يثب

المفاوضات على الزبداني … ومشروع حزب الله

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تحت ستار أخبار المعارك في الزبداني والفوعة تجري سرا مفاوضات مباشرة وغير مباشرة ستحدد مصير الزبداني والمنطقة ، وهي من الخطورة الوطنية والقومية بمكان ، يقتضي منا التذكير به ، حيث لا يجب أن تغرقنا تفاصيل أخبار المعارك العسكرية الجارية في الزبداني وغيرها ، ولا إلحاح المسائل الانسانية ، لتخفي عن أعيننا رؤية ملامح مشروع حزب الله وتطوراته … فما يجري هو حلقة من سلسلة طويلة من التغيير السياسي والديموغرافي الخطير في جبال لبنان، يهدف لانشاء كيان جديد في المنطقة، يخضع مباشرة للنفوذ الإيراني، ويُستخدَم كخنجر جديد في صدر الشرق العربي وعاصمته التاريخية دمشق .

التطور التاريخي للمشروع :

لم تنجح الأغلبية المسيحية في السيطرة على الدولة الجديدة التي أنشأها الانتداب الفرنسي ، الذي عمل على اقامة دولة لبنان الكبير .. ولا في جره للعب الدور المرسوم له كأداة للسيطرة على الشرق الأوسط من بوابته ، في محاولة الغرب المستمرة لاستعادة ذكريات وأهداف الحروب الصليبية . فلبنان المصطنع لم ينجح بتشكيل دولة بل بقي عرضة للقلاقل والحروب ، وبقي دولة فاشلة بكل معنى الكلمة ، يشكل المهاجرون اليه حاليا من الفلسطينيين والسوريين نصف عدد مواطنيه المسجلين ، بينما أدت الهجرة من لبنان لفقدان المسيحيين للأغلبية الذين تقلصت نسبتهم من 70% إلى 30% من المواطنين خلال نصف قرن ، ونمو الشيعة الذين تزايدت نسبتهم في تلك الفترة من أقل من 10% إلى 30% ، وبروز دورهم السياسي المستقل بعد أن كانوا منخرطين في الحركة الوطنية اللبنانية العروبية ، وأول ظهور لهم كان عبر حركة المستضعفين المحرومين بقيادة موسى الصدر المؤسس لحركة أمل كميليشيا شيعية صرفة ، و التي حظيت بالدعم السوري والليبي وتبعت لمرجعية النجف العربية … ثم مع قيام الثورة الإيرانية ووصول ملالي قم للسلطة عملت ايران الاسلامية على اقامة تيار سياسي تابع لولاية الفقيه الإيراني في كل أماكن تواجد الشيعة ومنها لبنان ، وتطور هذا لصراع عسكري بين حركة أمل وحزب الله ، دام لسنوات خاصة للسيطرة على الجنوب واقليم التفاح ، ولم يفكر حزب الله ولا أمل في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب . بل عملوا لصالح نظام سوريا ونظام ايران كوكلاء بعيدا عن المصلحة الوطنية اللبنانية، وهكذا لم تكن علاقة حافظ أسد بحزب الله الإيراني على ما يرام ، بعكس حركة أمل المدعومة كليا من سوريا . ولكن تطور علاقة الأسد الأب مع طهران جعله يقبل بالحزب على مضض وبحدود معينة .

استمر ذلك الحال حتى بدت العمليات الفدائية في الجنوب تجارة رابحة جدا ، عندها فكر الشيخ صبحي الطفيلي رئيس الحزب آنذاك بتخصيص مجموعات للقيام بأعمال مماثلة لما يقوم به الحزب القومي السوري والحزب الشيوعي . وسرعان من اكتشف فائدة وفعالية توظيف مثل هكذا عمليات مقاومة في خدمة المشروع السياسي الإيراني … فسارعت ايران لتنمية القدرات العسكرية للحزب بصفته الجديدة كحزب مقاوم ، والذي حظي برضى من حافظ أسد الذي كان بحاجة لإرسال بعض الرسائل الساخنة للغرب عن طريق غير مباشر ، استخدم البعبع الإيراني بسبب الجفاء المتزايد بينه وبين الغرب على أرضية سعيه للتحول من تابع مطلق لهم إلى شريك له حصة عندما أدرك استقرار نظامه … واشترط لعقد سلام مع اسرائيل ضمان بقائه وأولاده بالسلطة من قبلهم… واستخدم لبنان كصندوق بريد وساحة صدام غير مباشر مع الغرب واسرائيل، يدل على ذلك حادث تفجير السفارة الفرنسية ومبنى المارينز الذي نفذه الحزب في بيروت، وحوادث الاختطاف التي انتهت كلها بوساطة سورية . وتهديد مصالحهم عبر زيادة النفوذ الإيراني في لبنان على حساب النفوذ المسيحي، ولكن بشكل محدود وتحت السيطرة لاستعماله كورقة تفاوض ، فقد أبقى حافظ حزب الله كمقاومة عسكرية فقط ، وحظر عليه المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية التي بقيت حصرا بيد أمل حتى خروج الجيش السوري .

في الداخل السوري عمل الأسد على كبح واعاقة كل عملية اصلاح أو نمو لمؤسسات سياسية مدنية وحرص كل الحرص أن يكون البديل الوحيد عنه هو التطرف والارهاب … وبعد نفوقه وتسلم ولده سرعان ما انقلب على المشروع الاصلاحي الذي وعد به الولد تبريرا لوراثته الجمهورية عن والده ، وتقارب أكثر وأكثر مع ايران بمقدار الجفاء الغربي معه ، والتي استفادت من ضعفه فقررت احكام سيطرتها على لبنان ، وقامت بمساعدته بتصفية قادته السياسيين ، وافتعلت الحروب مع اسرائيل لتعزيز سلطة حزب الله وتعزيز قدراته كمدافع عن لبنان وبديل عن الجيش الهزيل فيه … ثم فجأة عقدت اتفاقية لفصل القوات مع اسرائيل كما فعل الأسد ، وأدارت قوة حزب لله للداخل اللبناني كما أدار الأسد ا جبروت جيشه ضد الدول العربية والشعب العربي في فلسطين ولبنان وسوريا …. ثم شغل حزب الله مكان الجيش السوري الذي كان يحتل لبنان وأجبر بعد تصفية الحريري على الانسحاب منه . وهكذا صار لبنان سياسيا وعسكريا رهينة بيد ايران وتحت أمرة حزب الله كليا بمسلميه ومسيحييه ، ولم ينجح تحالف الحريري جنبلاط جعجع في وقف هذا المشروع فانحوا له ، بينما تحالف معه تيار مسيحي واسع كونه موجه ضد عدوهم التاريخي كوكلاء عن الغرب في مواجهة الشرق المسلم ، ويخدم مشروعهم في اضعافه ( تحالف عون فرنجية أرسلان بقيادة حسن ) .

مع اندالع الثورة السورية ، نصح حزب الله بشار المرعوب بأن لا يقدم أي تنازلات ، ووأقنعه أن الأنظمة العربية قد فشلت في قمع الربيع لأنها لم تستخدم القدر الكافي من العنف والقوة منذ البداية ، وعرض عليه تطبيق ذات السيناريو الذي طبق في طهران لسحق الاحتجاجات الخضراء اثر تزوير الانتخابات هناك … وبالفعل أصبح خبراء القمع من حزب الله وايران هم من يقودون عمليات القمع في سوريا . ولكنهم أخطأوا التقدير ، وفشلوا في اخماد الثورة ، فاضطروا لتعويض النقص بالمال والعتاد ثم بالرجال ، وبعد اقتناعهم بحتمية فشل السيطرة على كامل سوريا ، تقلص مشروعهم ، وتحول لتقسيم سوريا وتقاسمها بين الأقليات بعد تهجير الأغلبية ، واقتطاع قسم خاص بالعلويين ، وقسم خاص بالأكراد ، وقسم للدروز ، وقسم آخر خاص بهم على الحدود اللبنانية يضاف لولاية حسن والفقيه ، وهكذا بدأ الحزب سياسة احتلال وتطهير مذهبي وتغيير ديموغرافي ثابت في مناطق محددة على الحدود بالتدريج وبالتقسيط بدءا من القصير فحمص فرنكوس وصولا للزبداني وما بعدها باتجاه دمشق والست زينب …. في سياق سعيه لاقامة دولة له على الأراضي السورية ، يحكمها حزب الله السوري ويسكنها الشيعة وحلفائهم من الأقليات حصرا ، حتى لو اضطره ذلك لاستيراد شيعة من أفغانستان والعراق … فبحسب سياسة واعلام حزب الله فإن تحرير فلسطين من الاحتلال الإستيطاني اليهودي ، يمبر عبر الاحتلال الاستيطاني الشيعي في غرب وجنوب سوريا ، و تهجير الشعب السوري واحتلال أرضه وتوطين غرباء مكانه ، وهكذا نفذ حزب الله سياسة الغرب لكن لصالحه هو .

لماذا الزبداني :

تعتبر الزبداني الحاضرة السكانية الأهم في سلسلة جبال لبنان الشرقية ، والتي تقع على السفح الغربي منه ، ويفصلها عن سهل البقاع جبل بركاني ضخم جعلها غنية بالماء … والسيطرة عليها تعني السيطرة على مصادر مياه دمشق ومتنفسها ، وعلى مساحات واسعة من جرود الجبال القريبة ذات الأهمية الاستراتيجية العسكرية والسياحية والاقتصادية والتي هي تقريبا خالية وغير مأهوله .

الزبداني تاريخيا هي أقرب للريف اللبناني وهي المحطة الأولى للمسافرين بين دمشق وحمص على الطريق السلطاني الذي يحاذي نهر بردى ، ثم سردى ، ثم نبع بعلبك وصولا لمنبع العاصي في اللبوة فالقصير فحمص ، أي مسير خمسة أيام ، وهذا الطريق تاريخيا محروس بقرى سنية تؤمن الحماية للتجارة والتنقل بين المدن السنية ، وعادات ولهجة ولباس أهل الزبداني تتبع للبقاع وبعلبك ، ومعظم عائلاتها متشاركة مع القرى اللبنانية وتشكل صلة وصل سنية بين البقاع السني وبين دمشق . وهي بسبب خيراتها اعتبر خراجها سابقا وقفا للسلطان سليم وسليمان لتمويل حاكم ولاية دمشق ، وهذا ما تثبته سندات التمليك فيها ، وقد كانت تتبع اداريا أيام العثمانيين لقضاء راشيا ، أي أنها جغرافيا زيادة على توسطها لطريق دمشق بيروت ودمشق صيدا ودمشق حمص ، هي تنفتح جنوبا على جبل الشيخ باتجاه جنوب لبنان على ( سفحه الغربي )عبر مزراب البقاع الممتد من مزرعة دير العشائر والمنارة ( حمارة ) ثم مرج الزهور نحو مرج عيون فاصبع الجليل ، وباتجاه جنوب سوريا على (سفحه الشرقي ) عبر الصبورة وقطنا وكفر حور وبيت جن وحضر فالجولان …. فهي ذات أهمية جغرافية وعسكرية استثنائية أيضا .

اكتشف حزب الله أهمية الزبداني عندما منح حافظ أسد معسكر نبع بردى للقوات الإيرانية عام 1982 التي أرسلها الخميني للمساعدة في حرب لبنان، لكن حافظ رفض ادخالها لبنان واحتفظ بها في المعسكر . ثم تحول هذه المعسكر لمعسكر تدريب لحزب الله ( الشبيبة الإسلامية ) وبقي قاعدة ومستودع ذخيرة هام للحزب ، وصار منطلقا لعملياته بعد الثورة … وبنى حزب الله داخل الأراضي السورية مجموعة كبيرة من المراكز والكهوف التي تحتوي كل صنوف الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل ، بينما ايران ما تزال تخطط لاستكمال الجزء العسكري من برنامجها النووي في هذه المراكز ، التي تقع على الحدود اللبنانية داخل كهوف في مناطق وعرة في الأراضي السورية ، فهدف ايران في حال تعذر بقاء الأسد هو تحويل سوريا لدولة فاشلة تتقاسمها المليشيات التي تحظى بدعم ايراني ( كداعش ) والبي كي كي وشبيحة بشار وشبيحة القطنار …. وشبيحة عون ومليشيات الأرمن …. وأحمد جبريل …. ووو حزب الله . وأن تخدع العالم بتوقيع الاتفاق النووي بينما تتابع انتاج سلاحها في مكان بعيد عن الرقابة . وهذا هو سبب اصرارها على احتلال هذه المنطقة ، وتمديد أمد الفوضى في سوريا … حتى تمتلك السلاح وتعلن سيادتها على الشرق العربي مهددة ومبتزة العالم كله .

فهناك على طول سلسلة جبال لبنان الشرقية الكثير من المواقع العسكرية الاستراتيجية الإيرانية المموهة باشراف حزب الله وحده بعد فرار النظام من هذه المناطق . والحفاظ عليها يتطلب الهيمنة العسكرية و السياسية ودعم مسار التقسيم ، ويتطلب أيضا تهجير الحاضنة السكانية السنية التي ترفض تواجد الحزب ، وكانت سباقة بالثورة على النظام وهي لكونها قرى فلاحين يعملون بالزراعة فهي مرتبطة بقوة في أرضها بعكس البدو ، وهي تبدي مقاومة بطولية موصوفة … وهكذا كان اهتمام الحزب متمركزا حول القصير باتجاه حمص ، ثم باتجاه رنكوس ، ثم باتجاه سرغايا حيث مغر الشعرة ، ثم أخيرا باتجاه الزبداني التي تربطه بدمشق وجنوب سوريا ، وتؤمن له المساحة الكافية لاقامة دويلة عسكرية مارقة ، مع اقتطاع جزء من دمشق يتبع لولاية الفقيه …. ويمنع قيام أي دولة سنية كبيرة وقادرة على حربه في الجنوب السوري ، ونجاح هذه السياسة يتطلب تدمير سوريا بشكل منهجي ، وتهجير سكانها وتسليم من تبقى لقوى متطرفة ارهابية محاربة دوليا … لكي لا تقوم لها قائمة . وكل ذلك يجري على عين ومسمع الدول العربية القريبة والبعيدة دون أن تتحرك بشكل جدي بكل أسف . أقصد بشكل خاص السعودية ومصر .

هكذا يبدو المشروع الإيراني أخطر وأخبث وأوسع بكثير من كل المشاريع الاستعمارية الأخرى بما فيها المشروع الصهيوني الذي يتاجرون بمقاومته زورا .. خاصة وأنه يحظى بتواطؤ غربي لم يعد خافيا، كون الغرب ما يزال يتابع بشكل أو آخر تفكيره الصليبي ، وهكذا يبدو أن معركة الزبداني هي مؤشر النجاح والفشل لهذا المشروع لتصبح هذه المعركة عنوانا للمرحلة القادمة ، وعنوانا لمعركة دمشق العاصمة الأموية ورمز التواجد العربي السني في المنطقة ، مما يدفعنا ذلك لفعل أي شيء لكسبها ، بما في ذلك البحث عن تحالفات جديدة وكسر خريطة الصداقة والعداء القديمة التي تجاوزتها الأحداث بل دمرتها ، وعدم استعداء الجميع ودفعهم للتحالف علينا ، فخسارة الزبداني مقدمة لخسارة دمشق كما كانت خسارة القصير مقدمة لسقوط حمص وتفريغها ، وخسارة دمشق تعني خسارة الهوية العربية السنية في الشرق الأوسط عامة ، وتعني دخوله في دوامة من التقسيم والعنف والحروب قد يصعب عليه الخروج منها . فالشرق الأوسط وبلاد الشام لم تشهد الاستقرار الا في ظل الدولة العربية الاسلامية التي حافظت عليه وعلى التنوع فيه ، وأوجدت صيغ التعايش وطورتها ورعتها ، وأفشلت كل التدخلات والاستقواءات بالخارج . وأعطت بلاد الشام هويتها العربية السنية. مما جعلها العدو التاريخي للغرب الصليبي وطهران الصفوية معا .

خطة حزب الله الحالية

بعد استكمال السيطرة على الزبداني ، يتجه للسيطرة على مضايا ثم الوادي ، يهجر المدنيين لمضايا ليطبق عليها حصارا وتجويعا ينتهي بتسليمها الكامل والنهائي وتنظيفها من جيوب المقاومة ومن السلاح … وينهب البلدة الغنية . وقد يستمر في الضغط عليها لافراغها هي أيضا من سكانها تمهيدا لاسكان سكان جدد يأتي بهم .

ويعمد لاقامة سلطة في بلودان ويفرغ المنطقة المحيطة بفندق بلودان ، ويجعل من بلودان حاضنة شعبية موالية نظيفة من أجل استتباب أمنه فيها … وبعد أن يفرض الأمن والاستقرار سيبدأ بنقل المدنيين لاستيطان المنطقة فهو سيحول تواجده من تواجد عسكري لسلطة كاملة مع نقل وتصنيع حاضنة اجتماعية موالية ، ويهيء القاعدة اللوجستية لاستقرار من سينقلهم لسكن المنطقة … ويخرج الجيش والنظام السوري تماما منها كما حصل في القصير وقراه … فهو يتوقع سقوط النظام وبالتالي يحضر البديل السياسي في دويلته الخاصة الممتدة من حمص حتى دمشق مرورا ببعض جبال القلمون … وعبر لبنان … وشعاره فيها مرقد السيد زينب وتحرير القدس … بينما هو يحرر الشام من أهلها وهويتها .

لذلك فمعركة الزبداني حلقة مهمة جدا في تحديد مصير المنطقة ، وأخطر ما يجري الآن هو شرعنه هذا المشروع باقرار مبدأ التبادل الديمغرافي بين الفوعة والزبداني وهو ما يستوجب التحذير من السير به … خاصة مبدأ ترحيل المدنيين من الفوعة وبعدها من نبل … وبرعاية دولية مع أنه جريمة حرب بموجب اتفاقية جنيف الرابعة ، والتي لا تسقط بالتقادم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.