د. كمال اللبواني
إذا كانت ظروف الحرب الظالمة الهمجية التي يفرضها النظام أو الاحتلال على أي شعب مسلم تعزز في نمو وهيمنة الحركات الجهادية ، وتساهم في تشددها المتصاعد ، كوسيلة وحيدة متوفرة للدفاع عن النفس، بغياب أي نظام دولي ضامن للعدالة أو جهد أو مساعدة خارجية ، وفي مواجهة تحالف دول طائفية عدوانية … فهل ستكون الرغبة في السلام التي ستعقب النصر ، أداة لتلطيف تلك الحركات أو حتى القضاء عليها ؟
عادة يوجد توافق بين الآيديولوجيا والمصالح يعطيها شعبيتها ( فالأيديولوجيا هي صياغة للمصالح بلغة الفلسفة والعقيدة ) ، و لكن هذا مؤقت ومتغير ، فما يظهر اليوم أنه مناسب وجيد ويحظى بالدعم والتأييد والتشجيع والقبول ، قد يصبح غدا عكس ذلك ، فالشعب براغماتي جدا وسريع التغيير ، ويتحرك بالغريزة وليس بالمبادئ ، وتبعا لمصالحه أولا وآخرا ، بينما الأيديولوجيات منظومات شكلية ثابتة تتغير بالتبديل وليس بالتطور ، والحركات الجهادية عموما ( ما عدا الإخوان ) يتحركون بها ، أي بالمعنى والقيمة والمثال المعنوي والنص الثابت الغير قابل للتبدل والتغيير ، وعليه يفترض أنهم سيشعرون بمرارة كبيرة جراء خذلانهم من قبل الشعب بعد انتهاء دورهم ، وبعد كل ما قدموه من تضحيات وأظهروه من بطولات في الدفاع الوجودي عنه ، والسبب أن الشعوب لا تحركها العقائد بل المصالح ، وأنها تستعمل عقائد مختلفة كوسائل لخدمة هذه المصالح ، وهذا ما يجعل بعض الجهاديين يكفّرون هذه الشعوب عندما يغيرون وسائلهم الأيديولوجية.
وهذا لا ينطبق على الجهاديين فقط بل على كل الثوريين المبدئيين المستغرقين في الأيديولوجيا ، لذلك يقال : الثورة عادة تأكل أبناءها ، فمن ينتصر ويقطف ثمارها هم الانتهازيون … وليس الشجعان الذين أشعلوا الثورة وانتقلوا من الخنوع للتمرد ، الذين توجب عليهم دفع أبهظ الأثمان ، فهم عادة ما ينقرضوا أو يتبددوا أو يستبعدوا أثناء تقدمها وبفعل من يرغب في ركوبها ، وكذا حال الرجال الملتزمين المخلصين الذين يسيرون بها ، فهم وقودها الذي يتجدد ويتبدد طالما استمرت ، لكن بعد انتهاء الحرب يصبحون فجأة عقبة وعائقا أمام مصالح الناس الصغيرة، وشريكا طماعا في الحصص، خاصة وأن مصالح الناس البسيطة لا تشكل قيمة في أيديولوجيا المجاهدين ، التي هي معنوية وأخروية، لكن عموم الناس عادة ما يصحون على مصالحهم فجأة بعد زوال الوحش الذي هدد وجودهم ، بينما الجهاديون لا يدخلوا الحرب من أجلها أصلا ، إلا بعد أن يؤدلجوا تلك الحرب ويصوروها كحرب من أجل قضايا أهم وأعظم ، لذلك يطلبون من الشعب متابعة الجهاد من أجل القيم والأيديولوجيا التي حملوها كرايات في ساحات الوغى ، وهنا وعندما تتوقف الحرب ، سيظهر تلكؤ وتمنع وخذلان شعبي لهم ، سرعان ما ينقلب سخطا وخيبة أمل عند الجهاديين الذين قد يمعنوا في تكفير وقهر جماهيرهم واجبارهم ، و هكذا تتحول معركتهم التي بدؤوها للدفاع عن الناس ، لمعركة ضد صحواتهم على مصالحهم . بعد أن استبدلوا تلك المصالح بأيديولوجية جهادية أثناء الحرب ، وفهموا تلك المعركة وكأنها معركة من أجل القيم ، وليس المصالح ، وصدقوا أنفسهم والأيديولوجيا التي صنعوها كغاية ، وليس وسيلة ، أو مجرد غلاف مؤقت مختلف نوعيا يقوم بستر المصالح تحته وضمنه .
تتلخص المسألة هنا في أن الهدف الثابت الذي يحرك الناس ويوجه سلوكهم هو المصالح ، وأن الأيديولوجيا عبارة عن شكل يصوغ تلك المصالح ضمن قالب شعاراتي فلسفي موحد للجهود بالتناسب مع ظرف معين ، وأن هذا الشكل والأداة سرعان ما يتناقض مع المصالح عندما تتغير الظروف ، وأن الأداة الأيديولوجية التي تفيد في زمن الحرب ، لا تصلح بعده ، أقصد آيديولوجيا الجهاد والثورة عموما والتي يبالغ فيها بسبب توظيفها العسكري والعنفي المطلوب لإحداث تغيير ثوري ، وأن المجاهدين والثوار يمعنون في تصديق تأييد الشعب لهم ، ويعتبرونه مؤبدا وايمانا راسخا بأيديولوجيتهم ، وبالتالي سيحاولون الاستمرار بآيديولوجيتهم بعد أن ينجزوا نصرهم في المعركة ، لكنهم سرعان ما يكتشفوا مقدار الخذلان ومقدار الميوعة وضعف الذاكرة التي تتحلى بها الجماهير … التي ستسير وراء غيرهم ممن يسير بهم نحو مصالحهم الخاصة المباشرة واليومية الصغيرة ، والتي يشترط الجهاديون التضحية بها في سياق المبادئ الكبرى التي رفعوها ، وهذا ما يمتنع الشعب عن فعله بعد زوال الخطر الذي يهدده ، والذي ما كان ليقبل به لولا مواجهة خطر أدهى منه ، فالقيمة ليست للعقائد بحد ذاتها ، بل للمصلحة منها ولتوظيفها في معركة فرضت نفسها ولا مهرب منها . ( أي أن العقائد وسيلة وليست غاية رغم اسمها ، وأن المتبع بشكل طبيعي وعادي هو المصلحة )
وهكذا تنطلق بعد انتهاء الحرب والوصول للسلطة وربما قبلها عملية التنافس على الثروة والسيادة ، وهذا ما يفرق ويثير النزاعات والنزعات الأنانية ،( وهو ما عُجّل به وبشكل مخجل عندما تم الاعتراف بالمجلس الوطني أو الائتلاف في الخارج كقيادة قبل نجاح الثورة) فهم يعيشون السلم والرخاء في الفنادق ، ويستلمون السلطة الوهمية ويتصارعون عليها حتى قبل سقوط النظام ، و قد استبقوا المراحل ودخلوا باب النزاع والتقاسم الأناني في زمن كانت الثورة بأشد الحاجة للتوحد والتضحية ، ولم تعتمد آلية لانتاج قيادة من الأرض ومن المعنيين ولم يترك لهم حق محاسبتها وتجديدها ، وهذا ما أسس للفرقة والتنافس على المنافع ، ولافتراق القيادة عن الأرض ، بينما ظروف الموت والقهر وأمل النصر توحد وتدفع للتضحية ، وهي التي تجنبوها وعاشوا في الفنادق ووهم السلطة وهذا ما طبع دورهم وسلوكهم وتسبب في فشلهم بسبب خطأ في الجغرافيا ( القيادة في مكان وظرف مختلف تماما عن الواقع ) ، بينما تشتت الداخل بسبب حرمانه من القيادة ومن آليات التوحد والتنسيق والإدارة والتحكم التي تعطي القوة والفعالية في المعركة …. وهكذا تكرس انقسام خطير بين أيديولوجي متشدد يقاتل في الداخل عليه أن يموت ، وانتهازي مصلحي يتنازع على السلطة والمكاسب في الخارج عليه أن يقود ذلك المتشدد.
فاستمرار حماسة الناس للحرب والقتال بعد زوال الخطر الذي يهددهم يبدو صعبا جدا ، عند معظم الناس الذين هم مصلحيون وليسوا آيديولوجيين … وهكذا يتوقف قطار الثورة عادة عند أول محطة للمكاسب المادية والأمن والاستقرار والسلطة ، ومن يريد أن يتابع في قطار الأيديولوجيا سيتابع في قطار فارغ على سكة يحملها الهواء . عندها سيضطر لاستعمال قوته وجبروته في الزام الناس على الركوب معه ، وبالتالي سيخوض معركته في محطة السلطة ذاتها وتنتهي ثورته بها ، فالسلطة هي مقتل الثورة ، و عند أبواب السلطة يقتل ويدفن كل ثوري ، وبيد ركاب القطار ذاتهم الذين قادهم وسار بهم نحو بر الأمان ، وكل ما يتوقع أن يحصل عليه بعد قتله هو التباكي المزيف واللطم ، لكن أبدا لن يسمح له بالسير خارج مصالح الناس مترا واحدا … لذلك باشرت داعش بقتال الناس على أنهم صحوات قادمة ، مستبقة حدثا جرى معها في العراق . و تركت قتال النظام مبررة ذلك بقتال من هو أشد خطرا في المستقبل على مشروعها وهو المجتمع . (وفي هذا مثال نموذجي عن الإفراط الذي ينقلب لضده وعن التكفير الخارجي ) .
معظم مجاهدي الإسلام المخلصين الأوائل الذين عاصروا الرسول ونصروا الدعوة سقطوا شهداء في معارك الصراع على السلطة عندما صار للإسلام دولة وخراج ، ومن حكم في النهاية وحقق الاستقرار ليس المجاهدين والصحابة التقاة بل التجار الذين يفهمون جيدا جدا لغة المصالح ( السياسة ) ... وهذا بالضبط ما ولد نزعة الخروج والتكفير عند الأيديولوجيين ضد الغالبية التي هي مفطورة على الغريزة والمصالح وليس عبودية القيم والمعاني … وعدم ادراك ذلك الدرس سيوليد نزعات الخروج عند قلة من الناس يهزمون أنفسهم ويلغونها ليعيشوا في عالم النص والمعنى ، ويريدون اجبار الناس أن يكونوا مثلهم عبر تقديس أيديولوجيتهم … فهم قد نجحوا في قتل أنفسهم كغريزة باستخدام التقديس ، ويطلبون من الآخرين فعل ذلك ، وعندما يرفضون أو يتلكؤون يبررون قتلهم بتكفيرهم … فالموت وليس الحياة هي النتيجة في الحالتين ، إما أن تقتل غريزة نفسك ، أو تفجر جسدك إذا عجزت ، أو تقتل غيرك الذي يحتفظ بغريزته، أو تقاتله فيقتلك كخارجي ارهابي، وليس كمجاهد متخلي عن الدنيا ، يطلب من غيره التخلي عنها أيضا لكن بالقوة والإكراه و(في سبيل الله) ، وإذا رفض يتم قتله ككافر عندما لا يطيع سلطة المجاهد عليه التي يستمدها من الأيديولوجيا المقدسة التي تبرر حد الردة …
فالأصل في هذا العقل المؤدلج هو الافراط والغلو ( الذي ينقلب لضده ) ، وفيه عدم فهم لطبيعة البشر ، أو لحتمية تبدل الأزمان ، أو الفارق بين المجتمع والرياضيات ، أو بين الواقعي والمثالي … وعلاجه الاعتدال والوسطية… وهو ما يتجنبه الجهاديون اليوم كضرورة لتوليد الحماسة والشجاعة، في معركتهم المصيرية التي لا ترحم والتي تعتمد أساسا على قدرتهم على التضحية بالنفس، التي يطالبهم العقل الوسطي بالتمسك والاعتراف بها … أي بعكس حاجتهم ، فالتناقض هنا حقيقي بين الوسطية التي لا تخدم في الحرب ، وبين التطرف والتعصب والتشدد الذي يعتبر حاسما فيها ، ولكنه مدمر في السلم .
وهكذا تذهب جهود المجاهدين الهائلة إلى غيرهم على شكل نصر وسلطة وأمارة وثروة يحصل عليها المتسلقون والانتهازيون … ولن يحصل المجاهد في هذه الدنيا إلا على ثواب الآخرة ،التي انتقل اليها عاجلا و آجلا بمبدئيته المفرطة أو بشجاعته التي تودي بهم للموت ، أو حتى بأوهامه التي تلغي واقعه وتستبدله بتصوراته الأخروية الافتراضية ، فالدنيا ليست عالم المجاهدين .
وعليه ، فالآيديولوجي الجهادي هو من وجهة نظر واقعية شهيد فعلي حتمي، ألغى نفسه وضحى بها وهو على قيد الحياة ، قبل أن يسقط جسده في المعارك التي تجذبه إليها من كل حدب وصوب ، ولا ينسجم عمله الانتحاري منطقيا مع سعيه لمكاسب أو سلطة في الدنيا ، فهو مشروع شهيد ، وليس مشروع زعيم ، ومعظم الناس لا تفضل أن تكون شهداء بل زعماء ، و تفضل الموت بهدوء وخلسة ورغما عنها ، على سرير الاطمئنان والرفاه وتحت أجهزة الانعاش ، فهم يرون أن حب الحياة والعمل فيها هو طريق الجنة ، ولا يرون أن القتل أو الموت أو الغاء النفس هو شرط لازم لتحصيلها ، فالشهادة ليست الطريق الوحيد نحو الجنة والتقوى … وهم لذلك إما سيكذبون ويدّعون الجهاد ثم يتثاقلون للأرض عند النفير ، ويستبدلوا الجهاد بالعبادات الغير مكلفة ( إخوان ، وصوفيين ) و يتمسكوا بحرفية العبادات ويركزوا عليها ليتجنبوا واجب الجهاد، أو سيتبعون أيديولوجيات صغيرة ودنيوية ليست ذات قيمة معنوية ( علمانيين ).
والخلاصة أن الجهاديين الشجعان سيقاتلون بضراوة ، لكن النصر في النهاية هو للعلمانيين الانتهازيين … ويبدوا أن الإخوان المسلمين قد فهموا ذلك جيدا ، فتراهم مجاهدين في التدين والعبادات المجانية عندما توجد المعارك التي تحتاج لمقاتلين ، ثم تراهم علمانيين أقحاح ذوي أنياب حيث تتوفر السلطة والمال …
فلا نامت أعين الجبناء .