يثب

تركيا إلى أين ؟

د. كمال اللبواني

أعلنت الطبول الانكشارية العثمانية التي قرعت في احتفالات النصر الانتخابي الأخير لحزب أردوغان أن تركيا تمر بنقطة تحول في تعريف الذات ، وأنها تتجاوز هويتها العلمانية القومية التي بدأت تفقد جذوتها  كغيرها من النزعات القومية المصطنعة، لتظهر مكانها الهويات الأخرى التي دفنت تحت الأغطية القومانية التي ارتبطت بالاستبداد العسكري والفساد الاقتصادي في كل أرجاء العالم المتأخر …

وعليه وفي ذات الوقت الذي تسعى فيه تركيا لاستعادة امتدادها الحيوي التاريخي تتعرض أيضا لخطر التفكك… فتركيا إما أن تنجح في استعادة مكانتها التي تستحقها تاريخيا وجغرافيا، أو تندثر وتتفكك ككل دولة مصطنعة مشوهة التكوين … فمسار الأحداث الراهن تحت تأثير العولمة يتصف ببروز الهويات الدينية على حساب تراجع الهويات القومية… والاسلام كهوية عالمية راسخة واسعة الانتشار تشكل حاملا محتملا بديلا في الطريق للعولمة في عموم الشرق الأوسط الكبير ، حيث يتجاوز القوميات والحدود التقسيمية، ليساهم في لعب دوره الحضاري في بناء النظام العالمي الجديد ما بعد القومي.

القومية المطبقة هي نزعة فاشية أوروبية مستوردة أثبتت فشلها في دول العالم المتأخر ، وتناقضها المطلق مع الديمقراطية ، وعجزها عن رعاية التقدم الاقتصادي … لذلك تتفكك الدول القومية التي قامت عليها ، بينما تحافظ الدول السلطانية على استقرارها نسبيا بالمقارنة معها ( الربيع العربي لم يصل للممالك والسلطنات )  … وتنهار الوطنيات القومجية المزروعة بالاعلام الرسمي القمعي ، وتعود للانتعاش الهويات الثقافية والدينية الأخرى ، في عالم يتوحد اقتصاديا ويتشرذم ثقافيا وتفشل دوله السياسية تباعا ، وما يزال يفتقد للهوية والقيم الجامعة، فالأزمة العالمية الراهنة ، وموضوع الحرب العالمية الثالثة التي تظهر بشائرها في سوريا والعراق والفوضى الخلاقة العاصفة بالمنطقة ، هي كلها من مظاهر العولمة التي لها وجهان : وجه ايجابي بناء ( الاتحاد الأوروبي ) ووجه سلبي تفكيكي ( الربيع العربي ) .

أما تركيا المهزومة عسكريا في الحرب العالمية الأولى والتي بقيت على الحياد في الحرب العالمية الثانية ، وأجرت قطيعة قسرية مع تاريخها، وتماهت إلى حد ما بالمنتصر عليها ( القومية العلمانية ) وتحالفت معه ( الناتو  في مواجهة وراسو )، فقد دخلت من جديد على قرع الطبول العثمانية مرحلة الاستقلال والعودة للتواصل مع تاريخها ، فمن وجهة الباب العالي الجديد : فإن الحرب العالمية الأولى لم تنته بعد ( أي أن العثمانية لم تمت ) … والذي يدرك أن المنطقة تخوض حربا عالمية ثالثة بالتقسيط والمفرق، وتخوض الهويات حرب بقاء في مواجهة الموت والاندثار واجتياح نزعات السيطرة من الشرق والغرب . وهو ما يفهمه جيدا الغرب الذي تخوف سابقا من الثورة الاسلامية التي حملت ذات الطابع في ايران ، والذي يتخوف أيضا من عودة تركيا القديمة التي جددت آيديولوجيتها وهويتها عبر حزب العدالة الذي يحاول أن يحكم قبضته على الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا ، ويمد نفوذه كما فعلت ايران لدول الجوار وكل العالم الاسلامي مستخدما الاسلام السياسي المتمثل في الحركات الرديفة لتنظيم الإخوان ، ومستفيدا من الحركات الجهادية السلفية … لذلك يحاول الغرب ضرب مشروعه هذا بالمشروع الإيراني ، واذكاء الصراع المذهبي بين الطرفين المعاديين .

وكما اعتبر الغرب أن الثورة الاسلامية في ايران الصفوية خطرا عليه ، يعتبر الغرب الخلافة الاسلامية بشكلها العروبي السني خطرا جاسما أشد وأخطر متهما اياها بالارهاب ، و يعتبر أيضا عودة العثمانية خطرا موازيا  ولكنه لا يستطيع أن يتهمها إلا بالديكتاتورية المقنعة ، بينما يستمر فعليا بالتآمر عليها لعرقلة مسيرتها دون أن يخسرها ، كحليف في مواجهة روسيا القيصرية ، التي عادت لممارسة عدوانيتها على جيرانها مشكلة رأس حربة عسكري للاقتصاد الصيني الذي يغزو العالم ، لذلك فالغرب يراهن أيضا على صدام روسي اسلامي يشغلهم ببعضهم ويحاكي صراعهم التاريخي … بينما تعتبر تركيا أن مشروع الخلافة الاسلامية مشروعا ممكننا لكنها تجد في داعش منافسا مشوها لهذا المشروع … وتحاول تجنب الصدام معها ومع ايران وروسيا أيضا … وتحاول أن لا تخسر ابتسامة الغرب التي تشبه ابتسامة الليث … وضمن هذه الخيوط والتعقيدات تشق طريقها بين كل هؤلاء  ….

يتوجب على تركيا الأردوغانية خوض حرب قاسية لا تريدها في الداخل مع قسم هام من المجتمع السياسي … وخوض حرب أيضا لا تريدها في الخارج  مع ايران وحلفائها وداعش والب ك ك ، وأن تشتبك عاجلا أو آجلا مع روسيا ، وأن تدخل أيضا في صراع تناحري مع ايران الصفوية العدو التاريخي للسلاجقة … ومع النزعة القومية العروبية ، وبشكل كبير وحاد وتضادي مع النزعة القومية الكردية …  وفي تنافس تناقضي مع الصديق في الناتو ، ومع بعض الأنظمة العربية ، وربما اسرائيل …. أما حليفها الطبيعي المفترض فهو  فقط الشعوب ، لكن حليفها السياسي العملي وأداتها العسكرية هي الحركات الاسلامية غير القومية التي تصنف في الغرب والشرق أنها ارهابية … و هذه العوامل تقلل من احتمال نجاحها… خاصة وأنها تعتمد فقط وحصريا على الاسلاميين المقربين من الاخوان والذين هم على عداء مع معظم الحكومات العربية وبعيدين عن التفاهم مع شعوبهم … وهكذا فإن فوز اردوغان هو أيضا بوابة لدخول الحرب والصراعات …. وعلى تركيا وحلفائها الطبيعيين أن يدركوا حجم المهمة الصعبة والامتحان القاسي والحرب الضروس التي عليهم أن يكسبوها ،  وإلا ستدخل هذه الدولة في الثقب الأسود الذي سبق ودخلت اليه الكثير من الدول في المنطقة مثل سوريا والعراق ولبنان وأفغانستان وليبيا واليمن وووو ومن سيتبعهم من دول جربت النظرية القومية ، وأرادت أن تصطنع وطنيات في دول مصطنعة ، ومن دون استقلال حقيقي وسوق قومية قادرة ، ونظام سياسي ديمقراطي … فخسرت استقرارها وتحولت لدول فاشلة تنتظر من العولمة أن تطيح بها وتطرح أشكالها الجديدة لاقامة الدول على أسس مختلفة عن النظرية القومية البائدة ، التي تغلب عليها الأتراك في استفتائهم الأخير ، ليضعوا قدم السلطة الجديدة في الهواء فعلا .

فقد كان من المقدر لفوز أخصام أردوغان لو حصل أن يفتح الباب على مصراعية للصراع الداخلي والتآمر الخارجي ، بينما فوز حزب اردوغان الانتخابي لن يحسم المسألة لوحده ، بل يوضح الرهان ويضع تركيا أمام تحديات حضارية كبيرة يجب أن يتعامل معها بجدية مناسبة ليس فقط الشعب التركي بل كل شعوب المنطقة التي تجد فيه سندا وشقيقا … فتركيا إما أن تكون رافعة شرق أوسطية واسلامية ، أو تصبح مشكلة أمنية كبيرة ومسرحا ومصدرا  للعنف والصراعات… والاسلام أما أن يثبت قدرته على تجديد نفسه في الظروف العصرية المختلفة ، أو يتعرض لخطر التهميش والعلمنة المجحفة ، ويتخلى عن دوره كمنبع للقيم ومخزون لا ينضب لها . والعالم إما أن يقوم على قيم محترمة تحفظ وحدته والسلام فيه ، أو يخضع لمنطق القوة الذي سيدخله في صراعات لا تنتهي . فمصير الاسلام ودوره ومصير العالم مترابطان وتغيير العالم يتطلب وجود المقدس القادر على تلبية الاحتياجات العصرية . واستبعاد الدين لم يترافق مع دخول مصدر جديد محترم للقيم الجامعة الحارسة للسلم والحياة المشتركة ، كما أن تسييس  الدين وتوظيفه العسكري قوض من قدرة الدين الجامعة والحافظة للحق والسلم ….

حقيقة الديمقراطية لا تعمل إلا إذا توفرت الإرادة بجعلها تعمل … كما هي عدالة القاضي لا تتحقق من دون صدق النوايا ، حيث تتوفر دوما وسائل قانونية لتغطية التعسف القضائي ، ووسائل ديمقراطية لتغطية الاستبداد السياسي … وما يجري في تركيا يؤكد أن الديمقراطية  ما تزال هشة يمكن بسهولة التضحية بها لو تضررت المصالح بشكل جدي ، وسارت الأمور بشكل مستفز لطرف من الأطراف المشاركة بها … فالكرد سرعان ما يلجؤون للعنف ، وكذا العلمانيين ، وأكثر منهم الإسلاميين .

فسياسة (صفر مشاكل ) التي اعتمدتها حكومات حزب العدالة ومهندسها داوود أوغلو ، انتهت بجلبت كل أنواع المشاكل إلى الحضن الوطني التركي … عندما شعر الجميع أن الزحف الاقتصادي الناعم لتركيا سيجعلها ذات نفوذ كبير يعيد لها أمجادها بطريقة سلسة ومرنة … والمشروع التركي الحالي حتى لو اتخذ طابعا سلميا وأخلاقيا مستفيدا من جسور العلاقات الاقتصادية التي تفتحها العولمة . فهو لن يسلم من الأذى ولابد من حراسته بجيش قادر وهذا مفقود وهو عنصر الخطر الأكبر الذي لن يعوضه إلا جزئيا توظيف المجموعات الجهادية والإسلام السياسي … في الدول المجاورة ، والتي يتفق العالم على حربها كجهات ارهابية ، فتكون نتيجة الحرب العالمية على الارهاب فعليا حربا عالمية على تركيا ومشروعها الاسلامي ، وهذا يضع تركيا في عين العاصفة .

من المفهوم إذن أن المشروع التركي الاسلامي الذي فاز في الانتخابات يواجه مشكلتين جوهريتين .. الأولى ضرورة تناسب وتناغم الاسلام مع العصر ومتطلباته ، وبشكل خاص نمط الحياة العصري الذي لا يقاوم ، ودور المرأة في المجتمع وأشكال تنظيم الحياة الجنسية الاجتماعية ، والنظام السياسي الديمقراطي …

المشكلة الثانية هي قبول المكونات والديانات والأقليات الأخرى وعدم شعورها بالعدوانية تجاهها من قبل هذا المشروع ، وهو ما يتناقض جذريا مع آيديولوجيا الجهاد التي تعتمد نظرية المؤامرة … خاصة وأن المرحلة تتسم بالصراع العسكري الذي يحتاج للتشدد الأيديولوجي والتحريض المتعصب لزيادة فعالية القتال وحماسته …

فهل تستطيع تركيا التخلي عن عنصريتها القومية لتلتحق بالهوية الاسلامية المنفتحة على الآخر والعصر ، من دون أن تتفكك ديمقراطيا ، أو تغرق في أتون التطرف والتشدد استبداديا ، وأن تنتصر في ذات الوقت في صراعات عسكرية واسعة ، من دون أن تقوض نجاحها الاقتصادي ووحدتها الوطنية المتزايدة الهشاشة …. ؟ ؟؟

لننتظر نتائج الحرب العالمية الثالثة حرب العولمة التي تندلع في الشرق الأوسط معلنة عن بداية عصر جديد ، يظهر من مؤشراته أن للدين الاسلامي دور بارز فيه ، وأن تركيا هي من أهم روافعه مع الأمة العربية … فهل تنجح تركيا والربيع العربي في اعادة صياغة أنفسهم ؟ هذا ليس مستبعدا أبدا ولا حتى صعب المنال .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.