د. كمال اللبواني
ليس الصراع الدائر في سوريا والمنطقة حربا بين بني أمية وبني هاشم كما يصورها الإيراني ، وليست بين علي وآله و بين معاوية وبنيه ، وليست بين الدين الحنيف وبين الشيع والملل التي انحرفت عنه ووصلت حد الردة كما يصورها السلفيون السنة ، لكنها صراع على البقاء بين ثقافات ونظم اجتماعية اسلامية قديمة عجزت عن الاستمرار في وجه الغزو الثقافي الغربي الذي تخلى عن النمط الاجتماعي الديني المسيحي، وطور ثقافات مختلفة كثيرا ونظما للحياة تتناقض مع تعاليمها وأشكالها ، فالثقافات القديمة المؤسسة على التعاليم الدينية أصبحت تعاني من أزمات وجودية تحت ضغط الحداثة، مما يجعلتها في صدام مباشر مع العصر و مع الخارج المتقدم عليها ، الذي حول صراعه معها لصراع داخلها وبين مجتمعاتها وألوانها ، ونجح في نقل معركته مع التشدد والارهاب الديني الاسلامي بشكليه السني والشيعي لحرب بينهما ، ونجح في ادارة وادامة هذه الحرب بانتظار أن تقوض تلك الثقافات المعادية له بعضها البعض.
حول النظام السوري صراعه مع الشعب الذي انتفض ضد استبداده وفساده لحرب ابادة وتدمير وتهجير ، وحرب طائفية وصراع اقليمي عندما استعان بقوى المقاومة الاسلامية الشيعية التي تصورت أن الغرب يستهدفها بدعمه للثورة السورية . ولم تنجح قوى الحداثة الثائرة في ادارة الصراع العنيف مع هذا النظام وحلفائه ، مما استدرج القوى الجهادية الدينية السنية لمواجهته بكل ما تحمله من طاقة عنف ، وهكذا تحولت بسرعة الثورة الديمقراطية على الاستبداد الستاليني ( الربيع ) التي ايدها الغرب وأشعلتها قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة ، لصراع بين الجهاديين السنة والشيعة المعادين للغرب والحداثة والديمقراطية والحرية والمرأة ولبعضهم البعض … وهذا ما حول دعم المجتمع الدولي لها إلى سعيه لادامة الصراع الجديد بين قوى التطرف أطول فترة ممكنة باللعب على توازناته ….
فالحرب الحالية الدائرة هي من ناحية الشكل والمظهر حرب عبثية بين القديم والقديم ، بين المتشدد والمتشدد ، وليست بين جديد أرقى وقديم يقاوم التغيير ، وليست لتغيير سياسي أو ثقافي ، بل تأخذ شكل حرب افناء وتدمير وجودي، تدور بين قوى منغلقة عاجزة عن الاندماج المرن مع تغيرات العصر … بسبب قساوة وانغلاق أشكالها الثقافية التي لم تعد متوافقة مع نمط الحياة العصري ، والتي وجدت نفسها في صراع مع أجيال جديدة بدأت تتمرد عليها ، فافتعلت ظروف الحرب للتعمية على الصراع الحقيقي داخلها ، لتجديد شرعية تسلطها وقمعها لكل مختلف مطالب بالحداثة بل تخوينه وإقامة حد الردة عليه .
معروف أن الثقافات تبنى حول منظومة قيم تشكل نواتها التي تتكون عليها باقي الروابط والعلاقات والنظم الجمعية ، وفي هذه القيم يلعب الدين دورا رئيسيا . وهكذا وتبعا لمنظومة القيم تتلون الثقافات وتتشابه أو تتعارض ، لكن الحرب الطائفية التي أشعلها قمع النظام أعادت للعمل منظومات قديمة من القيم وبالتالي الثقافات للحياة ، ( أقصد منها تحديدا الجهادية الدينية والمذهبية العسكرية) ، فالنصر العسكري الذي يتطلب تعزيز وترسيخ هذه القيم والثقافات يجعل من استعادتها ضرورة وحاجة للدفاع، وهكذا رأينا كيف أن أقسى المنظومات الثقافية الإجتماعية تعود للحياة وتسود وتهيمن على العمل العسكري ، وتمتد أيضا للعلاقات الاجتماعية و نظم السياسة والقضاء و المنطق والعقل … حتى صار الربيع الحداثي العربي ، عودة للظلامية المنغلقة العنيفة …. التي تعتمد أساسا على الكبت الجنسي لتوليد العنف السياسي ، وتحرص على توليد وتجديد هذا الكبت باستعادة تلك المنظومات الثقافية القديمة التي تمتد لعصور وظروف تاريخية مختلفة ومتخلفة ، مصورة لها أنها الدين القويم .
وعليه فإن الكثير من الناس قد وجدوا أنفسهم خارج الاصطفاف الثقافي الحالي ، خاصة الذين لا يشتركون فعليا في الحرب ، أو استطاعوا الفرار من نيرانها ، كما ذهب البعض لتأييد بقاء النظام القديم خوفا من الردة الثقافية العنيفة نحو الماضي … بينما تخلى كثيرون عن المعاصرة والحداثة وعادوا للماضي المعتم ، رغبة في تحقيق النصر العسكري في معركة الوجود، وهكذا اختلطت الأوراق ، وتداخلت الصراعات واستعرت الحرب في كل صعيد عسكري وقيمي وديني واجتماعي … ترسم الصورة الكاملة للحرب الأهلية المطلقة الشاملة … التي يستعمل فيها كل شيء كسلاح ، ويحطم ويقوض كل شيء بما فيها الانسان والتاريخ .
هذا النوع من الحرب ينتقل لداخل الأسرة والمنزل ويصبح بين الإنسان وذاته ، وهو ما يحرض بشدة عملية البحث عن الخيارات ، وهو ما يهيئ لمراجعة شاملة وتفاعل عنيف بين الماضي والحاضر وبين المقدس والمعاش ، وبين دوافع النفس وحاجاتها المختلفة … فالصراع الذي يبدو بين الشعب والنظام ، و بين الطوائف و العقائد ، و بين النظم السياسة والشرعية . هو في العمق صراع داخل كل منها ، تحاول الهروب منه بتأجيج حروبها مع الآخر … لكنه في أساسه صراع بين القديم والجديد، بين ثقافات اجتماعية جنسية سياسية متناقضة ، توظف المرأة والسياسة والدين ( الثالوث المحرم ) بطريقتين متناقضتين ، إنه في الحقيقة صراع داخل النفس الإنسانية ذاتها التي يمزقها التناقض أيضا .. وهو في النهاية سيجبرها على إجراء مراجعة شاملة، وسينتهي بولادة ثقافات جديدة بعد فشل القديمة في حسم الصراع الدائر بينها ، ليس بسبب توازن القوى ، بل بسبب عبثية هذا الصراع حيث لا فرق حضاري بين انتصار أي من طرفيه الذين لا يحملون أي مشروع حضاري لشعوب المنطقة ، بل فقط أيديولوجيا العنف والقتل والتدمير .
هذا هو الجانب الذي يجعل من الحروب والأزمات مولدا للحضارات … لأن الثقافات هي تفاعل بين الإنسان وظروفه ينظم بواسطتها البشر قيم ووسائل عيشهم ، فهم محكومون بالظروف أولا وأساسا ، وليس بالموروث الثقافي ، أو المستورد منه ، ولكي تعيش الثقافة وتستمر يجب عليها استيعاب الواقع والمتغيرات ، وقد تستطيع ثقافة ما أن تعمل في فترة معينة تحت تأثير ظرف طارئ عسكري مثلا ، لكنها لا تستطيع الصمود بعد زواله نتيجة الضغوط الناعمة والقوية للحاجات والرغبات التي تقوض وتحطم تلك الثقافة بسلاسة أو بالقوة … تبعا لمرونتها …
المطلوب أن نفهم أن الثقافات التي تسود اليوم هي (طارئة وظرفية محكومة بظروف الحرب )، ولن تستطيع البقاء في السلم ( أو لأنها لم تستطع الاستمرار في الهيمنة ، افتعلت الحرب الوجودية الرهيبة التي زجت مجتمعاتها فيها لكي تستعيد جمعها عسكريا تحت قيادتها ) وهذا ينطبق على النظام السوري والنظام الإيراني المقاوم ، والحركات السلفية الجهادية المختلفة الأشكال الطالبانية والقاعدية والاخوانية ، وإذا كانت اليوم تبدو قوية وضرورية ، فهذا لا يلغي حتمية زوالها في غد مختلف ، أي أن كل أشكال الاصطفاف الحالية عابرة ومؤقتة ولا تصلح لتبنى عليها الدول والحاضرات ، وبالتالي ليست الأساس للاستقرار السياسي النهائي الذي يرسم الجغرافيا السياسية للمنطقة … التي يجب أن تبنى على ظروف العيش والمصالح وما تقترحه من رغبات وحاجات ، والتي تمتلك قوة أهم كثيرا من صنمية العقائد … التي ستخضع لعمليات تحييد وإزاحة تبعدها عن التطبيق وتعود بها لرفوف متاحف التاريخ ، ليبقى فقط ما ينفع الناس ويسهل عيشهم … فالبشر محكومون بالتعارف والتشارك والعيش المشترك ، ومحكومون بطبيعتهم الإنسانية وفيزيولوجيتهم الفطرية ، ومحكومون بظروف عيشهم ومستوى تطور أدواتهم ، وبالتالي يبقى فقط ما يحققها جميعا بشكل منسجم وسلس .
فهل سننجح بعد انتهاء الحرب في تجاوز ذواتنا الأسيرة والمنغمسة في الحرب ، ونتحرر من الأنماط الصنمية التي سادت فيها، وننطلق نحو مستقبل مشترك جديد … ؟ لننتظر أولا كي تضع الحرب أوزارها … فظروف الحرب تختلف جذريا عن ظروف السلم … وثقافاتها تختلف … لكن شكل نهاية هذه الحرب سيحدد من سيبقى ويستمر على هذه الأرض ومن سيندثر ويهجرها … وكسب معركة البقاء هي الآن أولوية حتى لو كانت بثقافة متعصبة بل مفرطة في الانغلاق … فهي ليست أكثر من سلاح يستعمل للبقاء ، في مواجهة خطر وجودي … فحن لسنا في تنافس ثقافي وقيمي و تباري حضاري طبيعي ، بل في معركة بقاء تستخدم فيها كل صنوف الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بما فيها الثقافية. والكثير جدا من الناس يقبلون ويسكتون عن هذه الثقافات التعصبية لكونها تخدم غرضهم المرحلي الذي فرضه عليهم سلوك النظام وحلفاءه ، وذات الشيء يحدث في الطرف المقابل حيث ينغمس أتباع النظام في ذات النوع من الثقافات البائدة نتيجة خوفهم الوجودي …
الصراع الدامي الرهيب الجاري يدفع لاستخدام كل أنواع الأسلحة ، ومنها سلاح الثقافة ، فالمجموعات أعادت للعمل ثقافات قديمة لكنها فعالة في الصراع ، وتمسكت بها وجعلتها ثقافتها التي تقاتل تحت علمها ، ليس حبا بها بل لضرورتها ونفعها ، فهي وسائل عسكرية مخصصة لزمن الحرب ، وليست ثقافات فعلية يراد العيش فيها … إنها رداء الحرب التي تخلع حتما عند انتهائه ….
فرحيل النظام وهدوء نيران الحرب ، سوف يقوض تدريجيا هذا المسار ويعيد الأمور لطبيعتها ، وتزول مظاهر الانقسام العنيف بين المجموعات … ليظهر حجم المشترك والمتشابه بين أبناء المنطقة وبين الشعوب والبشر ، وليظهر الصراع بوجهه الحقيقي كصراع بين ثقافة قديمة منغلقة عصية على التطور ، وبين ظروف الحياة العصرية التي صارت تتناقض معها .. وهذا ما يجب تذكره وضعه في الحسبان دوما. فالصراع الحقيقي بين ثقافتين جنسيتين سياسيتين واحدة قديمة تتمسك بشرعيتها مستغلة الدين ، الذي طبق بواسطتها في الماضي . وجديدة تعلمنت وتحررت منه لتبدع وتطور نظم الاجتماع والعلاقات بما يتناسب مع تطور وسائل الحياة والانتاج ، ولم تنتظر شرعيتها من الدين… بل أهملت قيم الدين ودوره ، والتي يمكنها أن تتحقق في أشكال مختلفة متغيرة تناسب مراحل التطور التاريخي ، وبدل تطوير نظم عقل الدين وتطوير الثقافة التي تقوم عليه ، تم رمي الإثنين معا ، مما أحدث فجوة أخلاقية قيمية في العصر الحديث ، تسببت في أزمات عالمية كبيرة ، وتقوم الحرب الحالية في الشرق مهد الديانات في محاولة اعادة الاعتبار لهذه القيم الخلقية المقدسة ، لكنها تحتاج أولا للفصل بين جوهر العقيدة وأشكال تطبيقها الإجتماعية والسياسية ، وهذا ليس بالأمر السهل …
فشعوب الشرق الأوسط لا تستطيع تشكيل وحدتها على أساس آخر غير الدين والمقدس والأخلاق . وشكل الثقافات الاجتماعية المرتبطة بالديانات فقدت قدرتها على الاستمرار في ظروف السلم ، مما أشعل الحروب التي هي تعبير عن صراع داخلي ، ومن دون ثورة في عقل الدين تعيد قراءة النصوص وتوظيفها بشكل يميز بين المحتوى والشكل ، بين المحكم والمتشابه ، بين الثابت والمتغير ، بين المبدأ والشكل التطبيقي ، سوف يستمر الصراع الأهلي الثقافي ، بأشكال سياسية مختلفة ومتجددة مذهبية وقومية … كلها دخلت في مرحلة الأزمة وصارت عنصرا من عناصرها ، وصار من الواجب تجاوزها جميعا لاعادة بناء السلم والاستقرار ، بما يحفظ الدين ويطور أشكال الحياة الاجتماعية ، وخاصة توظيف موضوعة الجنس والمرأة والسلطة طبقا لظروف العصر والحضارة التي لا تقاوم … لأن الخير هو محور سير التاريخ والمنظومات الخلقية المختلفة ، و لا يمكن مقاومته .
أخيرا وعلى الرغم من كل هذا المظهر المأساوي الذي يسود وطننا . فالأحداث في سوريا كشفت عيوب النظم المحلية والعالمية السائدة في عصر الحداثة والحضارة ، وافتقارها للقيم والمصداقية الانسانية ، وبينت بذات الوقت مقدار همجية الماضي وإثارته للصراعات ، و مدى عجز الثقافات التقليدية والموروثة عن توليد السلم والاستقرار والحضارة ، وبالتالي ستكون كل هذه الأمور موضوع مراجعة أيضا عندما نتوقف عن الرغبة في الحرب ونعود للبحث عن السلام ، الذي لن يستقر من دون تطوير نظم توظيف المرأة والجنس في الثقافة الاجتماعية بطريقة مختلفة … فهو العنصر الأهم في التغيير الثقافي المطلوب … فشكل المنطقة المقبل وثقافتها الجامعة الجديدة لا بد أن تحقق التناغم والتوافق بين قيم الدين وظروف الحياة العصرية ، لذلك ستكون هي المنتج الحضاري الجديد الذي يؤثر في كل العالم ويغير ثقافته أيضا .