يثب

أوباما… وكوميديا السياسة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

سبق لبعض الشعراء  أن تحدث عن الكوميديا الإلهية ( دانتي  1321) فلا ضير لو تحدثنا عن كوميديا السياسة ، وفي هذا السياق كتب كارل ماركس مقاله الشهير ( الثامن عشر من بروميير ) عن لويس بونابارت حفيد نابليون، الذي حاول تقليد جده (بشكل مضحك) عندما قمع شعبه في انتفاضة باريس 1848 ، التي حولت الحجارة المكعبة التي تُرصَف بها طرقات باريس لسلاح بيد الجموع يقوضون به النظام ويقتلون جنود امبراطورهم الأخرق … فتاريخ المهزلة في السياسة لا يبدأ في شخوص الائتلاف الوطني وشخصيات المعارضة السورية الكركوزية المقيمة في الفنادق وسلوكهم المضحك المبكي، ولا هو فقط في مستوى زعماء العالم الثالث المهزوزين من أمثال القدافي والبشار والبشير ، بل هو مهزلة حقيقية أدهى وأمر تنقلب لتراجيديا عندما يكون في مستوى قيادة أكبر وأقوى الدول التي تهيمن على قرار المجتمع الدولي وتعتبر المسؤول عن تطبيق النظام العالمي . فالعالم بكل أسف لا يحكمه سوى المعتوهين والمعاقين عقليا ونفسيا والمنحرفين أخلاقيا ، أو الضعفاء الفاشلين العاجزين عن فهم السياسة ومتطلباتها . وهذه المؤشرات تسبق الحروب العالمية عادة ، لأن الهزل في مكان الجد ، وغياب التعقل والخبرة ، ووجود الحمقى والمتهورين في سدة القرار … هي من تسهل اندلاع شرارة الصراع.

عندما ترشح لأول مرة رجل أسود لرئاسة أمريكا توهمنا أن الحادث تاريخي، و أن الرجل استثنائي استطاع أن يعوض بذكائه وحكنته عن لون بشرته ، في بلد له تاريخ حافل في التمييز العنصري …

لكن الموضوع بدا سريعا وكأن كل هم المرشح الأسود هو الوصول للبيت الأبيض، لكن بعد أن يصل ماذا يملك من مشروع للرئاسة ذاتها ؟ هذا ما لم يكن في التفكير ، فبمجرد انتهاء حفلات النصر والتتويج ظهر الفراغ الكبير في منصب الرئيس، الذي فضل دور مدير لهذا البيت وليس تحمل المسؤولية كرئيس لأكبر دولة عظمى ، وصار يتردد ويتهرب من اتخاذ القرارات ويحمل الموظفين مسؤولية لم يعتادوها ولا النظام الرئاسي الأمريكي يبررها … فنظام الادارة الأمريكي يعتمد على مركزة القرار في شخص مسؤول يتم اختياره بطريقة ديمقراطية ويحول البقية حوله لمساعدين، ليمارس صلاحياته التنفيذية بطريقة ديكتاتورية ، منعا للبيروقراطية والترهل، ثم يحاسب بطريقة ديمقراطية على أدائه … وهكذا تتصف الإدارة بالديمقراطية والفعالية معا عندما تحول كل موظف في منصبه لرئيس مسؤول.

وبعكس كل الرؤساء الذين سبقوه ، كان أوباما بعد تردده وتأخره يعلن عن موقف في الصباح ليتراجع عنه في المساء ، عندما تصله ردود الأفعال ، مما يعطي الصورة المرتجلة والضعيفة لصاحب القرار .

فقد أعلن بعد طول تردد أن الرئيس الأسد فقد شرعيته ، ثم عدل في ذات اليوم وقال فقد شرعيته بنظر شعبه .

قال أن ذات المعايير التي استخدمت في ليبيا سوف تستخدم في سوريا ، وعندما تمادى بشار في سحق المتظاهرين ، حرك البارجة كول لشرق المتوسط لمدة يومين فارتعب النظام ، لكن أوباما سارع بسحبها للبحر الأحمر لكي يستمر النظام في عمليات القمع مطمئن البال .

طالب بشار بالرحيل ، لكنه لم يفعل شيئا لاجباره فبقي الأسد وتراجع أوباما عن شرطه ومطالبته للأسد بالرحيل ثم قبل أخيرا بدور له في المرحلة الانتقالية … التي ستنتقل بنا من نظام بشار 1 لنظام بشار 2 بوجود بشار 1 ورئاسته .

وضع للنظام السوري  الخطوط الحمراء ، فاختبرها النظام المرعوب بالتدريج فوجدها خضراء ، باشر بارسال الأمن للقمع والتنكيل ثم شارك الجيش ، ثم أرسل الحملات العسكرية ، ثم استخدم الدبابات والمدفعية ثم بدأ باستخدام سلاح الطيران المروحي ثم الحربي ثم صواريخ سكود … فوجد كل هذه الخطوط خضراء ، فأعلن أوباما أن الكيمياوي خط أحمر أي سمح للنظام استخدام كل الأسلحة بما فيها البراميل … ومع ذلك تحداه الأسد عدة مرات ، ولكن ادارة أوباما لم تعترف وبررت أن الأدلة غير كافية ، فقدم لها بشار الدليل الباقر للعيون في مجزرة الغوطة … عندها اضطر أوباما للتحرك وعينه على الهروب . وسرعان ما قبل بتسليم السلاح الكيماوي بوساطة روسية . فسلم النظام جزءا من عتاده واحتفظ بالباقي، وتحول لاستخدام غاز الكلور بدل الزارين … واستمر في القصف الجوي العنيف الذي صار ضمن الأخضر المسموح به.

طالب المعارضة السورية بالذهاب لجنيف الذي سيكون بوابة الحل الوحيد الالزامي ، وذهبت المعارضة الغبية، لنتبين أن جنيف واحد وجنيف اثان وجنيف ديمستورا وعنان والابراهيمي هي مجرد مهزلة وتهريج سياسي .

حرك النظام السوري والعراقي داعش فتجاهلها أوباما ، فقامت بقتل الصحفيين الأمريكيين بطريقة مسرحية فظيعة … عندها تحرك أوباما وأرسل بعض الطائرات ، واحتمى خلف الأردن والامارات في حربه على داعش . فامتدت داعش وأخذت نصف العراق ونصف سوريا ، وما تزال تتوسع …

وعد المعارضة السورية بالدعم لكنه تردد خوفا من وقوع السلاح باليد الخطأ ، وانتهى لتوزيع التاو على من هب ودب بعد التدخل الروسي الذي أحرجه ، وصارت جبهة النصرة ( القاعدة ) هي المعنية بالحفاظ على مصالح أمريكا في المنطقة .

دعم الاخوان في مصر وساعدهم على الوصول للسلطة ثم ترك بعض الدول يمولون انقلابا عليهم ومع ذلك اعترف بالانقلاب وكأن شيئا لم يكن .

وعد السعودية بالدعم في حرب الحوثيين لكنه عطل ارسال الذخيرة لطائراتها ، مما دفع بها لعقد صفقات سلاح مع الروسي والفرنسي .

وعد الفلسطينيين بحل الدولتين ، فهيأ كل الشروط لانهيار السلطة الفلسطينية ، واندلاع الحرب من جديد .

وعد بانهاء معسكر غوانتامو لكن المعسكر بقي ، وسيبقى لأن أوباما وعد بالغائه ، وهو مخالف للقانون الأمريكي والانساني والعالمي .

وعد بالانسحاب من العراق وفعل ، لكنه عاد بطيرانه للعراق وسوريا وليبيا ووو .

وعد بقانون الضمان الصحي وصدر القانون ، لكنه فشل ولم يطبق وصار القطاع الصحي في أمريكا مضرب مثل في الاستغلال والفوضى .

وعد بالاتفاق مع ايران ووقع الاتفاق لكن لن يطبق منه سوى بند فك الحجز عن المال الايراني الذي سيستخدم لتمويل المشروع العسكري . فبعد أن توسل لإيران كي توقع الاتفاق النووي ، وفك الحجز عن الأرصدة تابعت برنامجها النووي العسكري فوق الأراضي السورية وبرعاية حزب الله في مراكز خاصة على الحدود مع لبنان … وما يزال يدفن رأسه في الرمال ولا يريد تفتيش هذه المواقع لكي لا يكتشف العالم أنه أخطأ التقدير .

استفاد بوتين من الفرصة فتحرك لاحتلال أوكرانيا ، فترك أوباما الدول الأوروبية الضعيفة تواجه وحدها الدب الروسي … وهكذا ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وقسم من أوكرانيا ، رغما عن الجميع ومن دون عواقب تذكر … وعندما لم تواجه أي ردود فعل، توجهت نحو الشرق الأوسط وبدأت باحتلال سوريا وتخطط لمد نفوذها للعراق وتطمح لتفتيت تركيا حليف الناتو … وكل ذلك على مسمع ومرأى الغرب والناتو والادارة الأمريكية التي تكتفي بالتحرك الديبلوماسي … وتطالب الطيران الروسي بعدم اعتراض طيران التحالف في سماء سوريا .

في زمن ادارة أوباما تخلت الولايات المتحدة عن معظم حلفائها وتركتهم لمصيرهم ، وتخلت عن مسؤوليتها في تطبيق القانون الدولي، و مسؤوليتها في معاقبة مستخدمي أسلحة الدمار الشامل ، وتعطل مجلس الأمن والمحكمة الدولية ، بل تعطلت جهود الإغاثة أيضا … وأصبح العالم تحت رحمة القوة الغاشمة ، مما اضطر الضعفاء للتشدد واستخدام الانتقام الترهيبي … حدثت في زمنه جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية يندى لها جبين العالم أجمع . دمرت دول ومدن وابيدت شعوب وحدثت أسوأ موجة هجرة منذ الحرب العالمية الثانية ، وهو واقف متفرج … وكأن الأمر لا يعنيه فمهمته هي كمهمة الائتلاف ، أن يجلس في الكرسي ويستريح لا أن يتحمل المسؤولية وأن يكون رئيسا للولايات المتحدة ، ولا مسؤولا عن الأمن والسلام وحقوق الانسان في العالم … مصالحه الخاصة أن يجلس وراء المكتب ويحمل صفة الرئيس … بينما يتدهور العالم من حوله وتعمه الفوضى والحروب وتفشل الدول وتنشأ منظمات الارهاب على مستوى عالمي ، وتتدهور الولايات المتحدة ذاتها التي تفقد دورها ووجودها وتتحول لرجل مريض وعاجز ، في حين يتغول الطغاة والمستبدون مثل بوتين ونظام الحمر في الصين … ويستمر البشار في قتل شعبه دون رادع ولا رقيب … ويستولي الاقتصاد الشيوعي الصيني على الاقتصاد الرأسمالي الغربي ويهمين على العالم .

الكوميديا هي أن توجهك الأحداث لتتوقع نتيجة معينة جدية ، لكنك تكتشف فجأة أن نتيجتها الطبيعية مختلفة تماما عن توقعك المخدوع فتضحك لسذاجة التوهم ، والتراجيديا هي أن تنتهي المسارات الطبيعية والعادية لنتيجة مأساوية مدمرة بشكل غير متوقع  أيضا … هكذا تبدو الكوميديا السياسية الأوبامية المستمرة منذ سبع سنوات،  فأوباما الذي بدأ رئاسته بجائزة نوبل للسلام ،  يشرف على الانتهاء منها بالتسبب بحرب كونية ثالثة، لكونه الوجه الآخر للتراجيديا السياسية التي يختص بها بوتين المتغطرس، والذي يتعيش على كوميديا أوباما التي لم تعد مضحكة أبدا…

بينما الشعب السوري يبكي دما ودخانا …. يضحك بشار ويضحك بوتين ويضحك أوباما ويهرجون ويقدمون مبادرات الحل المبنية على كركوزات النظام والمعارضة ، ويتم تداول الأسماء من الحثالة الخلقية والسلوكية والمعرفية والقيمية لتمثل وجه سوريا القادم وبحضور واشراف ملك الحثالات بشار ، من دون علم أو ارادة الشعب السوري … وتستمر الكوميديا التي تسخر من عذابات شعبنا وتتحدى ارادته ،  والتي تعرض على مسارح الجثث والأشلاء …. الزعماء والسياسيون يلهون ويلعبون و يضحكون ، ولا يعرفوا أي منقلب سينقلبون … وأن من يضحك كثيرا هو من يضحك أخيرا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.