرة  مشروع الدولة الاسلامية في العراق ، قبل تمكن الأمريكان من اغتياله ، وقبل أن يعلن عن قيام الدولة الاسلامية في العراق ثم الشام المعروفة اليوم بداعش …  و نتذكر كيف أمد النظام مصعب الزرقاوي وتنظيمه بالسلاح والعتاد والخبرات ومئات السيارات المفخخة التي جهزت في مكسرة ذو الهمة شاليش  بالقرب من أبو الشامات عند مفرق التنف ، وفي ثكنة عين الصاحب على طريق التل ، التابعة لأحمد جبريل الخبير الأول في التفخيخ في المنطقة ، والتي قصفها الطيران الاسرائيلي في رسالة ردع للنظام السوري ردا على تهريب السلاح لحزب الله  الارهابي .. وخدمة للأمريكان المتمرغين في وحل العراق بنفس الوقت  … والذين رحبوا بالعملية .

ونتذكر كيف كان النظام السوري يجمع المتطوعين من كل دول العالم ويرسلهم للعراق ، وكيف عمل مشايخ النظام ومنهم المفتي الحالي حسون ، على تجنيد وارسال آلاف الانتحاريين واستجلابهم من كل حدب وصوب ، وبرعاية أبو القعقاع ، الذي اغتاله النظام فيما بعد وأدا للسر أمام مسجده وأتباعه .. وغيره وغيره وعلى عينك يا تاجر في أكثر من 300 مسجد في عموم سوريا ، و كذلك تسهيل نقل السلاح وقسم منه من مخازن حزب الله في لبنان عبر الأراضي السورية وبحافلات نقل عامة وعلى الطرق العامة نحو العراق وبتنسيق كامل مع أجهزة الأمن السورية وبعلمها ،

وعندما عدت من زيارتي للولايات المتحدة واعتقلت في المطار يوم 7/11/2005 . كانت أول كلمات علي مخلوف رئيس فرع التحقيق  ( الفيحاء ) معي هي : هل تعلم أن كل ما يريده  منا أصدقاؤك الأمريكان ، هو أن نتوقف عن ارسال المجاهدين للعراق ، ونحن لن نفعل ..  وهذا ما نقلته حرفيا بعد ايام عندما التقيت ممثلة السفارة الأمريكية كاري ، أمام مكتب قاضي التحقيق في نيابة مدينة دمشق .. ، وخطيا عبر ورقة سلمتها للمحامي مهند الحسني أثناء جلسة الاستجواب وطلبت منه تسليمها للسفارة الأمريكية ….  وعليه فان العميد علي مخلوف الذي كان على تواصل مباشر مع بشار أثناء التحقيق معي ، هو من أقر بعظمة لسانه ولي شخصيا بدعم وارسال الدواعش للعراق ..

وعندما فجرت هذه الدواعش مباني الحكومة العراقية . أربع وزارات أساسية بيوم واحد  أرعد المالكي وأزبد وصرح المالكي وزيباري أيضا أن نظام الأسد يريد تدمير الدولة العراقية ..  و طالب بتدخل مجلس الأمن وتقدم بشكوى رسمية للمجلس يتهم فيها سوريا وبشار الأسد بالذات بتدمير العراق عبر دعمه للإرهابيين الذين يقودهم رجال من مخابراته .

( ما أشبه الأمس باليوم ؟؟)

كل هذه الملفات المتعلقة بسلوك النظام الارهابي ودعمه للإرهاب طويت ونامت ، وذلك قبل بكثير من ممارسته كل أنواع الترهيب والابادة بحق شعبه بعد الثورة …

فلماذا سكت العالم  ويسكت عن هذا النظام الارهابي والداعم للإرهاب تاريخيا ؟ 


 

3-لماذا سكت العالم عن ارهاب نظام الأسد

بعد التصعيد الذي افتعله حزب الله والذي تسبب في حرب 2006 و أثناءها ،  بدأ النظام السوري التفاوض مع اسرائيل والغرب على وقع الحرب في جنوب لبنان ، ذلك التفاوض الذي بدأ بفرض قوات حفظ سلام تحمي اسرائيل في جنوب لبنان اسوة بالجولان ، وتخْرج حزب الله نهائيا من المواجهة ، واستمر هذا التفاوض بعد فترة مع الأسد عن طريق صهره آصف شوكت الصديق المقرب للمخابرات العسكرية الأمريكية و قبلها الفرنسية منذ أيام مرافقته لبنت حافظ بشرى كحارس لها مندوب من الحرس الجمهوري في باريس أثناء دراستها الصيدلة هناك ، ومن ثم كعشيق ،  قبل أن يصبح زوجا بعد جهد جهيد ومقتل باسل فقط … و اشترط الغرب  عليه كتعبير عن حسن النية توقيف العناصر الجهادية القادمة لسوريا أو العائدة من العراق ، فصار يعتقلهم في سجن صيدنايا العسكري ومن دون محاكمات أو تهم ، الأمر الذي لم يوافق عليه جزء من النظام .. وكذلك ايران التي حركت ماهر الأسد ضده .. فما كان من جناح آصف الا أن سهل عملية اغتيال مغنية الذراع القوي لإرهاب حسن نصر الله … ذلك الاغتيال المسرحي المحير حتى الآن ، و الذي حدث في سوريا وقرب مقر آصف ذاته ، وازيلت كل معالم العملية بماء سيارات الاطفاء بعد أقل من نصف ساعة ، تيمنا بما فعله اميل لحود بعد عملية اغتيال الحريري … يومها اتهمت أوساط في الحزب وأسرة مغنية النظام السوري ، الذي اتهم بدوره الموساد الذي قبل التهمة متباهيا !! والذي خرج بتصريحه الشهير تعليقا على العملية  ( أن الذي يتكلم لا يعرف والذي يعرف لا يتكلم) .

 وبعدها قام النظام  بتسليم مفاعل الكبر النووي الذي يعمل بالماء الثقيل وهو الجزء النهائي والعسكري من المشروع الايراني – السوري  النووي (السلمي!! ) الذي أطلقه منذ زمن بعيد حافظ أسد بخبرات كورية شمالية في ايران وسوريا ، مع فرع في ليبيا ، و صار بسببه يتحدث عن الاحتفاظ بحق الرد وانتظار تحقق التوازن الاستراتيجي مع التمسك بخيار السلام ، الذي يحرس بقاءه وأولاده في السلطة ، بوجود السلاح النووي الرادع لأي تدخل خارجي ، والكيمياوي الرادع لأي ثورة داخلية …   حيث كان من المفترض أن يتم فيه تحويل اليورانيوم المستنفذ ( أي نواتج المفاعلات السلمية الظاهرية في ايران )، تحويلها سرا في سوريا بوجود الماء الثقيل إلى بلوتونيوم مشع قابل للانفجار بكمية زهيدة وهي 6 كغ فقط ، تكفي لصنع قنابل تكتيكية نووية ، في حين يحتاج اليورانيوم لتخصيب 96% وكمية الف كيلو غرام لتفجير قنبلة تشبه قوة قنبلة هيروشيما …  و قد قام بشار بهذا الفعل  عملا بنصيحة القذافي السباق على هذا الطريق في تسليم السلاح مقابل فك العزلة ، والذي كان آصف يتردد عليه بانتظام ، وسيكررها النظام مرة أخرى عندما سيسلم السلاح الكيميائي للأمريكان ، وحافظ القذافي  على تعاون أمني وعسكري مميز مع نظام الأسد ، الذي حاول منع سقوط حليفه بكل الوسائل عند قيام الثورة الليبية حيث أرسل البوارج محملة بالعتاد والطيارين لقتل الشعب الليبي ( تحت ذريعة اعادة المدنيين ) … وهكذا جرت صفقة تسليم الكبر بوساطة أوربية وعربية ، وبمقابل أن تسحب محكمة الحريري اتهامها للنظام ، مما دفع ميليس للاستقالة من عمله ، وعلى ذلك اقتصر الاتهام على 5 عناصر من حزب الله فقط (لم يسلموا حتى الآن )، ولم تعرض نتائج التحقيقات ووثائقه على الرأي العام حتى بعد التلاعب بها ، وهو الفعل المشين بحق العالم ونظامه وأمنه .

و بعدها تمت محاولة فتح الباب ليستعيد النظام السوري تموضعه ضمن منظومة المنطقة برعاية الغرب ، ومن هنا توطدت علاقة ساركوزي بالأسد الولد ومعه امير قطر السابق ورئيس وزراء تركيا الذي كان يدير عملية التفاوض بين الأسد وأولمرت شخصيا ، ( وقتها كان أولمرت يدافع عن بقاء الأسد ويقول للأمريكان أن تحول سوريا للديمقراطية قد يفقده الشريك المحتمل للسلام ، لأن الديمقراطية أتت بالإسلاميين للسلطة في كل مكان  جرت فيه انتخابات نزيهة . وهم سيرفضون حتما توقيع السلام،  بعكس الأسد الذي وعد بذلك ، وهكذا طالب أولمرت الغرب بالتغاضي عن عملية الاصلاح الديمقراطي في سوريا ، على الأقل لما بعد توقيع اتفاق السلام ، بينما اشترط الأسد دوما ضمان بقاءه في السلطة لتوقيع الاتفاقية التي هي شبه منجزة ومودعة في خزائن الخارجية الأمريكية بانتظار تحقق الشروط المرفقة وهي من قبل النظام : ضمان بقائه في السلطة فقط ، ومن قبل الغرب الذي قبل شكلا ضمان بقائه ( لا أدري كيف يضمن دعاة الديمقراطية  ذلك) لكن اشترط قطع صلاته مع ايران والارهاب فعليا …

كذلك سرب النظام عن طريق الفرنسيين خطة حسن لعملية اغتيال أولمرت في مطار اللد باستخدام جندي عربي يخدم في جيش الدفاع ( وهي العملية النوعية التي وعد بها حسن مرارا وتكرار ردا على الدمار الذي حصل في الجنوب والضاحية وعلى الاغتيالات والغارات التي استمرت بعد دخول الأمم المتحدة وفصل القوات ، يومها أجلت زيارة ساركوزي عدة أيام ثم (انتحر ) الجندي العربي أثناء صعود ساركوزي درج الطائرة وأخفي أولمرت على عجل في سيارته المصفحة … وبناء عليه صار من الواجب دعوة الأسد لمنصة الشرف في الشانزليزيه لحضور العرض العسكري في اليوم الوطني الفرنسي ، يومها تحرك أولمرت على المنصة لتقديم الشكر الشخصي لبشار  ومصافحته وأخذه بالأحضان ، لكن الجبان اختبأ وراء  شخص أمير قطر الضخم وتهرب من المصافحة ، و تهرب من تقبل الشكر لإنقاذ حياة أولمرت تقربا من الغرب وتعبيرا عن اخلاصه لهم ، مع الاحتفاظ بصفة ممانع ومقاوم ليزاود بها على شعبه ، ويبقى قادرا على اتهام من يريد بالعمالة والارهاب .. ولماذا الشكر… فلا شكر على واجب كما يقال، فهو لم ينته بعد  من مفاعيل مصافحة الرئيس الاسرائيلي في جنازة البابا  .

مع أننا في ربيع دمشق كنا قد تفاهمنا مع الغرب  على ضرورة حصول الاصلاحات قبل فوات الأوان ، ويومها أذكر أنني حذرت ومن دمشق بأن مستقبل سوريا سيكون صوماليا ، فاستغرب الحضور وبينهم رياض سيف والذين كانوا متفائلين عشية سفر بشار لزيارة باريس بدعوة من صديقه ومتعهده جاك شيراك الذي كان يعتبره بمقام ابنه ( كما نقل لي فيما بعد بوغدانوف عندما ذهبت لإقناعه بعدم استخدام روسيا الفيتو في وجه الثورة السورية ، والذي أكد لي أن الأسد حليف الغرب وليس حليفهم ولم يفكر بزيارة روسيا حتى طردوه من لبنان ) وقدمه شيراك للعالم كرجل حداثة واصلاح ، ليكتشف متأخراً أنه ارهابي قاتل ، و نبهت يومها  أنه بغياب الاصلاحات الجدية الفورية  ستدخل سوريا في حرب أهلية حتما ، وبالنتيجة  وبعد سجن ثلاث سنوات انفرادية  ، سافرت إلى ديارهم للتفاهم معهم من جديد على تخليص سوريا  من خلال جولتي على العواصم في أوروبا وأمريكا عام 2005 ، والتي توجت بإعلان البيت الأبيض اثر زيارتي له ، عن اعتماد سياسة تقول أن ادارة بوش تدعم ارادة الشعب السوري في التغيير الديمقراطي … (التغيير وليس الاصلاح ) ، والتي دخلت بسببها السجن وحكمت لمدة  15 عاما أخرى ، ( وهنا لا يجب أن نستغرب أن يدخل اولمرت السجن بقية سنوات عمره بتهمة جنائية .. نظرا لنمط تفكيره و نوعية قيمه التي حكمت قراره تجاه الشعب السوري ) فهو شخصيا قد مانع الضغوط الأمريكية التي كان يفترض بها أن تنقذ سوريا مما سيحصل لها  وهو الوحيد الذي كان قادرا على لي ذراع الادارة السابقة … وفي النتيجة ها قد حصل ما هو أسوأ كثيرا مما توقعنا.. ومما كنت قد حذرت منه بوثيقة قدمتها للإدارة الأمريكية ونشرتها عام 2005 بعنوان خطة الطريق نحو الديمقراطية في سوريا .. وأخرى بعنوان الديكتاتورية والارهاب . راجع تاريخ الرابط والنص ..

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=78112

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=78111

ومع كل ذلك ..  وعند اندلاع الثورة تمنت الادارة الأمريكية الجديدة مرارا وتكرارا على نظام الأسد قبل كل يوم جمعة عدم قتل المتظاهرين ، خوفا على شريك  السلام المفترض ، لكن الأسد أمعن وتمادى ، حتى أحرج الادارة ، وعندما أعلنت وزيرة الخارجية أنه يتجه لفقدان الشرعية .. وُبخَت كلنتون وسحب تصريحها من التداول ، لكن بعد فترة اضطر أوباما للقول أن الأسد فقد شرعيته … يقصد لتوقيع السلام وليس شرعيته لحكم سوريا وقتل شعبها  …. لذلك استمرت المحاولات المستميتة لإنقاذه بكل الوسائل حتى عبر صفقة جنيف ، التي رعاها وصممها صديق الأسد  الشخصي الوزير جون كيري ، والتي اعتبرت أن الحل السياسي التفاوضي هو الحل الوحيد المسموح به ..

وحتى بعد أن تجاوز النظام لكل الخطوط الحمر والقوانين والمعاهدات الدولية واستخدم الكيماوي المحرم بمعاهدة دولية تضمنها روسيا وأمريكا وتستوجب التدخل تلقائيا وبشكل ملزم ولأكثر من ثلاثين مرة ، وبعد تجاهله الضربة التحذيرية في قاسيون . اكتفى الغرب بسحب الجزء الأكبر من هذا السلاح ، وقدم الفرصة من جديد لهذا النظام ليستعيد أنفاسه عبر قطع الدعم عن الجيش الحر كشرط لتنفيذ هذه الصفقة ، مما وتر العلاقات جدا بين دول الخليج وأمريكا ، ومما سمح بالتالي بتمدد الحركات المتطرفة أقصد داعش  والنصرة ذات المصادر الخاصة والتي لا تمر عبر دول الخليج كما يصر المفترون ، ولو كانت تمر لتوقفت كما توقف غيرها .. تمددت داعش نتيجة صفقات أوباما مع ايران والنظام مستفيدة من تفكك وضياع الجيش الحر وتآكله بسبب انقطاع الدعم عنه بقرار وتهديد أمريكي لدول المنطقة .  و مستفيدة من تخلي المعارضة عن خيار اسقاط النظام بأمر خارجي أيضا ، ومراهنتها على حل سياسي مع النظام الارهابي  عبر جنيف ترضى عنه وتشارك به ايران ، مما دفعني للاستقالة من الائتلاف مع 44 عضوا لأنه خان مبادئه  وعقده الأساسي الذي قام عليه وهو اسقاط النظام … ومع ذلك ورغم انبطاح المعارضة  فشلت جنيف  بسبب تعنت النظام مرة أخرى، فهو المطمئن للفيتو الروسي والدلع الأمريكي . والذي يبدو اليوم أنه قادر على الاستمرار في ترهيب وقتل الشعب السوري لفترة زمنية طويلة أخرى، بالتعاون أو بالتجاور مع داعش ربيبته وشريكته ومصدر شرعيته .. بينما يسمح له العالم بالاحتفاظ بكميات محدودة من السلاح الكيميائي لحماية كيانه الانفصالي لو هدد وهو ما نتوقع حصوله لو فكرت داعش بالتقدم غربا وليس جنوبا .. ليصبح النظام ذاته أداة البعض لقتل وتدمير وتمزيق سوريا وشعبها .. ومع ذلك نعتبر أن خروج السلاح الشامل من يد النظام هو هدية ثمينة للثورة السورية التي تستطيع الاستمرار دون الخوف من ابادة الشعب بيوم واحد . من قبل من؟ .. النظام الذي يحارب الارهاب ؟؟ .. وأي ارهاب أكبر من استخدام الغاز السام على مدينة بحجم دمشق .. وأي ارهاب أكبر من تصفية أكثر من 100 الف معتقل بطرقة منهجية : تعذيب وجوع وخنق وحرق وهم خيرة شباب ورجال سوريا الذين عرض الوثائق المتعلقة ب11 الف منهم المنشق ( سيزر ) .. وأي ارهاب أكبر من تساقط البراميل المتفجرة على المدن والأحياء والمخيمات بشكل يومي ودون هوادة لسنوات …

ومع ذلك يتعطل المجتمع الدولي ،والمحكمة الدولية ،ومجلس الأمن ،  ولا تتهم الدول المعطلة برعاية وحماية الارهاب ، بل يتهم الشعب السوري المحاصر والمشرد بالإرهاب ، ثم  يتهكم الرئيس أوباما على ثورته التي يشارك فيها الفلاح والطبيب ويدعوه للاستسلام ؟؟؟ وكأن الثورات تقوم بها الجيوش النظامية ؟؟  ليجد كل من يرى ذلك المشهد أن ما تقوم به داعش متناسب مع محيطه وترجيعا له ولا يختلف عنه ، بل يحمل الجواب الشافي على هذه العنصرية البغيضة والاستهزاء البشع بمعاناتنا وآلامنا .

والدرس الذي يجب استخلاصه هنا أن تبرير بقاء الأسد هو شرعنة لداعش ، والحفاظ عليه هو غذاء لها . والغاء وتعطيل العدالة الدولية يفتح بوابة الإرهاب …. لأن الإرهاب هو آخر وسائل الضعيف في مواجهة غطرسة القوي .


 

4-  تعرقل الصفقة مع الأسد

في النتيجة كذّب الأسد و ماطل دون توقيع السلام ، فهو لم يعد متحمسا كثيرا بعد افلاته من محكمة الحريري ، قبل أن يشن الاسرائيليين الحرب على غزة عام 2008 مما وتر العلاقات بين الوسيط التركي واسرائيل ، وهو ما أعطى لإيران الفرصة لتعزيز علاقتها من جديد مع بشار ، الذي طالبه الغرب، و أصر الأمريكان، على قطع علاقاته بإيران ، كشرط للقبول به من جديد ورفع العزلة عنه ، وهو ما لا يقدر عليه نظرا لتغلغل ايران في النظام ، وتورطه معها في جرائم ارهاب في المنطقة، تهدده بفضحها ، و هكذا أجبرته ايران على تحجيم صهره آصف الذي جُمدت صلاحياته ، فسرت الشائعات حول لجوئه لتركيا أو احتمائه في حصن الأمن العسكري في حلب ، والتي انتهت بوضعه تحت الإقامة الجبرية التي استدعت تدخل ساركوزي لإطلاقه ، يومها أطلق معه د. عارف دليلة من السجن، بنتيجة زيارة قمة رباعية مميزه للأسد قام بها رئيس فرنسا و قطر وتركيا … وقد كان آصف يرعى عملية تنظيم معارضة لطيفة شكلية ، تمثلت في تيار اسلامي معتدل يقوده عدد من المشايخ الرسميين … برز منهم فيما بعد الشيخ معاذ الخطيب وعماد الدين الرشيد وعدد من اعضاء هيئة علماء الشام  الحالية ، كما وكلفه الأمريكان برعاية تيار معارضة ليبرالية عبرت عنه وثيقة  اعلان دمشق التي تحولت لشبه دكان عندما استُخدم  الاعلان الذي هو  وثيقة مبادئ كنادي مغلق محتكر  من عدة أشخاص أغلبهم ينتمون لأحزاب شمولية لم تعرف الديمقراطية يوما ، وتحتاج هي للتغيير الديمقراطي قبل النظام ..  فانقسم النادي الشمولي لقسمين واحد بزعامة رياض سيف عن ربيع دمشق ورياض الترك عن اليساريين والبيانوني عن الإخوان ، وهم من سيشكلون فيما بعد المجلس الوطني ، والآخر بزعامة حسن عبد العظيم الناصري القومي وبقية الشيوعيين اللينينيين وممثلي الأقليات ، وهم من سيشكلون هيئة التنسيق بزعامة عبد العظيم ومناع وكيلو وسارة والسقال وكيله قبل انقسامها لمنبر وهيئة بسبب خلافات  شخصية.. أي جماعة فندق السمير أميس وصحارى وأنصار الحوار مع النظام في سوريا .. وخارجها ، و ومن ثم أعضاء الكتلة الديمقراطية التي ستنجب الجربا والبحرة بعد أن تضاف بالقوة والاكراه للائتلاف الذي تشكل من رموز المجلس الوطني ذاتهم وبتحالفاته السابقة . والذي فُرض عليه ضم ممثلين عن هيئة التنسيق عبر ضم الكتلة الديمقراطية ، و ممثلين عن الكورد عبر ضم المجلس الوطني الكوردي، ثم أمر باعتماد البحرة كبيرا للمفاوضين ومن ثم رئيسا للائتلاف لغاية في نفس يعقوب !!. من دون أن يكون معروفا قبل ذلك في أي وسط سياسي أو غير سياسي، لا هو ولا الجربا الذي سبقه ، وهكذا تغيير ميزان القوى داخل الائتلاف ومرر قرار دخوله في مفاوضات جنيف بصعوبة وبالتدليس والرشوة والتزوير الواضح والتلاعب .. وسهل محاولة إنتاج صفقة مع النظام . ( جسد سياسي انتقالي يرضى عنه الطرفين بالتفاوض على ايقاع البراميل المتفجرة).والتي راهن عليها كيري ووضع وراءها كل ثقله . رغم أنه هو من قال لي ردا على سؤالي وذلك  سبق انعقاد جنيف بستة أشهر ( ما هو احتمال نجاح جنيف برأيكم ؟.. قال 5% )

 مع توتر العلاقات بين الأسد والغرب ، قام الأسد بتحجيم صهره واعتقال بعض رموز المعارضة (التي يرعاها هذا الصهر تقربا من الغرب ) خاصة ممن يطالب بهم الغرب عادة لكي تتدفق الوفود لزيارته ( ويقول لهم مقولته المشهورة من يريد عزل سوريا يعزل نفسه ) ، أي لفتح باب التفاوض ، ولكسب أوراق جديدة فيه ،  كما أجبرت ايران الأسد على  تصفية صديقه وذراعه الأيمن اللواء محمد سليمان في شاليه الرمال الذهبية على شاطئ طرطوس .. عندما كان الأسد في طريقه لزيارة طهران كشرط ومقدمة لاستقباله هناك ، لكون محمد  هو من أشرف شخصيا على تسليم مفاعل الكبر النووي الذي كانت كوريا الشمالية تبنيه سرا ، والذي قصفه الطيران الاسرائيلي بشكل مسرحي بعد مغادرة الحوامات المجهولة الهوية  التي حملت التجهيزات منه .تمويها لما جرى من صفقة تسليم …  وافق عليها الأسد ونفذها محمد سليمان ، لكن الأسد قال للإيرانيين أن هناك اختراق حصل في لندن ، ثم اعترف بوجود خيانة . وهكذا كسر الشربة برأس صديقه المخلص كعادة كل المستبدين ، مكررا قصة رأس المملوك جابر . واتهم الموساد كالعادة  وكوماندوس من البحر … ومشى بجنازته المهيبة كل من بشار وماهر . مع أن المجتمع الدولي حزن عليه وخسر ووسيطا ظريفا بينهم وبين الأسد  يحمل لهم المفاجآت السارة ..

وتراجع دولة الرئيس سعد الحريري عن اتهامه للنظام بترويع لبنان وقتل والده وخيرة شباب البلد ، و أجبر على القيام بزيارة مذلة لقاتل والده ، والمبيت في قصره في دمشق ، والتي سبق وتهرب السنيوره من تنفيذها في آخر لحظة قبل عام ، بعد أن انتظرها النظام طويلا وبفارغ الصبر وحضر لها جيدا ، بإطلاق مبادرة اعلان دمشق -بيروت ، بيروت- دمشق التي هندسها آصف ونفذتها المعارضة المتعاونة معه. لتظهر المصالحة وكأنها نتيجة مطلب شعبي ، وليس صفقة مشينة مع قاتل على حساب دماء شهداء لبنان  وسوريا والعراق ، لكن رفض السنيورة فاجأ النظام ووضعه في ورطة وأجبره على التبرؤ من الاعلان ، فاعتقل بعض موقعي الاعلان وأطلقهم بعد عدة أيام فقط . ومع ذلك لم يخجل النظام من العودة  لاعتماد ذات الورقة التي سجن الناس بسببها عند زيارة الحريري ، لأنها هي مبادئ صفقة المصالحة التي تدخل فيها أمراء من السعودية بزياراتهم المعلنة والسرية لدمشق يومها ، والتي حدثت بالرغم من توتر العلاقات رسميا بين الدولتين بعد قتل الحريري وتصريحات الأسد عن أنصاف الرجال .

لقد تم التغاضي عربيا ودوليا عن كل  جرائم النظام وارهابه ضمن استراتيجية  تسهيل الخروج الأمريكي من ورطة العراق، التي تحدث عنها الاعلام السوري متباهيا بنجاح سياسته في دعم الارهاب في العراق .. وذلك على لسان عماد فوزي الشعيبي ، و سمير التقي ،الذي كان مستشارا مقربا من الأسد وأحد الخبراء الذين أرسلهم لمرافقة المتهمين من الضباط السوريين في تحقيقات ميليس في جنيف  … وتبجح بها تليفزيون الدنيا طويلا  ، وحولها لانتصار للأسد ولنظرته الثاقبة ( exit strategy  ) ، وهو الدرس الذي فهمه الأسد من السياسة الأمريكية الرخوة ( أي امكانية الخروج من الحصار بارتكاب المزيد من الارهاب) فتحصيل الأهداف ممكن باستخدام الإرهاب ، بينما المزيد من الارهاب يؤدي للإفلات من العقاب. وعندما استخدم بشار السلاح الكيميائي رغم تهديد رئيس أمريكا عوقب بسحب سلاحه الكيماوي فقط ، مع السماح له باستخدام غيره لذات الغاية . فتثبتت القناعة هذه عند الأسد وايران وتعلمها منهما بوتن أيضا وصار يمارسها في شرق أوروبا محضرا الأجواء لحرب دولية جديدة …

فشل الأسد في تنفيذ شرط التباعد عن ايران .. فايران حليف لا يمكن للأسد التخلي عنه ، وهو لا يريد عمليا  ، فكل ما كان  يريده هو تحسين صورته عند الغرب دون التخلي عن أوراقه مع ايران والممانعة ، وكذلك روسيا ، لكن ادارة بوش حافظت على رفضها الانفتاح على الأسد الولد ، إلى أن جاء أوباما بسياسته الجديدة التي تعتبر ايران مشروع حليف استراتيجي في المنطقة وليس عدو ، وهذا سيكون على حساب الوجود العربي في شرق المتوسط  الذي تجري تغيير خريطته بسرعة وفقا لنظرية الفوضى المتحكم بها … وبناء عليها أمر أوباما بعودة السفير لدمشق من دون موافقة الكونغرس ، وباستعمال قانون استثنائي يتطلب التجديد كل عام . لكن الثورة السورية لم تمهل أوباما للقيام بالمزيد من التقارب مع النظام .

وهكذا تحكمت ايران المتوجسة من سلوك النظام الانتهازي  بالمزيد من  مفاتيح الحكم في سوريا وبالدولة العميقة . ونصحت الأسد بعدم تقديم تنازلات للثورة ، وساعدته على الاستمرار في قمع الشعب السوري ، وورطته أكثر وأكثر بسفك الدماء ، لتزيد من عزلته عن الغرب ، وتبعيته لها  وتحكمها به ، وورطت معه الطائفة العلوية بصراع سيصعب عليها  أن تخرج منه ، وهي تحاول أيضا توريط بقية الأقليات في النزاعات الأهلية خدمة لمشروعها في الهلال الشيعي … وبالتالي ضعف تيار الشرع الذي يرفض الحل الأمني، وأدخل الحجز الاحتياطي ، وكذلك ازداد ضعف آصف وانتهى بتصفيته ، بتفجير خلية الأزمة ، ضمن عملية انتقام حسن من قتلة مغنية التي وعد بها  وأقسم عليها . وفهم بشار الرسالة وفهم أن رقبته الطويلة تحت رحمة ايران ،  وهو ما لمحت به بشرى أرملته التي لجأت لدبي التي استقبلتها لهذا السبب … و بعد تفجير خلية الأزمة دخلت عناصر حزب الله والحرس الثوري المعارك مباشرة ومن دون تورية ، ومن دون خضوعهم لأوامر عمليات محلية بل تحكمهم هم بغرف العمليات وادارتها .. وهكذا حتى أعلن  عن دخولهم علنا بعد ضربة قاسيون ، حيث أعلنوا بأنفسهم كميليشيات شيعية أجنبية تحرير القصير السنية من أهلها ورفع رايات الحسين على مساجدها والاتجاه نحو القلمون وحمص وريف دمشق وصولا للجولان لاستخدامه منصة ترهيب لإسرائيل وقت الحاجة ،كما كان يفعل حافظ من خلال جنوب لبنان ، مما استدعى تنفيذ غارات اسرائيلية على التلال الحمر ومساعدة الثوار على التمسك بها .. وهذا كان  جواب النظام على تحذيرها .. والذي لم تفهمه الادارة الأمريكية  المتيمة برائحة الأسد . والتي استمرت بالتفاوض مع ايران وتقديم التنازلات أمامها على وقع الموت والدمار في سوريا .

وبالعودة لموضوع داعش ، وبعد أن طال اعتقال من جلبهم النظام ودربهم ليرسلهم للحرب في العراق ، على يد آصف شوكت الذي أراد أن يعبر  عن حسن نيته باعتقالهم .. وبعد أن قام النظام بتصفية قسم منهم  في سجن صيدنايا عبر افتعال قصة الاستعصاء بالتزامن مع انعقاد القمة العربية في سوريا . تلك العملية التي قتل فيها 450 من المجاهدين المهاجرين والأنصار  في السجن ومنهم من صفي فيما بعد ، ليجرج من تبقى منهم ويقبل التعاون مع الأمن ، ويخرج معهم تيار السلفية الجهادية السوري ، أو ما يسمونهم جماعة التكفير والهجرة ، وقسم منهم تعاون مع النظام أثناء السجن ، ليخرجوا معا من السجون بعد اندلاع الثورة السورية بأشهر قليلة فقط ، وفي عز حملات الاعتقال الهمجي والعشوائي ، وبعفو عام يشمل لأول مرة مواد أمن الدولة ( وقد شملني أيضا معهم ، وخرجت بمفاعيله في نهاية عام 2011 كآخر سجين ضمير سابق للثورة ، بعد أن أنهيت تنفيذ نصف مدة أحكامي ) ،

وهكذا فإن الدفعة الأساسية من كتلة داعش أطلقها النظام من سجونه ، ليعاود استخدامهم وزرعهم وتوظيفهم في خدمة النظام ، الذي يريد أن يلصق بوجودهم صفة الارهاب على الثورة السورية ، ويحقق غايات أخرى مختلفة منها لم شمل الطائفة حوله وتخويفهم ، وابعاد الأقليات الأخرى عن التعاطف مع الثورة ، ومنها مثلا استخدام عملائه من الاسلاميين في تجميع المقاتلين والسلاح تحت قيادة متشددة وصارمة شكلا .. لكن من دون القيام بأي جهد عسكري فعلي ضده ، بدعوى عدم الجهوزية أو غيرها من حجج نسمعها  ممن بقي على علاقة مع النظام بطريقة أو بأخرى من قيادات المجموعات والجيوش والجبهات ( الاسلامية ؟ )  المدسوسين من مخابرات النظام …. وبنفس الوقت يخرج نظيرهم من سجون العراق أيضا ، بحجة هروب مزعومة لأخطر ألف شخص حسب رواية المالكي ، وقبلها خروج جماعي غير مدروس من سجون الاحتلال الأمريكي .. حصل كل هذا التغيير  الاستراتيجي بعد اقتناع النظام السوري والايراني أنه لن يستطيع اعادة الشعب لحظيرة الطاعة ، لذلك صار يحاول الاحتفاظ ببعض المناطق واستعادة بعض الشرعية ،ليس كحاكم لكل سوريا ، بل كزعيم لميليشيات تدافع عن الأقليات المهددة من ارهاب السنة وبعبع القاعدة .. وبدأت الدول كلها تتخلص من المجاهدين وترسلهم عبر ذات الفرق التي عملت أيام  الحرب في العراق التي سبق واستعملت كحقل استنزاف للتيارات الجهادية العالمية كما تستعمل سوريا اليوم …  وتعاونت كل الدول كالعادة للخلاص منهم في المحرقة السورية ( أكثر من 2000 أوروبي و 400 من المانيا وحدها ) ، وعلى عينك يا تاجر وبمساعدة أجهزة المخابرات في الدول الشقيقة والصديقة جرى ترحيل كل المتشددين والارهابيين المحتملين من عواصم العالم نحو سوريا .. وتدفق عليهم المال والسلاح والمعلومات وزرع بينهم العملاء والجواسيس لدرجة أننا اذا طالبنا استخبارات كل الدول سحب عملائها من داعش ، ربما لن نجد في هذه المنظمات أحدا يقتل أو يقود  … وارتفع مستوى التنسيق الأمني بينها وبين النظام الأسدي ذاته ، والذي سلمها بدوره المناطق والقطعات و المستودعات تباعا ومن دون حرب ، متخليا عن المناطق السنية البعيدة والصحراوية ، ومتجنبا أي احتكاك عسكري جدي بها إلى ما قبل شهر ، وهو ما يزال يسمح لها بحرية الحركة خاصة نحو الجنوب ويحاول مساعدتها للانتقال هناك لتهديد الأردن ومن بعده دول الخليج . دافعا بها بعيدا عن شريط المدن الرئيسية  التي يركز على الاحتفاظ بها مع مليشيات ايران ولبنان والعراق الشيعية وقطعان الشبيحة  ، والغريب العجيب أن داعش ما تزال تزوده بالنفط والحبوب والكهرباء ، وما يزال يمتنع عن قصفها أو استهدافها . وقواته تعمل بالتوافق والتنسيق معها لحصار حلب  ومؤخرا ريف دمشق ؟؟؟

نذكر هنا أن داعش بشكلها القديم ( النصرة ) قدمت خدمة جليلة للنظام في الصاق تهمة الارهاب على المعارضة المسلحة ، خاصة عندما أعلن أميرها وبشكل مفاجئ مبايعته للظواهري ، عشية انعقاد جلسة للاتحاد الأوروبي لمراجعة سياسته في دعم الثورة السورية، حيث كنا ننتظر من تلك الجلسة تنفيذ الوعد برفع حظر التزويد بالسلاح ( وبهذا التوقيت المخابراتي ) صرنا ميالين لافتراض وجود اختراقات في قيادة وتوجيه هذه التنظيمات من قبل النظام ، وهذا لا يعني اتهام العناصر أو الجميع ، لكن يشير لحقيقة وجود ارتباط ما في مكان ما بينها وبين النظام ، و زادنا تشككا ما تبع ذلك من تنسيق عملياتي بين داعش والنظام كان واضحا جدا بعد الانشقاق عن النصرة ، والصراعات التي دارت بينهما والتي كشفت حجم الاختراقات فيهما الاتهامات المتبادلة ، فأعلنت مجموعات من النصرة أن داعش قد خرجت عن هدفها بنصرة الشعب السوري ، وتحولت لخدمة أجندات غريبة ومشبوهة وهي أدرى وأقرب .. وشنت داعش حربها فقط على الجيش الحر وفي المناطق المحررة وطعنت الثوار في ظهورهم وقتلت الآلاف منهم بطريقة لا تنم عن دين ولا مبادئ  … وحتى الآن هذا هو السائد ولم يغيره تسليم النظام لمواقع في الرقة والدير وشرق حلب لها حربا أو حيلة ، لا ندري !!! فنحن في حيرة من أمرنا .. خاصة بعد تسليمها المسرحي للموصل والرمادي ، فالنظام أدرك أنه لن يستطيع استعادة كل سوريا كما لن يستطيع المالكي حكم العراق السني والكردي .. ولكي لا تشكل عليه خطرا يمكنه أن يفكر بتسليمها لظاهرة فقاعية لكنها مرعبة للغرب وتفرغ المنطقة من سكانها ، وهم مادة وأداة الثورة ضده ..

لقد فعلت الدول ما فعلت في الموصل وسلمت داعش السلطة في المناطق السنية بتنسيق واشراف دولي وتخطيط عالي المستوى مع قيادة اربيل . وصارت داعش اللاعب الأهم الذي يمثل العرب السنة في المنطقة والذي يبرر تفتيتها والتدخل بها وتغيير خريطتها وبالرغم من حجم داعش الصغير وبالرغم من تحركها المتأخر وبالرغم من ضعف سيطرتها على معظم مناطق شمال بغداد  يجري تضخيمها اعلاميا وفعليا .. حتى تكبر للحجم الذي يغير دورها و يقلل امكانية السيطرة عليها ، وبدا ناتج ذلك جليا عندما انكسر الهلال الشيعي عمليا بتحرير معظم المثلث السني من سلطة المالكي ، وانفصال كوردستان النهائي عن العراق بمباركة وحماية أمريكية ، وبالتالي شرعنة انفصال السنة عن الشيعة ، واتمام الفصل الأخير من تقسيم العراق … الذي تحملت مسؤوليته داعش وليس البرزاني ولا أمريكا ؟؟؟  لنقول مبروك … و عقبال تقسيم ايران .. ونخشى أن يكون الهدف القادم فصل المنطقة الشمالية الشرقية عن المملكة السعودية وتوسيع كيانات الخليج وايران على حسابها حيث هي الحاضنة الطبيعية لداعش ، كما نخشى أن تزول الأردن وتتحول لفلسطين الشرقية  الجديدة  خاصة وأن النصرة هي استمرار لفتح وفتح الانتفاضة ثم فتح الاسلام ثم العبسي والزرقاوي وأخيرا الجولاني  والتي ستجد حاضنتها في الأردن ، ونحن نرى ونرصد بقلق تقارب النصرة وداعش واتجاههما نحو الاندماج ، ونرى ونرصد تلكؤ المجتمع الدولي بل احباطه لكل محاولة وقوف جدي في وجهها خاصة في جنوب العراق وجنوب سوريا الذي هو بوابة الأردن والسعودية التي صار وجودهما مهددا  … وكله بقوة داعش … وما أدراك ما داعش ..

والدرس هنا أن كل الأطراف تتلاعب وتستخدم ورقة داعش لصالحها عندما تلوح فرصة بذلك … فلماذا يحسبونها على العرب السنة ويقتلونهم بها ؟ هذا أيضا جزء ثابت من هذه اللعبة ، يوحي بما هو أخبث وأخطر ولا نريد أن نقول أكثر لكننا سننتظر تفاعل جدي قبل أن نقول .

5-افلات داعش

يجمع حتى المقربين من النظام أن النظام هو من ساهم في ايجاد داعش ومعه ايران وحسن في العراق ثم في سوريا .. لتخدم غرضه في زعزعة الوجود الأمريكي الخطير عليها ، ثم ادعاء مواجهة الارهاب وليس الشعب في قمعها للثورة السورية ، حيث لم يكن لداعش وجود طيلة على الأقل العام الأول وتقريبا الثاني من الثورة ، ويجمعون أيضا أنها قد أفلتت من يديه … ومعظم العلويين ومعهم شيعة لبنان مرعوبين من هذا التحول الخطير  ويدقون الطبل لتحذير بقية الطوائف واستنفارها التي بدأت ترقص على نغم الخوف الوجودي والاستقواء بالأجنبي الغربي والأمريكي الذي قاومته طويلا بالتناغم مع أيديولوجيا الممانعة والمقاومة والمتانحة … التي قادها حسن نصرالله متاجرة في القضية الفلسطينية لتبرير وجوده المسلح التابع لإيران ، وجر معه بشار وعون وجنبلاط وبري وكاد يجر سعد أيضا لولا الدماء التي بينهم …  فأبطال محور الممانعة اليوم يستنجدون بالشيطان الأكبر ليحميهم من شر أعمالهم ومما صنعت أيديهم  ( فالله قد جعل كيدهم في نحورهم ، ثمنا للدماء الطاهرة التي سفكوها في سوريا والعراق ) . ومحور الممانعة وشخوصه ومكوناته يكادون يرحلون عن المنطقة ويلجؤون في دول محور الشر .

وهذا لن يكون مشكلة بسبب عددهم الهزيل بالمقارنة مع حجم الهجرات الهائل التي تعصف بشعوب المنطقة ، فهناك مكونات كاملة اختفت من الخريطة  في العراق وسوريا وهناك مدن كاملة أزيلت من الوجود ، وهناك دول أصبحت مجرد مخيمات لجوء ، وأصبح  عدد سكانها في غالبيته العظمى من اللاجئين الدائمين .. ، فماذا سيضيف هجرة مليون سوري ومليون لبناني لعشرات الملايين المشردة هنا وهناك بدءا بالشعب الفلسطيني والعراقي والسوري واللبناني ، بل ربما من وجهة نظر محايدة يسمح هذا باستقرار وعودة الكثيرين لو تم فك الاشتباك بين الطوائف التي انهت بأيديها صيغة العيش المشترك بالدم والمجازر وعلى أوسع وأبشع نطاق ، و ما المشكل لو  حصل تبادل جغرافي واسع بسبب الحرب الطائفية التي أججها حسن ومشروع الهلال الشيعي . فمحبي الحسين يذهبون اليه حبيبهم بعد أن طهروا جواره من جماعة (يزيد) ، ومحبي الغرب وبقايا الصليبيين يعودون لحضنه ، وتتوقف أسباب هجرة السنة الارهابيين التي تهدد العالم وتتوقف قوارب الموت ..

( نقول هذا ليس إيمانا به بل تذكيرا بمرارة وبشاعة ما حدث ويحدث .. فالذي دمر صيغة العيش المشترك وذبح وشرد العرب السنة كان عليه أن يتوقع ردة فعل ما ، ومن تخلى عن دعم المعارضة بشكلها المعتدل أملا في هزيمة الشعب ، لم يدرك رغم تحذيرنا له أن هذا الشعب قد يضطر لتغيير أيديولوجياته تبعا للظرف، فلا تدفعوه لليأس الذي ينشط الجناح المتطرف عنده .. ) ولكل من راهن على كسر ارادة هذا الشعب وتخليه عن الانتقام لقتلاه من الظالم المجرم ، وبأي وسيلة ستتوفر لديه  ، ولمن لم يفهم ولم يدرك مدى قوة هذا الشعب واصراره وقدرته على تغيير الوسيلة والأيديولوجيا مع الاحتفاظ بالهدف ..

و هكذا يكتشف الغرب الذي أصر على تعيين غليون وصبره وسيدا والخطيب والجربا والبحرة زعيما للثورة السورية أملا في السيطرة عليها واقتيادها حيث يريد ..  أن من سيقودها فعلا هم الجولاني والبغدادي والقحطاني واليمني الذين لا يستطيع تحمل ذكر اسمائهم .. لكنهم شاء أم رفض هم الوجه الآخر لسياسته القبيحة  ..   وهكذا أيضا يأتي خطاب حسن الجديد ليؤكد بالحس والحركات قبل الكلمات كم هو متهافت ومهزوز ومحبط ، وهو الذي عودنا على العنتريات وهز الاصبع ، والذي قرر أخيرا أن يختبئ وراء الشرعية والجيش اللبناني الذي يشبه جيش المالكي الذي فر من المعركة لمجرد سماعه باسم داعش ( بعد أن ألقى الله في قلوبهم الرعب ) فاستعاض عنه بميليشيات تطوعية طائفية …

  بعد أن تم تقسيم العراق وكسر الهلال الشيعي (حلم ايران ) بليلة واحدة وباستعمال داعش شكلا ، تبين أن تغيرا ما قد حدث أو أن داعش صارت بأيدي ناس آخرين ، أو أنهم استطاعوا فتح  آفاق جديدة مغرية لها تغير وجهتها ( بذكاء وتخطيط يغري بمعرفة من دبره بليل دون علم أوباما ) ،الذي سارع للبحث متأخرا جدا عن حل ديمقراطي في العراق ، مما سيشرعن ويكرس التقسيم الذي أصبح مصلحة للجميع ، فهو الشيء الوحيد الذي يتفق عليه العراقيون اليوم ، بعد ممارسات الاحتلال الأمريكي الغبية  وسلطاته المتتابعة .. فلا شيء يستطيع وقف انطلاق مشروع الدولة الكوردية التي تحظى بدعم شعبي كوردي هائل ،وتعاطف وتعاون دولي كبير ، وهي ما ستكون عامل تغيير في خريطة المنطقة توازي قوة داعش بحيث تساهم في تمزيق سوريا وايران وتركيا، التي يزعج حجمها الكبير جارها الأوروبي ، الذي لم ينس بعد مرارة مواجهة جيوشها على تخوم عواصمه، والتي تسعى بقيادتها الاسلامية لاستعادة تاريخها الاسلامي الذي وحد المسلمين وقادهم لمدة 400 سنة فقط ..

و بعد انعزال ايران وانشغالها بما صار على حدودها ويهدد كيانها الهش المستبد ذاته بالتفكك ، بالنظر للتنوع العرقي والطائفي الكبير فيها ، وهي من كانت قبل أيام  تعتبر لبنان حدودها الغربية والأسد جندي في جيش الامام  ، وبعد تقارب قادتها وتدليسهم للغرب الذي سيكون ثمنه التخلي عن طموحاتهم الامبراطورية في السلاح والأرض ، وفي الساحل الشرقي للمتوسط ، ربما مقابل وعد لن يتحقق في نفوذ أكبر في الخليج الفارسي ، لأن كيان ايران الهش سيتفكك قبل بكثير مما يتوقع الغرب ذاته ، الذي يبالغ في تعظيم مفهوم الأمة الفارسية المجوسية  المنقرضة منذ أن هزمها وإلى غير رجعة فرسان سعد وخالد ونشروا الاسلام فيها والذي صار هو الهوية حيث انتشر …

ومع بدء  تفكك بقية الخارطة السياسية المصطنعة التي صنعها تقاسم النفوذ الفرنسي البريطاني قبل وبعد الحرب العالمية الأولي .  والذي لن يكون سهلا ولا سلسا ، بل سيحدث على وقع حروب أهلية اقليمية قد تتطور لحروب دولية .. تصبح داعش واحدة من أوراق اللعب الهامة التي لن يجري التخلي عنها بسهولة  كما يتوهم الغرب وايران الذين وجدوا ما يوحدهم .  وسيصعب فصلها عن جسدها السني الذي يدرك ازدواج دورها ، فداعش رغم قباحتها وتطرفها وهذا ربما كان ضرورة وجودها ،  هي الآن رأس الحربة السني في خاصرة الشيعة .. ولن يسمحوا بهزيمتها لصالح أعدائهم ، أو قبل أن تضع الحرب أوزارها . وقبل نضوج بديل عنها أفضل ..أو تبلور حل سياسي جدي يحقق مصالحهم ..

وهو لن يكون من دون مشروع تعاون واتحاد اقليمي واسع على أسس أخرى غير القهر والاستبداد والتهجير الذي تمارسه الأقليات بحق  السنة منذ نهاية الخلافة العثمانية ، بالتعاون مع جيوش الاستعمار . أو عبر انظمة تدعي  القومية أو العلمانية ومدعومة من الغرب ، وخدمة لمشروع بقاء وهيمنة اسرائيل … ( أو هكذا تقتنع أغلب جماهير السنة ) وهو الشعور الذي يغذي خطاب التطرف كأيديولوجيا ويديمه ، بل هو من يوجهه نحو ترهيب العالم الذي يتحول وفقا لهذا العقل لمتآمر ، والذي يجعل من اسرائيل رأسا لهذا التآمر الماسوني الصليبي ..

 مع أنه (ومن وجهة نظر موضوعية ) الغرب ليس متوحشا ومعاديا إلى تلك الدرجة بل هو مجرد سياسي غبي طماع ربما ما يزال يحمل بقايا العقل الصليبي ، و الشعب اليهودي رغم كل ممارساته بحق الشعب الفلسطيني ، وكل ما يتهم به ، ما يزال ضحية تمييز ضد السامية في كل مكان …تمييز  عنصري وديني يوحده ويعيش على وقعه ، حتى بعد دعم قيام دولته المستقلة بالحرب ، والتي لا تستطيع البقاء من دون مصالحات مع جيرانها كفيلة بإذابتها ، وهي لصغرها لا تستطيع التحكم بالعالم ولا حتى تستطيع الاستقلال بقرارها السياسي والمالي ناهيك عن العسكري ، لكن ربما كلمتها مسموعة أكثر من غيرها مرحليا وبما يخص دول الطوق لا أكثر . . فالمبالغة في حجم المؤامرة وقدرات (العدو ؟ ) ومركزتها حول العدو الأقرب بعد أسطرته ، هي أحد نتاجات العقل المهزوم بعوامل داخلية لا يريد الاعتراف بها ، والذي يحول داعش وحالش لصناعة اسرائيلية مع أنهما وجهان للتطرف الاسلامي بصيغته الشيعية والسنية وتعبير أصيل عن مذهب التكفير والخروج التاريخي القديم  المطعم على المذهب السلفي المقلد دون عقل ، وهو ذات العقل الذي يتهم اسرائيل بتصنيع الأنظمة التي لم تنتج الثورات عليها الا نسخة عنها ؟؟؟ ( هل يستطيع أحد ايجاد فارق واحد بين البعث والائتلاف ) الجواب السهل هو أن كلاهما صنيعة اسرائيل ، وماذا يصنع الشعب ؟؟؟ يبايع الجولاني والبغدادي ويسير في مسيرات بشار وحافظ ويقبل أيادي الجربا ( فثقافة العبودية والفساد والعقل المعطل بفعل تقديس السياسة لا ولن تنتج سلطات وطنية ، ومن دون التحرر العقلي لا تحرر سياسي منشود ) وهذا ينطبق على كل الدول العربية بغض النظر عن بعدها وقربها من حدود فلسطين والتي تتشابه لحد التطابق .

إن ازالة الحدود بين العراق وسوريا واتجاه داعش لتهديد اربيل ذاتها استوجب التدخل الجوي الامريكي العاجل على غير عادته ، وهي تتجه الآن نحو حلب وحمص الشرقية وحماه بينما تنتشر شقيقتها النصرة في ادلب ودرعا وريف دمشق ، ولا ندري اذا كان توجه داعش نحو لبنان والأردن والسعودية سوف يتم من دون تدخل امريكي واسرائيلي ( فذلك يعتمد على خططهما في المنطقة ) … لكن داعش تملك تفوقا استراتيجيا هائلا بالنظر لهشاشة المجتمعات التي تجتاحها وسرعة تحولها ومبايعتها لداعش .. وبالنظر لقدرة مقاتليها على المغامرة وتقبل الموت ، وبالنظر لبطشها الذي يثير الرعب فعلا .

ما جرى مؤخرا يمكن اعتباره تطورا أكبر من المتوقع و من المحسوب ، فارتباك سياسات الدول يبدو واضحا ، وتخبطها يفضح افلات اللعبة من يديها ويرجح هذا على احتمال أنهم ما يزالون يضبطون ايقاعها ،  ويقع تفسير هذا الحدث ضمن فلسفة ومبادئ الديالكتيك (تراكم التغير الكمي الذي يحدث تغيرا كيفيا ).. فهل تنجح داعش في اجراء مصالحات مع العشائر والمجتمع الذي تحكمه ، وهل تطبق بنجاح سياسة العفو والاستيعاب التي تتبع سياسة الترهيب الأسطوري التي تجعلها تنتصر قبل الدخول في المعارك ؟ ..  عندها سوف تستطيع أن تتحول لدولة حقيقية وتستقل وتستغني عن الدعم المشبوه وتتخذ القرار الذي تريد .. وهذا سيصطدم بالضرورة بالسياسة الأمريكية التي ستتحول من سياسة الأرانب لسياسة الذئاب …  كعادتها عندما لا يتعلق الموضوع برحيل الأسد أو حماية الشعب السوري ، بل فقط عندما تتغير قواعد اللعبة التي تديرها في المنطقة ، والتي لم تكن داعش متناقضة معها كثيرا في البداية ، قبل أن تدخل المنطقة كلها بحرب أهلية اقليمية ، سببها تلك اللعبة السياسية الغربية الغبية والتي ستدخلنا في حرب اقليمية ودولية لا محالة …  ونحن نتهم الغرب كطرف وحيد فاعل وقادر على الاختيار والتأثير في الأحداث في المنطقة عندما يريد .. ويبدو أنه تراجع للدرجة التي تجعله منفعلا ويلهث وراء الأحداث كبقية الدول المتخلفة عن صناعة التاريخ ، وأنه يسير رغم أنفه نحو حرب تتبع عادة كل أزمة اقتصادية وسياسية لا يمكن حلها بالطرق السلمية .

إن أهم محظور يمكن لداعش أن تلامسه هو توحيد العرب السنة تحت أي علم أو خلافة .. لكن هذا غير متوقع حتى الآن ، لأن داعش بتطرفها الشديد لا تستطيع أن تشكل حالة مستقرة ، وبسبب غياب امكانية وجود قاعدة اجتماعية لها حتى في أفغانستان والرمادي وبادية الشام ، فهي ثقافيا تنتمي للصحراء والربع الخالي ، وتتناقض مع الطبيعة الانسانية والاجتماع الانساني ، وهي مشروع موت انتحاري معقد ،وليست مشروع حياة للمجتمعات .. دورها الممكن الوحيد هو شن الحرب ، وليس اقامة الدول والعمران .  فداعش تبقى رغم كل شيء وسيلة عسكرية مؤقتة ومشروطة ومحددة لذاتها ، ولا يمكنها الاستدامة في ظروف أخرى لذلك هي توجد فقط في مناطق النزاع وتعيش عليه وتزول بزواله ، والمزيد من العنف وتوسع ساحة النزاع هي ما تريده داعش ، وهو ما تتجه الدول لفعله من خلال شن الحرب عليها ومعالجتها بالطرق العسكرية فقط .

تتواصل عملية لصق صفة داعش بالثورة السورية والمعارضة والسنة في سوريا والعراق ولبنان ، وبكل من حمل السلاح دفاعا عن حياته وشرفه وأهله ، وهي بروباغاندا ايرانية وأسدية ، لتبرير جرائمهم بحق شعوب المنطقة ، وبعد ذلك هي بروباغاندا غربية تبرر تخليهم عن مسؤولياتهم الانسانية في المنطقة ، ولكنهم بهذه الطريقة يزيدون من شعبية وشرعية داعش ذاتها … التي ما تزال هي الورقة الأخطر والتي تتسبب ليس في العدالة واحقاق الحق ، بل تعميم الألم والخراب ، الذي هو أيضا نوع من العدالة السلبية ، فالظلم الواقع على الجميع يصبح عدلا ، وتشارك الخسارة والخوف عدلا أيضا بطريقة ما ، وغياب الاستقرار هو أحد أهم انجازات داعش التي منعت اعلان هزيمة السنة .. وهي النتيجة التي لم تهدف لها  هي ، ولا مشغليها … فهل انقلب السحر على الساحر ، وجاء صراخ الراعي الكذاب بالذئب الحقيقي .. وهل خلقت أمريكا بيدها الارهاب الذي تخاف منه ؟ ! و سلمت السلاح الأمريكي الحديث والثقيل الذي سلحت به الجيش العراقي للأيدي الخطأ ذاتها ، والتي حرمت الجيش الحر من التسليح خوفا من ذهاب سلاحه اليها  ؟؟….

إنه القدر الواعي والانتقام المنطقي الذي تخضع له نواميس الكون … ( يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )

أما إذا كانت أجهزة مخابرات كبرى ما تزال تتحكم بداعش ، فمن يدري إلى متى تستمر ، وكيف ستتحول هذه الظاهرة في المستقبل .. وأين ستستخدم ، وهي ذات ولع شديد في النفط والصحراء و أرض الجزيرة والخليج ومقدسات المسلمين ، وأعتقد أن كل الظروف اليوم تسهل لها التقدم جنوبا بينما يمنع الطيران الأمريكي تقدمها نحو اربيل والشمال وآبار النفط العراقية  .. ولا يتحرك لمنعها من اجتياح حلب المحررة … كما  لم يستطع إطلاقا منع عصابات النظام من ابادة الشعب السوري بكل صنوف القتل والتعذيب .  !!

لقد كشفت داعش حجم وحقيقة التآمر الذي يمارس على سوريا وشعبها وثورتها ، وكشفت مدى تورط الدول في هذا النوع من التنظيمات الارهابية .. بدءا بالنظام السوري والايراني وصولا لمن يدعي الحرب عليهم وعليها من أصدقاء يستخدمون معايير مزدوجة …  وقد شكلت في النهاية وبالرغم من كل التداخلات أحد الأوراق الجديدة التي تدخل لعبة تغيير الخريطة السياسية ، وتحولت لورقة مزدوجة الدور والوظيفة ، وبالتالي قطعت أكثر من ثلث المسافة باتجاه اكتساب الشرعية من حاضنتها .

وقبل أن نختم هذا القسم ثمة سؤال يطرح نفسه .. هل نطلب من المجتمع الدولي حماية الشعب السوري الذي يخضع لعملية ابادة وتهجير وتعذيب وحشي من قبل النظام .. و تنظيمات الارهاب ، ونحن نرى مقدار تداخل وتورط هذا المجتمع مع النظام ومع الارهاب معا ؟ .. أم نتجه لاتهام المجتمع الدولي ونتصالح مع الارهاب بأحد شكليه ( النظام  كما يطلب منا الغرب ، أو داعش كبديل عن العدالة المعطلة  ) ؟ … سؤال لا أستطيع إلا أن أرجح فيه شق التعاون مع المجتمع الدولي ، لكن ليس قبل أن يفهم أننا لن نقبل بالهزيمة والذل . لذلك أنا متشائم من وجود حل قريب ، ومما يسمى انسانية ونظام ومجتمع دولي .. وأشعر كما يشعر كل سوري أن العالم  غابة ليس فيها الا الوحوش بأزياء مختلفة … وهذا ليس دفاعا عن داعش  التي ربما هي ضحيته أيضا .

خلاصة الدرس الذي علينا أن نفهمه في نهاية هذا العرض هو أن داعش وبالرغم من خطابها الاسلامي الظاهر ، فهي تخدم وظيفيا أعداء الاسلام ، وتنفذ خططهم .  ولما كانت الأعمال في خواتيمها فهي كحد أقصى  ( حق ؟ اريد به باطل ) ، لكن داعش كفكر هل هي على حق ، وهل هي تطبق صحيح الدين ؟؟؟ أم هي  غلو يصل حد الضلال ؟   هذا ما سيحدد موقفنا الحاسم منها ( لأن الغاية لا تبرر الوسيلة ) ، وهو ما سنجيب عليه في القسم التالي .. 

6-  لماذا داعش ؟

بسبب فشل عملية تحديث الدولة وسقوطها في دوامة الاستبداد والفساد وتشوه بنية المجتمع  تراجع الناس نحو الأطر التقليدية القديمة قبل أن يثوروا على النظام ، و وبسبب امعان النظام في القمع والقتل والاضطهاد الوحشي ، وغياب أي جهد دولي فاعل لمواجهته، أجبر المواطنين البسطاء على التصدي له بما تيسر لهم وبأجسادهم العارية ، ودخلوا في حرب غير متكافئة مع النظام الذي حرم المعارضة من المؤسسات ومن التنظيم ، فكان تنظيم الثورة العفوية يتم على أساس جغرافي وتقليدي ، ولأن الدين والمسجد هو محور ورمز وحدة الجماعات التاريخي ، وفي غياب المؤسسات السياسية والحزبية الحديثة بسبب النظام الشمولي ، لعب الدين  دورا متزايدا بمقدار الحاجة للمزيد من التماسك المجتمعي والتنسيق والسلم ، وبسبب غياب السلطات المدنية والقانونية والسياسية ، استعادت سلطة الدين والعرف دورها القديم في حفظ الوجود المجتمعي من التفكك التام نحو الوحشية . فالمسجد يتوسط القرية والحي وشيخ المسجد يجسد رمز الثقافة والمجتمع فهو الموجه الطبيعي في حالات كهذه .

اندلعت الثورة من المساجد لأنها مكان التجمع الوحيد المباح في دولة القمع ، ولعب الدين دوره فيها لأنها ثورات احتجاج أخلاقية ضد انتهاكات أجهزة الأمن المتغولة ، تريد تحطيم السلطة المخابراتية القمعية الفاسدة ، لكن من دون آليات  ورؤية واضحة عن المستقبل ، ليصبح البديل العفوي عن نظم الافساد والجريمة  نظريا هو سلطة الأخلاق والتي مصدرها  الدين / سلطة الله الغفور الرحيم ، الذي عصيناه فسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا … والتي لن يجسدها غير الشيخ المعمم ( الذي يغفل تبعيته للسلطان ) ، أو فيما بعد الفقيه السلفي الحافظ لكل شاردة وواردة في الدين الحنيف بسندها وشروحها .. ( والذي يفتقر كثيرا لروح الدين وأخلاقه ويغطي على ذلك بتمسكه المبالغ به بالشكليات )

لقد بدأت الثورة من المسجد ، واستمر القتل  والتشييع  حوله ومنه ، وهكذا صارت الثورة شهادة وموت ، وهذا أيضا يعزز دور الدين  ..كما لعبت الميثولوجيا الدينية دورا بارزا في تشجيع الشبان على القتال في ظروف غير متكافئة ، فقد كانت العقيدة الاسلامية والايمان بالحياة الأخرى هي التي تغذي اندفاع الشبان نحو الحرب والموت تباعا ، وتحبط أثر حمام الدم والمجازر المستمرة التي يرتكبها النظام بهدف إعادة الناس لدائرة الخوف . كما و روعت صور المجازر هذه الأشقاء  والأخوة في الدين ، وشجعتهم صور البطولات لكي يتطوعوا للقتال مع أخوتهم  ونصرة دينهم ..

تعزز دور المسجد والدين والشيخ وتكاثرت الشعارات الدينية .. وأخد القمع صفة طائفية وشيوعية ملحدة منكرة للدين والرب ،ومستفزة لمشاعر كل المؤمنين بالله وبالخلق والحساب .. وزاد ذلك من حصرية قيادة المساجد والمشايخ ووجدت الثورة في الدين خزانا ثريا بالقيم الثورية والجهادية ،  وتقبل الموت برضى نفس وايمان بالفردوس .

وهكذا تمحور العقل الثوري الجمعي السطحي بطبيعته (كعقل كل جمهرة ) حول العقل الديني السلفي ، كما هو ومن دون نقد ولا نقاش ، كحقيقة جاهزة منجزة مطلقة  تلعب دورها في الحشد والتنظيم وقيادة الجمهرة العفوية وتحقيق النصر . فالحرب القاسية تتطلب الطاعة الكاملة العمياء ، والتفويض السريع للقيادة المركزية .. وهكذا وجد الجهاديون السلفيون أنفسهم في قيادة الحراك الثوري على الأرض بينما انعزلت ، ثم هاجرت كل الشخصيات والمنظمات والأفكار  المدنية والديمقراطية الأخرى وتحولت لما يسمونه معارضة ( يقصد فيها المعارضة البعيدة عن الشارع مكانا وفكرا ) وتشكل منها قيادة في الخارج بقيت شكلية وهزيلة وعاجزة، ولا تستطيع أن تلامس حقائق الواقع ، في حين تحولت القوى الثورية الفعلية تباعا لقيادة السلفية الجهادية ، التي صارت تقود وتتحكم ب 99% من مجموعات المسلحين في الداخل .  هذا الطغيان في الطابع السلفي الجهادي  لا يعني أن كل من يقاتل مؤمن وملتزم وسلفي .. بل هو ثوري  وجد نفسه مضطرا لقبول قيادتهم كأمر واقع ، بانتظار سقوط النظام ، واستعادة الحياة الطبيعية . حيث يصعب جدا في هذه المرحلة فتح نقاشات تثير الخلافات … ولا يفيد الثورة تعدد القيادات ،( فالثورة الديمقراطية تناقضت مع الديمقراطية ذاتها عندما دخلت في حرب ضروس  والحروب لا تقاد بالديمقراطية )، وهذا أمر حتمي ومفهوم … وهو نقد يوجه للثورة يستعمله أنصار السلمية دوما وتكرارا … وكأن استخدام السلاح كان بقرار أو خيار !!! … فهو كالثورة ذاتها حدث بشكل عفوي وشبه  حتمي ، بالنظر لأن الكثير من المناطق حاولت الحفاظ على سلمية الثورة دون جدوى، بسبب امعان النظام في القتل والاضطهاد ضد النساء والأطفال بما يستفز الكرامة والرجولة ، ويحرض على القتال .

فالمرحلة مرحلة وحدة وانسجام وليس افتراق وفرقة ، و السلفي يرى جوهر الدين في تقليد الماضي و أصالته في ماضيه ، لذلك هو يقلد الماضي من دون مغامرات التجديد التي تفتح باب الخلافات التي ليس وقتها الآن .. لذلك كان الشيخ السلفي هو مركز وحدة الجماعة ، لكن الثورة صارت مسلحة والمدنيين حوصروا أو هجروا ، وكان لابد من قائد عسكري ، فأصبحت شخصية المجاهد الشيخ هي الشخصية المطلوبة ، وخاصة من له باع في الفقه والحرب ، وهذا ما هيأ جيلا مختلفا للقيادة لم يتشكل في المجتمع ، بل في المنفى و السجون .. صار بديلا عن المشايخ الذين  سلموا بالإكراه تباعا قيادة الثورة للجهاديين المتفقهين .. وجلهم من أعضاء التنظيمات الممنوعة ، ومن خبراء التخفي وحرب العصابات ، الذين تفقهوا في السجون، وليس في المدارس  ، والذين لا يربطهم بالمجتمع سوى روابط هشة بل يكادون لا يعرفونه .. ويتميزون بضحالة الثقافة والفقه وسطحية التفكير ، المحدود بمقدار ما يخدم أيديولوجيتهم و غرضهم العسكري والسياسي ، وهكذا أزاح الجاهل المتعلم ، والغريب ابن البلد .. وصار يمثل الدين والثورة من لا علم له بالدين و بالثورة ولا بالمجتمع ، ومن يرى في هذا المجتمع صورة للضلال والفساد والميوعة والانحلال … فصارت الثورة ضد الشعب وليس لأجله . وهي نقطة تلتقي فيها مع النظام على عداء الشعب والديمقراطية والحرية والحضارة ..

قيادة الدين الطبيعية للثورة تزاوجت مع قيادة العمل المسلح ، فوجد السلفيون الجهاديون أنفسهم في قيادة الثورة ، ووجد الناس فيهم القادة الطبيعيين للمرحلة ، وهو ما هيأ الأرضية لظهور الجبهات الاسلامية التي قادها نزلاء ذات الزنزانة من مجموعات التكفير والهجرة ، سجناء الأمن العسكري المداومين والمتكررين ، وهم من خرجوا من سجن صيدنايا وقادوا أغلب الوحدات العسكرية للجيش الحر فيما بعد ، وفرضوا الهيئات الشرعية والقضاء الشرعي ، ثم شكلوا الجبهات الايديولوجية بدل المجالس الجغرافية … خرجوا من السجون مع من خرج من المهاجرين الذين شكلوا بدورهم النصرة وداعش التي خرجت من سجون الأسد والمالكي والأمريكان وأفغانستان ، وبدأ التعاون ثم التنافس بين الفريقين ، فانقسم كلاهما بحسب مصادر الدعم ، فالذي يتمول من تمويل المنظمات الجهادية العالمية بقي أمينا للقاعدة وشبكتها المالية ، ومن يتمول من دول الخليج استمر في تبني أيديولوجيا وشعارات ملطفة بشكل مصطنع ومسرحي ومؤقت … لكن الفارق الحقيقي الثابت هو مقدار ترابط الجبهات الاسلامية مع مكون مجتمعي معين ومحدد ، ( المجتمع السني المتشدد ) والتزامها الحقيقي به ، وهو ما يحفظ لها دورها وصفتها الوطنية ويرفع عنها صفة الارهاب بالرغم من تشددها ، بينما تترابط مجموعات المهاجرين مع مجموعات بدوية وعصابات ومع المشردين الذين فقدوا تواصلهم مع أهلهم .. ( الصعاليك ) والذين سيكون من السهل عليهم التشنيع بمجتمعاتهم ذاتها ..

وفي كلا الحالتين يطغى على  قيادة العمل العسكري الشخصية الطالبانية بنسختها العربية ، والتي تجمع بين شخصية المطوع السلفي الفظة التي يظهرها ، ويمارسها تشددا وغلظة ، مع شخصية الضابط العسكري القاسي وشديد البطش ، التي يظهرها ويمارسها ذبحا وطعانا وتقطيع رؤوس واعدامات بالجملة … فيرتدي الداعشي الزي السلفي الأفغاني المعروف ،  مطعما ببعض الإكسسوارت العسكرية من بوط وجعبة وطاقية  وأحزمة ذخيرة وقناع ..  وهي الصورة النمطية لداعش الحالية والنموذج (التوب موديل ) المعتمد رسميا عندهم .. والذي على الجميع تقليده والتشبه به ، استكمالا لمسرحية الاندماج والتماهي مع الزعيم والأمير والخليفة ..رمز تجمعها الفاشي الذي ما إن قتل أو هزم  حتى ينفرط عقدها …

(هذا  يشابه ما كان يحصل مع شخصية الباسل الفارس الضابط ونظاراته السوداء وذقنه المحنجرة وبرمة رأسه ونظرته الجانبية ،أيام المرجوم حافظ … والتي قلدها يومها كل عناصر وضباط الجيش وشباب العلويين و طلائع من أصبحوا اليوم شبيحة النظام . )

وهذه المسرحية الاستعراضية الإيمائية القبيحة لا علاقة لها بالدين والسنة والشرع والاسلام والعروبة وليست تعبيرا عنه في أي مرحلة من مراحل التاريخ … والفولكلور العربي الاسلامي موجود في المتاحف والنصوص الأدبية المليئة بقصص المجون والجواري الحسان وشرب الخمر .. والتعايش مع الغير ومشاركتهم في رغد العيش دون أن يكفرهم أحد . فداعش حالة استثنائية عسكرية طارئة في التاريخ العربي والاسلامي وليست السلف ولا الخلف  لا الصالح ولا الطالح ، بل هي منتج مؤقت ظرفي استثنائي يوجده ظرف قاهر أكبر من قدرة المجتمع على التعامل معه .. يلجأ إليه عندما يقرر الانتحار وليس الحياة .

دخل صفوف الثورة مقاتلون أجانب جهاديون سلفيون و تكفيريون ( سنشرح لا حقا لماذا هم تكفيريون ) يلبسون ذات الشخصية ، التي تخفي تفرقهم وخلافاتهم ، لا علاقة لهم بالمجتمع ، حتى السوريون منهم ، وتميزوا لقسمين متطابقين في الصفات مختلفين فقط بالبيعة : قسم بايع بيعة جهاد وقتال وهم النصرة ، وقسم بايع بيعة امارة وطاعة ، وأراد بناء دولة وهم داعش ، داعش تشبه طالبان بنسخة عربية ، والنصرة تشبه القاعدة ، وكلاهما يدعي النسب للقاعدة من أجل الحصول على تمويلها ويقتتلون عليه ، وكلاهما يعتبر أمريكا سبب مشاكل العالم ، والعدو الأساس للحق وللشعوب ( نفس منطق ولاية الفقيه ) ، وكلاهما يتبنى نظريات حزب التحرير وولاية الفقيه بالشيطان الأكبر وبالمؤامرة الماسونية الصهيو صليبية على الاسلام .

كلا القسمين المنفصلين عن المجتمع ضم متطوعين انفصلوا عن المجموعات المحلية الأهلية ( ما سمي بالجيش الحر ) ، تحت ضغط الحاجة غالبا ، وأحيانا حب التماهي مع القوة ، وجرى تعميم الطابع الواحد النمطي على الجميع بالدورات التدريبية وبغسل الدماغ ..  فاتبعوا جميعا منهج السلفية الجهادية ولبسوا قناع الوجه والزي والألفاظ واللكنة . المميزة بالإدغام والغنة المضمومة وطغيان حرف النون الأنفية المضمومة على لفظ حرف الألف واللام والميم وهي ما يميز قراءة الأفغان و عموم شعوب خراسان وايران وصولا للعراق والتي أصبحت لكنة المجاهدين أنصارا ومهاجرين . وتحالفوا مع منظمات وجبهات اسلامية أخرى تحمل نفس الطابع السلفي الجهادي ، كانت قد تمايزت من بين صفوف الجيش الحر ( الجيش الحر تعريفا هو مجموعات المتطوعين المحليين الذين حملوا السلاح في وجه النظام ) ، و اعتمدت هذه الجبهات الاسلامية على العموم اسلوب الدفاع  بدل الهجوم ، وصارت تنتظر سقوط النظام لتستلم السلطة ، ولم تسع لإسقاطه  أو هكذا يبدو حتى الآن ، والتي اشتهرت بكثرة بياناتها وتصريحاتها وقلة أفعالها ، والتي تستخدم اندفاع النصرة لتنفيذ معظم عملياتها و تكتفي هي بدور لوجستي ، بينما يقع العبء القتالي الحقيقي على بقايا الجيش الحر الذين يدافعون عن قراهم وأهلهم مباشرة ، ومجاهدي النصرة الذين أثبتوا قدرتهم على الاقتحام وجرأتهم المنقطعة النظير في مواجهة الموت ، ( فالتطرف حتى يكون فاعلا يجب أن يكون مطلقا او لا يكون ) مما أكسبهم احتراما وتقديرا كبيرا عند من قاتلوا دفاعا عنهم ، خاصة وأنهم لم يطالبوهم بالطاعة والخنوع (حتى الآن ).. كما فعلت داعش بهم والتي تحتلهم بعد تحررهم من النظام . ولتصبح هذه الجبهات الخزان الذي تنهل منه داعش في توسعها … والتي سرعان ما تسلم لها وتبايعها حتى قبل وصول قواتها . وما سرعة تحول الانتماء إلا دليل هشاشته ، وما سرعة تحقيق الانتصار وسهولته إلا دليل كونه مؤقت وعابر …

 درجة الانفصال عن المجتمع
مستوى العنف

 

توزع الحركات الاسلامية
مستوى القمع والدماء
مستوى الجهل واليأس والفقر

العوامل التي ترفع مستوى عنف الجماعات الاسلامية ( المتطرفة )

مجتمع معتدل (ثوار)
متشدد أصبح خارج المجتمع ومنفصل عنه

(النصرة وبعض الجبهات  الاسلامية )

 

شحشقف

ارهابي خارجي معادي للمجتمع ( داعش )
متطرف لكن على حدود وضمن المجتمع( جبهات اسلامية و قسم من الجيش الحر )

تصنيف الجماعات الاسلامية تبعا لموقعها من المجتمع وسلوكها تجاهه

وهناك عامل طائفي محرض اضافي يدفع قدما بالتشدد السني ، فالصراع اليوم في سوريا يتحول بفعل سلوك النظام وتدخل ايران إلى صراع سني شيعي ، تريد ايران توريط الأقليات الأخرى فيه  لتدعي حمايتهم ، بينما يدفع ذلك بكل قطعات الجيش الحر لارتداء قناع الإسلام السياسي السلفي المجاهد ، في مواجهة (حرب ازالة وابادة وتهجير والغاء للهوية العربية السنية في المنطقة ، بتواطؤ دولي لم يعد خفيا ).؟؟؟

7- داعش كأيديولوجيا تكفيرية :

هناك ثلاث مقاربات خطيرة للدين الاسلامي تعتمد عليهما الحركات الارهابية  . و عموم الجهادية السلفية المتشددة . وهي سبب غلوها و اقترابها من مذهب الخارجين التكفيري ، وهنا لا فرق بين داعش و الجبهات الاسلامية أو غيرها من المنظمات … فالفارق بينهم ليس عقيدي ولا فكري ولا فقهي ، بل سلوكي وسياسي وتنظيمي و في شكل البيعة و نوعية الشخوص ، لذلك يمكن أن تعتبر تلك الحركات كخزان طبيعي للإرهاب … لكن بعد فهم حقيقة أن الأيديولوجيا ليست جينات ، بل توظيف للفلسفة والعقيدة والدين والفكر في السياسة ، من أجل مصالح ، فمسؤولية الفكر هنا سلبية وتعتمد على حسن أو سوء استخدامه والتي تتم بدوافع من المصالح المباشرة والمادية المغلفة بقوالب مثالية .

وهذه المقاربات الخطيرة هي من اخراج سيد قطب (منظر الإخوان الذي أعدمه الديكتاتور الزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر وأستاذ السيسي وملهمه ) وفيها وجد سيد مفتاح سيطرة السياسة على الدين ، ومن خلاله وباسمه على المجتمع والسلطة في الدولة الديكتاتورية الحديثة ، فطور هذه الأفكار الخارجية أساسا ، والبسها لباس الاصلاح الديني التحديثي وليس السلفي ، وأدخل قطب منهج العقل العلمي على قراءة الدين والنص القرآني ، الذي هو نص أدبي بليغ يقرأ جملة ويرتل ويصنف ويبوب .. وفيه القياس والجمع والمجاز والتأويل ، ولا يصلح أي جزء منه لوحده كما هي العلوم والرياضيات و الفيزياء . لكن سيد استخدام كل جزء لوحده وبشكل مستقل كأي قانون رياضي ، فأخذ الجزء واعتبره كل صحيح بذاته ،  مع أن القرآن الصحيح بكله وعمومه ومحكمه ، قد لا يكون كل جزء منه صحيحا بشكل مطلق ومستقل عن عمومه وظرفه  .. فبدل تحديث العقل الديني وتطوير علوم اللغة والدلالة والمجاز والقياس والتأويل والتفسير … سيد الطامح بشدة للسلطة والحاقد على النظام الشعبوي الناصري ، وعلى المجتمع الذي يسير وراءه كالقطيع ، فام في زنزانته باستخدام العقل العلمي الحديث في فهم الدين مدعيا اعادة قراءة القرآن بواسطته ( في ظلال القرآن ) ، ليخرج علينا الاخوان بنظرية تحديثية للدين دمرت عقل الدين وفقهه التقليدي الجمعي ، واستخدمت أجزاء منه ككل صحيحة بشكل مطلق ، وهيأت هذه البدعة لنشوء حركات مجنونة ، تسيء لهذا الدين وتدمره وتتسبب في أزمة ثقافية كبرى تتجلى في تناقض ثقافي كبير وعسرة تلاؤم بين الاسلام والحضارة ، وبين ربع سكان العالم  من المسلمين و بين ثلاثة ارباعه الباقين ، وجعلت من الحركات الاسلامية مشكلة أمنية كبرى . يتوهم بسببها المسلمون أنهم ضحية مؤامرة . ولا يفهمون أن سبب هذا التحالف العالمي ضدهم كامن أساسا فيهم وليس في غيرهم الذين هم متفرقون في كل شيء سوى الخوف من الاسلام (دين الرحمة )؟؟ ، لكن المسلمين  اعتادوا أن يعتبروا أنفسهم على حق دوما .

في مقدمة كتابه (معالم في الطريق) الموجه للأمة ، وهو يشبه ويقلد كتاب كفاحي لسيد هتلر ..  يقول سيد قطب نحن في القرن العشرين نعيش جاهلية أشد وأدهى من جاهلية ما قبل الاسلام ، وكما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام وهجرها علينا أن نهجرها أيضا .. وكما نظم مجتمعه الصافي الخالص خارجها وعاد لفتحها بالسيف ، علينا أن ننظم مجموعاتنا في البعيد (الكهوف والمغاور والأوكار )، ونعود لنشر الدين بالسيف والسلطان ..  وهذا هو صلب مبدأ تكفير المجتمع وبالتالي استباحة دمائه وترهيبه ، وهجره والانفصال عنه وتقويضه  ،  ثم الانقضاض المسلح عليه وحكمه . مستخدما ذريعة اتباع وتقليد السنة المحمدية ، لكن بعد اسقاط مفاهيم الجاهلية على المجتمع الحالي المسلم ، وهو ذات مذهب الخوارج ومنطقهم لكن بحلة جديدة وتبريرات مغلفة جيدا بالاعتدال والتحديث.. ولا تكاد اليوم خطبة جمعة أو عظة تخلو من هجوم وتقريع وشتم واتهام وتكفير يقوم به الامام لجموع المصلين .. مستخدما ليس سيرته الذاتية المشينة عادة ، بل صورا مثالية وقصصا مؤسطرة فنية أدبية  منتقاة منسوبة للصحابة ، تستحضر من التراث الشفهي والخيال الشعبي التعظيمي لمقارنتها بسلوك البشر العاديين في عالم الواقع المعاصر ، وبالتالي تقوم بتبرير اتهامهم بالتقصير ، بل بترك السنة وسيرة الصحابة ، واتباع الهوى والابتعاد عن الله ، حتى الواحد منا يكاد يصدق أنه كافر وشاذ،  فيعيش حالة استلاب وتعذيب ضمير وحيرة، بالنظر لعجزه عن تقليد هذه الأساطير والحكايات المهذبة والمنتقاة والتي تغفل جوانب أخرى تؤكد أن الصحابة بشر عاديون يشبهوننا تماما  .. فيهرب من الحساب وتحمل المسؤولية عن طريق الشهادة والانتحار والحزام الناسف وبيعة الموت ، فالتكفير يضمر تكفير الذات أولا وحد القتل يقيمه التكفيري على نفسه قبل أن يعممه على الآخرين .  

انتشر مذهب قطب وكتبه كما النار في الهشيم ، و تبنت أفكار قطب وزملاءه  جماعة الإخوان الطامحة بشدة لاحتكار السلطة الدنيوية والتمتع بها ، لذلك نعتبر أن فكر الإخوان هو المصدر الحقيقي لأيديولوجيا داعش و التكفير عموما ، وهي في الواقع تجديد للمنهج الخارجي ، السطحي الفهم والعنيف والمتناقض ، لكنه جاء تحت غطاء وتمويه النزعة التحديثية العلمية ، وقد غلف نفسه وموه هويته ، وأخذ عن مذاهب التقية أن يضمر ما لا يظهر ، واندس هذا في الفكر السلفي وولد بنتيجة تلاقحهما هذا النمط الجديد من السلفية العنيفة الخارجية ،التي شوهت ما سبقها من نزعات ومذاهب وبشكل خاص نتاج ابن تيمية وابن عبد الوهاب  . و سيسوها واستخدموها بطريقة خاطئة .

 هذا الفكر التكفيري العنيف المحدث ، الذي يبرر التفجير والاغتيال والحرابة والانتحار .. والذي امتزج بسهولة مع المناهج السلفية الصارمة التي تدعي الانتماء والنسب للسيرة النبوية وسيرة الصحابة ثم لمذهب ابن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ، وجد في السلفية المتطرفة حامله الأنسب بالمقارنة مع المذاهب الأخرى والحركات الفكرية الدينية المختلفة … وأصبح يشكل بواسطتها خطرا مباشرا على الاسلام بالنظر لسهولة انتشاره فيه ..

والاخوان كحركة دينية تصف نفسها أنها معتدلة ، وديمقراطية ومدنية ( وهذه ليست نكتة ) ، لم يكن لها مكان في الثورة السورية ، فليس الاعتدال الديني المزعوم  هو من حرك الثورة ، والاخوان هم آخر تنظيم لحق بالثورة ، وأفكارهم اشكالية وغير قادرة على تجميع الناس المتجمهرين في حالة هياج ، الذين يحتاجون لرموز فاقعة ومختزلة لتقودهم ، واهتمامات الإخوان السياسية البحتة ، وبراغماتيتهم  الزئبقية، أبعدت الجماهير العاطفية عنهم، أما ممارساتهم المفرطة في الأنانية والتبجح والتعالي فقد ذكرت بحزب البعث ، وفسادهم المالي فاق فساده ، لذلك وبالرغم من الدعم الغربي الهائل لهم بهدف السيطرة من خلالهم على الربيع العربي .. لم يستطيعوا أن يمسكوا الأرض كما افترض الغرب الذي وكلهم بالربيع العربي ،  بل ذهب ما تبقى من الدعم الذي قدم اليهم بعد مروره على مضخات الفساد للحركات الجهادية السلفية ، التي لها الأفضلية أثناء الحرب والتي هي وحدها القادرة على توحيد القوى وتجنيد المجاهدين ودفعهم للقتال في ظروف سيئة كما شرحنا ، وأخيرا قادرة جزئيا على ضبط سلوك الزعماء والقادة واجبارهم على تقليد السلف الذي يلتزمون به ، بعكس الاخوان التجديديين الذين لا سلف لهم ، ولا مبدأ ولا عهد .. فهم في كل مكان ومع الجميع ، ( على سبيل المثال  يرفضون جنيف ببيان خاص بحزبهم ثم يحضرون جميعهم في جنيف لكن باسم المجلس والائتلاف  … ) وقس على ذلك (يهاجمون ايران  بالخطاب العلني ، ثم يجتمعون معهم سرا لتقاسم السلطة  مع النظام ) .

ولا يوجد حاليا تيار سياسي ديني  أو مذهب فقهي سياسي واضح آخر يقف في وجههم غير تيار شيوخ السلطان والمدارس التقليدية الرسمية للدين ، والتي تعتمد القاسم المشترك الديني من دون منطق داخلي وهوية مميزة ، والخاضعة لمشيئة الأجهزة الأمنية ومراكز الثروة والمال الداخلي والخارجي ، مما يفقدها احترامها بتواجدها على موائد الطعام عند المستبدين والفاسدين والأمراء . و يجعلها غير مؤهلة لقيادة المجتمع عند الثورات .

أما الصوفيون فهم أصلا غير ميالون للعنف ولا يهتمون بالسلطة أبدا .. وقد يصبحون  أهم معارضة للسلفيين الأقوى والأقدر حاليا ، لكن بعد انتهاء الحرب الأهلية الاقليمية ، حيث سنكون أمام مواجهة قاسية مع من يتبقى من المتشددين الذين سيحاولون التغول على السلطة والثروة بعد هزيمة الأعداء وسحقهم .

فالثورة عادة تمر بثلاث مراحل : مرحلة تحطيم النظام السياسي ، ثم مرحلة الثورة الاقتصادية على التوزيع المجحف للثروة، ثم مرحلة الثورة الثقافية التي تثبت الأرضية الجديدة المناسبة لتغيير حقيقي في بنية التشكيلات الاجتماعية ونظامها ، بشكل يتجاوز التخلف والانسداد والظلم الذي تسبب بالثورة ولولاه لا حاجة لاندلاعها  . فالثقافة هي الأساس في هذه البنى والعامل الأهم في تشكيلها وتجديدها ( لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ومن دون بلوغ الثورة المرحلة الثقافية سوف تنتكس وتفشل ، وهو ما يجب أن نستعد له ، دون أن  نشترط منذ الآن على الثورة العسكرية أن تنجز مهام الثورة الثقافية وهي في حالة عسكرية حرجة ، خاصة وأن المجتمع مشرد ومغيب … لأنه حيث يوجد المجتمع يتقلص بشكل عفوي التطرف والتشدد ، وحيث تندلع الحروب تزداد شعبيته ، وحيث العنف والتهجير يجد مكانه المناسب ويترعرع .

تقوم  أيديولوجيا  التشدد والتكفير والغلو  على مسائل فقهية مغلوطة ثلاث هي :

الأولى حاكمية الله :  فالله الحاكم المطلق لكل شيء ، والذي وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما ، والقادر على كل شيء ، يحتاج فجأة لعبيد خطائين لكي يحكم الناس من خلالهم ، وهكذا تتحول سلطة الأمر والأمارة التي هي شأن دنيوي وشورى ، تتحول لسلطة مقدسة تحقق حاكمية الله التي لا تتحقق الا بها ، فالله قد أقال ملائكته واعتمد على الداعشيين ليقيم سلطانه  وحكمه .  فصار بيد هؤلاء سلطة  الموت والحياة والجنة والنار، والنعمة والشقاء  ، وصاروا هم من يرزِقون  ويحاسِبون ، ويحيون ويميتون .

وهذا طغيان وطاغوت واضح ، وشرك في الله كرب وحيد للبشر والذي خلق عباده وشاءهم أحرار ليحاسبهم ، فمن الذي يعطي شخص سلطة ربوبية على شخص آخر ، ومن من عبيد الله يقبل بسلطة بشر عليه غير سلطة التفويض الحر والمراقب ، وما مدى هذه السلطة.  أي ما دور سلطة الاسلام كدولة وعقد للسلم ( كل المسلم على المسلم حرام .. )  غير حماية السلم الاجتماعي كأي سلطة دنيوية في أي دولة، والذي تفوض به سلطة قانونية مستقلة دنيوية تنوب عن الحق الشخصي بالدفاع عن النفس والمال ، ضد من يدمر أسس اجتماع البشر وتعاقدهم ، ويعيدهم للوحشية والفتنة التي هي أشد من القتل ، لأن الفتنة والفوضى  تحطم بنى المجتمع الحضري القائمة على احترام حق الحياة والتملك والحقوق الشخصية الأخرى (شريعة حمورابي ووصايا موسى )  وليس على سلبها كما تفعل داعش وغيرها باسم الاسلام ، فاحترام حقوق الانسان في الحياة والاعتقاد والتدين والتعبير والمشاركة في الحياة السياسية وغيرها ملزمة للدولة الاسلامية كغيرها .

الثانية هي مسألة الشريعة :  فالشريعة الاسلامية وهي التطبيق التاريخي للعرف والقانون السائد في زمن الرسول وظروفه ، تصبح هي شرع الله الخالد ، الذي يجب أن يطبق كما هو في كل زمان ومكان كسنة ملزمة ، مثلها مثل اللباس والزي البدوي الوحشي القديم ، فالتجديد والتغيير ممنوع ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، والمحدثة هنا ليست في صلب العقيدة مما يهددها ، بل في كل شيء حتى لون القميص … والعقل يجب أن يتوقف عن فهم مقاصد التشريع بهدف تطويره بما يتناسب مع تغير الأحوال والتي هي سنة الكون ، والقانون الذي هو وضعي وتوافقي و قابل للتطوير والتعديل بتطور وتغير التاريخ والجغرافيا والثقافة والظروف ووسائل العيش ، والذي هو حصيلة تعارف الناس وتشاورهم وتعاقدهم… يصبح أمرا الهيا غير قابل للنقاش ، ويطبق بحرفه وليس بمقصده كما طبق في الزمن الماضي ، مع أنه من المتشابه وليس من المحكم ، فالمتشابه تغير أثناء نزول الوحي بين مكة والمدينة  ( قصة الناسخ والمنسوخ ) فكيف لا يتغير مع قرون وأزمان وحضارات ، ( هاتوا نصا ينص على عقوبة الحبس ، مع أن كل الدول الاسلامية تطبقه من دون سند ولا سنة ) ويضاف للشريعة ( وهي القانون الجزائي )  ما لا يخص الشأن القانوني والسياسي أصلا ، أي الشأن المجتمعي والعقيدي ، والشخصي والجمالي …  و عندما تتغول السلطة لتشمله تتحول السلطة السياسية لسلطة على الضمير والنوايا والعبادات والأزياء والطباع والطعام والجنس والتنفس وحركة القدمين ودخول المرحاض ، و تلغي كل ساحة للحرية والمباح الذي يحكمه الضمير والقناعة والعرف المجتمعي وليس سلطة القهر والبوليس والمطوعين الذي يستمتعون بسلطة الأمر والنهي والتشبيح على الناس ويأمرون بالبر وينسون أنفسهم ، فبئس ما كانوا يفعلون … لأنهم يمارسون الشمولية ذاتها التي مارسها الستالينيون والماويون وعموم الشيوعيين .  فالأمر بالمعروف يتم بثلاث طرق هي النفس والنصح ، واليد ، ولا تستخدم اليد الا في القانون الجزائي من قبل سلطة مفوضة بذلك ، ولا يجوز استخدام العنف الا ضمن حق الدفاع فقط .

والغاء هذه الساحة من الحرية والاباحة ، هو الغاء للحياة الدنيا ولوظيفتها كاختبار وامتحان للأنفس المرشحة لحياة أخرى خير و أبقى  ، وهو ايضا اعتداء على قدسية الانسان التي كرمه الله بها ، وجعلت الملائكة يقعوا له ساجدين ، وجعلته الوحيد القادر على الاختيار الحر بإذن الله ، وهو أيضا افتراء على الله ذاته الذي أراد الدنيا دار بلاء واختبار  قائم على الحرية، التي يسلبها من عباد الله من لم ينزل به تكليف ولا كتاب… بدليل  أن الله سبحانه خاطب رسوله الأكرم . لست عليهم بمسيطر . الا في حدود تهديد السلم الاجتماعي والعدوان المباشر العنيف على الآخرين الذين يمنحهم حق الدفاع عن النفس ، فتقوم الدولة في المجتمعات الحضرية بتعهد هذا الحق وتمثيله وتنفيذه وهي حدود صلاحياتها ، مع بقية الأمور التنظيمية والادارية البلدية الدنيوية العامة ، التي لا علاقة للدين والسلطة بها .. فسلطة الدين هي سلطة داخلية ضميرية ، وكل تجسيد خارجي لها يلغيها ويحولها لقهر وطاغوت ويشوهها ، وتديين السياسة وتقديسها يحولها لاستبداد ويخالف الشرع باعتبارها شورى .

فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ، وتحكيم الله هو شيء ارادي يتم في ساحة النفس كساحة وحيدة للحرية .. وجوهره اختيار ما يرضي الله طوعا وحبا ، أما ساحة الأفعال فهي ساحة جبر وليست ساحة حرية ( ولا تشاؤون الا أن يشاء الله ) فهو الميسر والمعسر والمتحكم بكل شيء من حياة وموت ورزق وملك وجاه  وشفاء ومرض ، وليس لنا نحن سوى التسليم بقضاء الله الذي نعقله كنظام ثابت في الكون،  و القبول بقدره المتغير الحر المبدع الذي يقهر أفعالنا بالرغم من ارادتنا الحرة وحساباتنا العقلية وسعينا ، ولا نملك تجاهه إلا الدعاء والتوكل ، فتتحقق ارادة الله التي تقهر أفعالنا بقضائه الثابت ثم بقدره الحر المتغير، فنسلّم بما حصل كأمر الهي واعي ومقصود من رب رحيم عادل  ، وهو الاسلام بمعنى  التسليم لقدر الله بعد عقل قضائه والسعي من خلاله .

أما أن نستعبد الناس لنقودهم للجنة وهم مقيدون ، فنحن نضيع عليهم فرصة الفوز والأجر وهذا الفعل الآسر للحرية هو كقتل النفس تماما ، لأنه يقتل فرصتها في الامتحان الدنيوي ،  فلا أجر يجزى من فعل الزامي فرض بسيف السلطان أو الخليفة ، ومفهوم الخليفة ذاته مفهوم استبدادي يقصد من ورائه ادعاء اتباع سنة رسول الله والتشبه به بهدف الحصول على امتيازاته ، لكن الرسول مصطفى وموحى . بينما البقية أنفسهم أمارة وهم أمراء (أي مفوضين بالأمر ) من الناس وليس من الله ، بالشورى وليس بالوحي ، وما طلبهم للبيعة من الناس الا دليلا على ذلك ، فالرسول غير الأمير ، والأمير ليس خليفة الرسول  فهو بشر عادي مثل غيره ، لا يحق له ادعاء العصمة وفرض نموذجه وأفكاره على أحد . بل الحكام هم موظفون عند الناس  وهذه هي حدودهم، ومن تجاوزها فقد طغى وبغى .

الثالثة هي عدم التمييز بين المعجل حسابه دنيويا وبين المرجأ : ( أي عدم فهم المذهب الأشعري )  فبعد صراع مرير مع الخوارج وفكرهم المتصحر واستعمال اليد في النهي عن المنكر وبتفويض ذاتي ، وبعد تنافس كبير  بين مذهب العقل التحرري المجازي المعتزلي الذين عارضوا تغييب الانسان وعقله لصالح الطاعة ووجدوا في استخدامه شرطا لهذه الطاعة الواعية ، وبين مذهب التشدد النصي الحنبلي النقيض له الذي خاف على تدني مستوى تقديس العقيدة وهبوطها الى مستوى العادي القابل للنقاش والقبول والرفض والتشكيك وبالتالي فقدانها تأثيرها القوي على الضمير ، انتهى هذا التنافس بالتمييز بين ما هو مرجأ حسابه الى الله ، وهو ما يخص الفلسفات والايمان والعبادات والصدقات والسلوك واللباس والطعام  وكل ما هو غير ضار بحياة الآخرين ، وكل ما تُقبل به التوبة والكفارة ويمحى بالحسنة وبالصدقة والدعاء .. والذي يتراكم في سجل الشخص حتى يقبض ، ويحاسب عليه جملة يوم القيامة ، فيبقى متاحا ويشمل  (المكروه والمستحب والحلال والحرام )، وبين ما يجب أن تقوم به سلطة القانون من حفظ للسلم ولحقوق الناس بين بعضهم البعض ، وهذا ما ليس فيه توبة و لا تسامح الا من صاحب الحق ، فدماء الناس وأموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم وكرامتهم ليست مباحة للمجرمين الذين يجب أن ينالوا القصاص ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) فلا يمكن أن تقوم حضارة من دون سلطة قانون . لكن السلطة السياسية القانونية على الأرض هي سلطة الناس وليست سلطة الله ، فسلطة الله تتم بالقضاء والقدر وليس بالمطوعين ،  ومحاولة منع الحرام والمكروه باليد وبسلطة القانون هو غلو سوف يدخلنا في استبداد خطير يقوض وجود المجتمع ، ومن هذه النقطة تنبع المصيبة . حتى ظهر باسم الدين والشريعة من يقتص من المدخن ، أو من تارك الصلاة ، وكأن الصلاة له وليست خاصة لوجه الله ، وكأن الله عاجز عن فرضها بالقوة لو أراد …

وعدم التمييز بين الاسلام كانتماء لدولة المسلمين يعلن بنطق الشهادة ، ويستتبع احترام قانونها وعدم التمرد عليها  والخروج عن طاعتها عن عمد وتصريح ، والذي لو حصل سيستوجب القتال والإستتابة  ، لأنه فتنة تذهب بالصالح والطالح وبالمجتمع ، وبين الاسلام كعقيدة وايمان وعبادة وتقوى وهو ما يجزي به الله وحده . والذي لا علاقة للسلطة السياسية القانونية به . عدم التمييز هنا هو من يفتح باب التكفير …  فمبدأ التكفير ينبع من عدم التمييز بين القانون والعقيدة ، والمحرم الديني والمحرم القانوني ، وحقوق الله وحقوق الناس ، ( أو بين ما لقيصر وما لله )  ومن اعطاء صلاحيات للسلطة السياسية لتطبيق فرض العقيدة والتفتيش عليها ، و عدم التمييز بين الكبيرة والصغيرة..  فمن يرتكب الصغيرة عن عمد هو كافر ولا يخاف الله ، وليس خاطئ قد يعود وقد يغفر الله له .. طالما أن الله يجزي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف لمن يشاء ، وهو غفور رحيم ، فكيف نعجل في حسابه ، ولا ننتظر قضاء الأجل ، وما أدرانا لو تاب ونصح أو استغفر .. ومن أعطانا سلطة الرقابة عليه وحسابه كل يوم وكل ساعة ، والله يقول ( إن إلينا ايابهم ، ثم إن علينا حسابهم )

المبدأ هنا أن السلطان الباغي يجد من الفقهاء من يبرر له  التدخل في حياة الناس وممارسة صلاحيات استثنائية هي لله وحده . وأنه  من المتفقهين من يريدون الاستيلاء على السلطة للبغي فيها ، وهذا هو الطاغوت الذي هو شرك يستوجب اقامة الحد عليه ، فحد الشرك وادعاء سلطة هي لله وحده ، يفترض أن يقام على الأمير الطاغية والفقيه المبرر للطغيان ، وليس على المسلم الذي يخطئ وأمامه كل أبواب التوبة ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد  ) … وحد الردة يطبق على المتمردين على قانون المجتمع ككل عصابة استحلت الجريمة ، وليس على المتفكرين في الخلق والباحثين عن الحقيقة حتى لو الحدوا  بلسانهم ، فالله يحاسب على العقيدة وليس الحاكم … واستخدام مبدأ ترك الصلاة للتكفير ولفرض حد القتل بالقياس على مرحلة الردة لتطبيقه على كل تارك للفرض أو مرتكب للحرام ، هو غلو وتعميم خاطئ ، وقياس للفردي على الجماعي . فالحياة السياسية في المجتمع المسلم تتمحور حول المسجد وصلاة الجماعة ، وعدم اقامتها تعني هدم كل سلطة الاسلام القانونية والسياسية ، وهي ما يعتبر من الردة عن عقد السلم ، أما ترك الفرد للصلاة لوحده ، أو تركه لغيرها من الفروض ، فحسابه ليس من صلاحيات الحاكم ، ولا الخليفة لأن ذلك لا يعني تمردا على القانون وتهديدا للآخرين الذين يستمرون به ومن دونه ، بل إن تدخل السلطة  بهذه الأمور  يحولها لمحكمة تفتيش  على النوايا والقلوب ، وهذا ما يجعل من الشكل بديلا عن المضمون ،ويهيئ لخواء القلوب والضمائر وشيوع النفاق وتناقض الظاهر مع الباطن          ( أو شققت على قلبه ؟؟)

ما نقوله هنا باختصار أن الدين ليس ما يدعون وليس ما يفعلون ، ولكل أمرئ  الحق في قراءته قراءة تختلف باختلاف العقول والتاريخ .. من دون اتهام ولا قمع ولا تكفير  … وهذا  الجانب أهم وأخطر جانب في الثورة … سبق وحدث عند ثورة البروتستانت على الكنيسة في بداية العصور الحديثة .

8- الحل العملي :

أولا يجب أن نقول أن هذه الصورة الداعشية البادية بسبب  التركيز الاعلامي عليها … لو صحت ، تبقى مجرد قناع موحد نمطي استعراضي لجمهرة اعتباطية ، تجمّعُها ناجم عن حالة طارئة وحاجة استثنائية ، وهي لا تعبر عن شخصية طبيعية عادية مستقرة ، ولم تنتج تحت ظرف طبيعي وقابل للاستمرار ، الا في حال ادامة الحرب والتشرد والعنف والفوضى ( وهي سياسة أوباما المتبعة حاليا بكل أسف ) لأنه يعتبر سوريا ساحة استنزاف !!!  لكن لمن ؟ يظن أنه استنزاف قوى التطرف وروسيا وايران ، مع أنه يستنزف قوى الاعتدال وفرص السلام والاستقرار ، وأرواح الشعب السوري ومقدرات عيشه . وقبل ذلك ضمير الانسانية والنظام الدولي ومصداقيته … والسبب الحقيقي في امتناع أوباما عن دعم الثورة السورية هو طغيان الشخصية الإسلاموية عليها ( وهذا له بعد تمييزي عنصري ) وربما إذا أردنا أن نغمض أعيننا عن هذه الحقيقة نقول لأنها تتبنى فكرة المؤامرة ، والحرب الصهيو – صليبية ، وتحالف الماسونية والغرب جملة ، ضد الإسلام والمسلمين عامة ، على اعتبار أن الإسلامويين هم الصورة الطبيعية عن المجتمع السوري . وليسوا مجرد قناع  شكلي اعلامي مؤقت وعابر فرضته الظروف القابلة للتغيير .

ولكي نتحدث عن الحل يجب أن نقدر حجم المشكلة :

يقدر عدد المقاتلين الأجانب مع المعارضة 7000 مقاتل ، جاؤوا من عدد كبير جدا من الدول أهمها تونس واليمن وليبيا ودول الخليج . وتقدر قوة داعش الثابتة في سوريا ب 10 الاف نصفهم أجانب ، وتسيطر على 45% من الأرض،  وعلى معظم موارد المناطق المحررة .. النصرة كانت توازي داعش لكنها بدأت بالتراجع بسرعة ، وتتجه الأغلبية فيها للاندماج مع داعش وتضم نسبة 20% أجانب في صفوفها . بينما تسيطر بقية الجبهات الاسلامية وما تبقى مما يسمى بالجيش الحر على 15% فقط من الأرض ، مع أن عددهم يقترب من 80 الف مقاتل أي لدى المعارضة 100000  مقاتل فعلي ، وهناك قوات احتياطية مسلحة بذات العدد لكنها لا تشترك عمليا في القتال ، أما عدد المستعدين للقتال فيبلغ عددهم أيضا قرابة 200000 ، ويمكن اطلاق حملات تطويع تصل بالعدد لنصف مليون ، كما يمكن من جهة أخرى استقدام الكثير من الأجانب بتغيير الأيديولوجيا والهدف ( كطرح شعار تحرير القدس مثلا ) أو بنشر المزيد من الفوضى في دول الجوار  وهذا سهل ومتاح بسبب هشاشة هذه الدول وتهافت أنظمتها ..

في حين يسطر النظام على أهم 40% من الأراضي . ويقاتل معه    10آلاف  مقاتل من حزب الله ( حالش )  ومثلهم من الحرس الثوري الايراني و من العراق ومن دول أخرى ( أي  20000 مقاتل أجنبي يقاتلون مع النظام  كميليشيات شيعية متطرفة ومرتزقة ومجرمة .. وهم ما يفوق عدد داعش في سوريا والعراق معا ) ، و يقاتل حوالي 20000 في صفوف  حزب بي واي دي المتحالف مع المخابرات ، وهناك لجان شعبية محلية حزبية وشبيحة تعمل مع النظام يقترب عددها من 20 الف  تساند ما تبقى من جيش النظام وهو بحدود 60 الف بينها نخبة الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والقوات الخاصة التي تحتفظ بقدراتها لحماية النظام والمنطقة الساحلية . وتفقد القدرة على شن الهجوم البري من دون مساندة من مليشيات أجنبية . وتعتمد في دفاعها على تفوقها الهائل في العتاد وعلى سلاح الطيران .

وهكذا نرى أن فاعلية داعش ليس في تعدادها ولا في شعبيتها ، بل في قدرتها التنظيمية والادارية التي تعتمد مبدأ الترهيب والانضباط المطلق المحروس بالتصفية . وما تمارسه من قتل وذبح يجعل سمعتها تسبقها وتدب الرعب في صفوف اعدائها .. والتعامل مع هكذا ظاهرة ليس صعبا حتى الآن إذا توفر الاستثمار الصحيح بالإدارة والتنظيم والتحكم والقيادة واحتلال الأرض والتمركز بها واعادة الحياة القانونية اليها ، وكل جهد دولي في هذا الاتجاه سيلاقي قبول وتعاون شعبي كبير ، فداعش تدين بوجودها للفراغ الذي تركته المعارضة السورية في المناطق المحررة ، والسبب الرئيس في هذا الفراغ هو كون هذه المعارضة  في الخارج و كونها مشكلة من وكلاء دول خارجية وليس من قادة حقيقيين ، ثم بسبب الفشل الاداري والتنظيمي ، والفساد المالي والقيمي الذي يضرب أطنابه في مؤسساتها … وأخيرا بسبب عدم تأمين حماية جوية تسمح بعودة المهجرين واستعادة سلطة المجتمع في المناطق المحررة.

أما مطلب المصالحة مع النظام للوقوف بوجه داعش ، والذي يسوقه  تيار كبير في الائتلاف ، وروسيا وايران ودول عربية وأجنبية ، والذي عُقد جنيف لتحقيقه ، فهو ما يصطدم برفض النظام أولا وبشكل مستمر ، فهو يلعب ويتلاعب لكسب الوقت ولن يقبل ، وهو ما سيقوي داعش ويجعلها الخيار الوحيد أمام أغلبية الشعب السوري ،الذي عانى الأمرين من هذا النظام  ومن المليشيات الحليفة له، الذي ما يزال يرتكب المجازر الجماعية، ويستخدم كل صنوف الأسلحة في عملية تطهير وتهجير طائفية قذرة غير مسبوقة. وبالمقارنة بين داعش ومليشيات النظام ، فإن أغلب الحاضرات المدنية ستفضل داعش على النظام ، خاصة و أن داعش قادرة على تخفيف قبضتها وتشددها ، مما يفتح امكانية تجذرها في المجتمع حيث سيصعب اقتلاعها منه بعد ذلك .

والخطة الصحيحة للحل في سوريا هي في تقوية وتنظيم الجناح المعتدل في الثورة ، وتشجيع المتشددين للتقدم نحو الاعتدال بالحوار والدعم والمتابعة القانونية ، فالمسائل الأيديولوجية مسائل متحركة وخاضعة للظروف ، ولا أسمي مؤسسات بعينها فكل ما هو قائم اليوم تعبير عن/ وسبب للفشل، وعلى رأسها الائتلاف والحكومة والمجلس العسكري الوهمي . بل لا بد من انطلاقة جديدة بشخوص جديدة ، ومن مكان محدد في الجنوب و في الشمال وبمساعدة دول الجوار الصديقة ، والانتشار منه لتمديده وتطويره بحسب التجربة العملية للتحرير وملئ الفراغ واعادة الحياة القانونية ، والتقدم باتجاه محاربة النظام والجريمة والفوضى والتطرف معا وجميعا .

والخطة العملية هي تشديد الخناق على النظام بتنظيم وتقوية الجناح المعتدل للثورة من جهة ، وتفعيل القوى التي ترضى الانقلاب على النظام  من داخله ، عندها يصبح تطيير رأس النظام ، هو لصالح الحل الوطني وبوابته الوحيدة المتبقية ، حيث يمكن لمساعي حميدة ومدعومة أن تعيد توحيد مكونات الشعب ورص صفوفه ، بعد التخلص من  سبب التمرد واندلاع الثورة وهو نظام الاجرام ، واقامة العدالة ، وفتح باب التغيير الجذري ، عندها يمكن لهذا المجتمع  مواجهة التطرف الذي لن يكون استيعابه والنصر عليه صعبا ، وعندها سنعمل معا على تطوير الثقافة بما يتناسب مع هويتنا ومع مصالحنا المشتركة مع العالم .

وهذا يتطلب عمل حقيقي وفعال ومنتج في جبهة قوى الاعتدال الثورية أولا وأساسا . وبعيد عن مؤسسات الكذب والفساد والتزييف التي ستفسد كل خطة وتبدد كل دعم ، ثم يتطلب العمل من داخل النظام مع المكونات التي تشعر بالخطر الوجودي الحقيقي والمستعدة للدخول في مرحلة جديدة ، وبذلك يتم اطباق الكماشة على النظام واسقاطه ثم التوجه لتحرير بقية المناطق ومنع المتطرفين من الحصول على قاعدة وموارد وأرض تمدهم بالبقاء .

وطالما أن هكذا خطة لم تحظ بعد بالدعم الدولي المجزي ، فإن الصراع سيستمر بين الشعب والنظام ، وتتمدد داعش مستفيدة من الفراغ وتستفيد من الفوضى وضعف كلا الطرفين .. ومن غياب سلطة المجتمع ورقابته التي هي الضامن الوحيد لعدم التطرف . أما تدخل قوى أجنبية لضرب داعش من الجو وترك النظام يقصف الشعب أيضا ، فلن يغير المعادلة بل سيدعم داعش كضحية تدافع عن الناس ، وسيوسع نطاق الحرب ويشجع الارهاب العالمي في كل مكان .. فداعش أيديولوجيا تجد المزيد من الأنصار والمتطوعين عندما ترتكب الأخطاء السياسية والعسكرية ، والتخلي عن حماية الشعوب والتدخل لقتل المزيد منه بحجة الحرب على الارهاب ، سيعطي هذه الايديولوجيا المزيد والمزيد من الشعبية وبالتالي القوة ، ولا بد من تدخل مدروس ومقنع للشعب بأنه هو المستفيد وهو الهدف ، لكي يساهم هو في اعادة بناء حياته بالشكل الذي يضمن الأمن والحرية للجميع ، ويسعى جديا لاستعادة أبنائه من تنظيمات التطرف والارهاب .

وبانتظار ذلك ستقوم داعش بالسيطرة على المناطق المحررة وتنهي كل مظاهر التفتت وأمراء الحرب الذين سيفرون ويرتكون اتباعهم ينضمون لصفوف داعش ( كأكبر أمير حرب منظم قادر على ابتلاع الآخرين ) ، وقد تدخل داعش  في حرب مع النظام ، و قد تتقاسم معه سوريا … وهذا  على ما يبدو  هو الهدف من وجودها والحفاظ عليها حتى الآن ..  كما أن انتفاضة الشعب ضدها واردة الحدوث عندما تنسد الطرق ، وامكانية كسب الحرب عليها لن تكون مستحيلة فهي أيضا هشة ولديها نقاط ضعف كثيرة ، تفتتها بذات سرعة نموها .

يبقى من المفيد أن تجرب الناس أفكارها ، ويتعرف المسلمون على حقيقة ما يحملون من ثقافة، و على تجسيدها الفعلي … ليدركوا أهمية اصلاح ما يحملونه ، وما منع عليهم التفكير فيه ، وقدم لهم كمسلمات مقدسة ، فداعش رغم تخلفها هي عامل ضروري جدا في الثورة الثقافية،  عملا بقول لينين خطوة للوراء خطوتان للأمام .. فالشعوب لا تتعلم في المدارس ولا ن قراءة الكتب بل تتعلم فقط من تجارها وهي لن تحديد حتى تقع في الحفرة ، بل هي تشبه الحمير الذين لا يتعلمون الا بعد ضرب رؤوسهم بالجدار ، فكم عانينا عندما عارضنا النظام وكانوا يعتدون علينا تقربا منه ، ويسخرون منا ويبالغون في الهتاف له .. فماذا كانت النتيجة .. فهل يتعلم الشعب من تجربته بكل مرارتها …

وهل يفهم الغرب  أن السحر ينقلب عادة على الساحر ، واستخدام النظام وداعش كأدوات لتفتيت وتغيير وتدمير المنطقة سوف يدمر أيضا ما لا يريدون تدميره فيها … وأن الإرهاب  لا يحارب بالاستبداد  الذي يصنع نقيضه بيده ، و أنه لا استقرار من دون ضمان فرص العيش الحر الكريم للشعوب .  فالشعوب لن تعدم الوسيلة في نضالها من أجل حقها ، ولن يهمها ما يطلق على تلك الوسائل من تسميات . فأهل مكة أدرى بشعابها . ومن يريد مساعدة هذه الشعوب لن يعدم الوسيلة ، ومن يتآمر ليسلط عليها من لا ترتضيه أصبح مكشوفا ، فهو من يزرع الارهاب عن علم أو جهل ، لأنه لا يصح الا الصحيح ولا ينتصر الا الحق والمعادلة بسيطة جدا وهي تنطبق على كل المنطقة بما فيها مصر  وغيرها :

( استبدادß    ارهاب )   X   ( ديمقراطية ß استقرار )

وفي نهاية هذا البحث الطويل أردت أن نصل لنتيجة أن داعش تهلكة لنا جميعا ، وهي من صنع من يدعي عداءها (من نظام وغرب ومعارضة )، فهي تعبير عنهم جميعا ، وحصيلة سلوكهم جميعا ، واختزال لحالة الحرب الأهلية التي نخوضها ضد بعضنا كلنا وجميعا ، وتعبير عما نحمله من تناقض وتشوه عقلي وفكر متزمت وكراهية وانحطاط خلقي ونسميه ثقافتنا وديننا  … وكل من وجد نفسه في صفوف داعش هو ضحيتنا بصورة أو أخرى ، و من يريد أن يرمي داعش بحجر عليه أن يرى ما في داخله من داعشية وتدعيش ، وحالشية وتحليش ، ويكف عن السلوك الذي يوجدها ويبررها ، فالحرب على داعش هي ثورة على الذات أولا . وإذا لم نصل إلى هذه النتيجة فنحن لن نكون قادرين على الخلاص من التهلكة التي قدنا أنفسنا اليها بأنفسنا ، وبمساعدة الصديق قبل العدو … أما إذا فعلنا فتكون داعش قد قدمت لنا ما خلقها الله لأجله ، وهو كشف خطايانا جميعا .

انتهى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.