يثب

حقيقة اتفاق جنيف وخطة التعامل معه

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

هناك اتفاق دولي جرى في فيينا … وهناك خطوات تنفيذية وأدوار مختلفة توزعتها الدول لتنفيذ هذا التوافق … والهدف واضح هو تجنب التصادم بين هذه الدول، عبر فرض حل للنزاع في سوريا (لا يعبر عن ارادة الشعب السوري بالضرورة ) ، بل عن ميزان القوى وعن مصالح الدول المتدخلة في هذا الصراع … لذلك فالمطلوب عندهم ليس البحث عمن يمثلون الشعب السوري ، ولا عن القادرين على انقاذ سوريا . بل يجري البحث عن وكلاء مطيعين ينفذون ما يطلب منهم من الدول المعنية ، كل بحسب حصتها وقدرتها على المناورة .. لذلك من الطبيعي أن يشعر معظم الوطنيين السوريين أنهم مستبعدين وأن قضيتهم في خطر … وبالتالي عليهم أن يبحثوا عن وسائل التعامل مع هذا الظرف القاهر ، كي لا تضيع قضية شعبهم وثورته وتضحياته .

قبل الدخول في تفاصيل الاتفاق والخطوات والاقتراحات العملية للتعامل معه،  لا بد لي أن أوضح نقطة نظرية وذاتية …

مفهومنا المعتاد عن السياسي أنه الزعيم المسيس الذي يحمل آيديولوجيا ويناضل من أجلها، والذي يتصف بالموقف الثابت والمبدئي، ويبحث عن المنابر المضيئة ووسائل الاعلام، ويصدر التصريحات الأكثر شعبية بطريقة ديماغوجية، لكي يحقق المزيد من الشهرة والزعامة بين من يشاركونه ذات الأيديولوجيا … مفهومنا هذا يختلف عن مفهوم السياسي كتكنوقراط، الذي مهمته إيجاد وطرح السياسات القادرة على تحقيق الأهداف الوطنية بغض النظر عموما عن الانقسام الأيديولوجي ( رجل الدولة ، وليس المناضل الحزبي الباحث عن الفوز بالسلطة) .  وهذا يتطلب من السياسي المعرفة  النظرية الواسعة ، و فهم الواقع بشكل متجرد وقدرة على الاطلاع على مواقف الأطراف الفاعلة، و فتح قنوات التواصل مع أصحاب القرار فيها … وهكذا قلة نادرة من السياسيين يستطيعون المزج بينهما ، لأنه صعب جدا (بل شبه مستحيل ) في ظروف الثورة ، أن توفق بين الشعبية ، وبين الواقعية التي يجب عليك التحلي بها ، خاصة عندما تكتشف الثورة السورية العديد من أعداءها بين من يدعي صداقتها ، وتكتشف نقاط ضعفها في من يمثلها بل حتى فيمن  يقاتل في صفوفها، فالموقف النقدي العقلاني عادة غير شعبي خاصة في زمن الثورات والحماسة الأيديولوجية والحروب.

لقد عانت الثورة وما تزال من فقر شديد في السياسيين والسياسة ، وهذا الخلل كان لابد من ملئه للضرورة القصوى ، مع إدراك أن الانتقال  من المسيس للسياسي يتطلب  التضحية بالكثير من اللايكات ، والبحث عن شيء آخر غير الزعامة والتأييد الشعبي … لكي يتمكن السياسي من تقييم الموقف بشكل صحيح وبالتالي اقتراح السياسات العملية للتأثير فيه والتعامل معه بواقعية … وهذا ما لا يريد الكثير من المتحمسين تفهمه في نشاطنا وعملنا والذي يبقى أمينا وموجها لخدمة أهداف ثورة الشعب .

ما تأكد لي أنهم في فيينا قد توافقوا عليه هو التالي :

  • – أن يبقى الأسد لمدة 18 شهر اعتبارا من أول السنة ، منها ستة أشهر يفترض أن يتم فيها التفاوض على تشكيل حكومة وحدة وطنية ، يقبل بها الأسد والمعارضة معا حكومة واحدة تقدم أمامه اليمين وفقا لدستور سوريا الراهن … فيعطيها الأسد صلاحياتها كحكومة له وليس كسلطة انتقالية بديلة عنه . بينما في السنة المتبقية يجري تعديل الدستور الذي يحدد بنية وطبيعة الدولة كدولة فيدرالية وعلمانية . ومن سيقوم بتعديل الدستور هم ليسوا منتخبين بل مفروضين من الدول التي هي عمليا ستكتبه لنا ، أو تحدد لنا أساسياته .
  • – هذا الاتفاق قد وافقت عليه كل الدول المشاركة جماعة بالتوافق وليس بالتصويت ، لذلك بعضها يدعي عدم موافقته حتى الآن، أو يطمح لتفسيره بطريقة أخرى . كتسمية الحكومة على أنها سلطة انتقالية مثلا .
  • – توزعت الدول الأدوار لوضع هذا الاتفاق حيز التطبيق … وكلفت كل دولة بملف ستقوم به برقابة القطبين الروسي والأمريكي .
  • – دور السعودية هو جمع المعارضة التي تقبل ببقاء الأسد وتقبل بوقف اطلاق النار والتحاور معه لتشكيل حكومة جديدة في ظل النظام القائم الذي يرأسه بشار الأسد … ولن يطرح في هذا التحاور إلا وقف اطلاق النار وتشكيل الحكومة الجديدة .
  • – دور الأردن هو تحديد من هي الجماعات العسكرية التي ستصنف ارهابية ولا يشملها اتفاق وقف اطلاق النار
  • – يفترض استمرار القتال ضد التنظيمات المسلحة التي تصنف ارهابية من قبل الجميع وهم قوات النظام والجيش الحر والتحالفات الدولية العسكرية التي أرسلت مقاتلاتها وجنودها .
  • – يفترض وفقا للدستور الجديد (الذي ستقره الدول وليس الشعب) أن يتم انتخابات جديدة لن يمنع الأسد من الترشح فيها إلا إذا نص الدستور على ذلك من حيث المدة الرئاسية وعددها .

عناصر تكتيكية لابد من تفهمها :

  • – مع أن أي دستور يجب أن يبحث في جمعية وطنية منتخبة ، ومع أن أي انتخابات لا يجوز أن تتم من دون سيادة قانون ومن دون توفر حياة سياسية طبيعية حرة مدة لا تقل عن سنوات تتشكل فيها الأحزاب وتتبلور اتجاهات الرأي العام … مع ذلك سيصبح هذا الدستور المفروض هو الناظم للدولة السورية ولن يسمح للشعب تعديله لأن شرط التعديل سيكون تعجيزيا.
  • – جرى تجاهل تام لموضوع المساءلة والعدالة والمحاسبة وكأن الميت كلب وليس شعب . وما جرى الحديث عنه هو اصدار عفو رئاسي من المجرم عن الضحايا الذين قتلهم وعن ذويهم الذين حملوا السلاح ذودا عن شرفهم وحياتهم وعرضهم ومالهم …
  • – لا تستطيع أي من الدول أن تخرج خارج التوافق الروسي الأمريكي الا جزئيا (ايران وتركيا )، أما بقية الدول فهي تنفذ ما يطلب منها فقط . وهنا لا يفترض بتركيا الصديقة أن تذهب بعيدا في المواجهة مع روسيا لأن هذا هو أحد أحلام الغرب الذي سيخذلها ويتخلى عن حلفه معها ، و يريد استنزاف التغول الروسي في مواجهة الاسلام … بل يجب تفهم موقفها المرن ومساعدتها عليه .
  • – الموقف الرافض للمسار الدولي سيضعنا أمام مواجهة قاسية وصعبة في مناخ من الحصار والحرمان … فهذا الموقف غير ممكن عمليا . لذلك لا بد من المناورة. بحيث لا نشارك في السلطة ولا الحوار ، ولا نعترف بشرعية الحكومة الا كحكومة انتداب غير منتخبة . نقبل بتنفيذ طلباتها جزئيا ، وبالتعاون المحدود معها دون الاعتراف بها كحكومة للشعب السوري.
  • – يجب أن نتفهم موقف السعودية عندما تستبعد الوطنيين والقادة الحقيقيين ، لأنهم جملة لن يقبلوا بما هو مطروح عليهم وعلى السعودية ، بل يجب أن يكونوا سعيدين باستبعادهم، لأن المملكة ترى أن هذا المسار فاشل وأن من ستأتي بهم هم مجرد أوراق ستحترق مع فشل العملية .
  • – لا يهم كثيرا تصنيف الأردن للمجموعات المقاتلة … في النهاية يستطيع أي مقاتل سوري حر أو مجاهد في سبيل الحق أن يغير عَلَمَهُ وانتماءه التنظيمي وينضم للمناطق الآمنة التي تخضع لوقف إطلاق النار ولن يستطيع أحد منعه من ذلك ، وهذا يجب لحظه في خطة التفكيك الذلاتي للمنظمات الجهادية التي يجب أن توضع وتطبق إذا لزم الأمر وبشكل جزئي وتدريجي وبحسب شروط كل جبهة ، والتي تستطيع الانتقال للعمل المقنع في هذا الظرف الصعب ، وبهذه الطريقة نحتفظ بقوتنا وشبابنا ، ونجنب الثورة مواجهة قوى عظمى وجيوش جرارة .
  • – لن يسمح لروسيا تحقيق نصر عسكري على الأرض لكي تبقى ضمن التوازنات الحالية ، وبالتالي لن يسمح للإيراني التمدد كثيرا، لذلك لا نتصور تغير كبير في الجبهات الحالية .
  • – يسعى النظام لاختطاف من تبقى من شباب سوري في الداخل وزجه رغما عنه في المعارك التي سيتقل فيها أبناءنا بعضهم البعض استكمالا لمجزرته بحق الشعب ، لذلك فإن مطلب وقف سريع لاطلاق النار سيجنبنا المزيد من الخسائر والدماء البريئة التي لاذنب لها .
  • – ستسعى تركيا لوضع البي كي كي ضمن المنظمات الارهابية ، وهذا صعب التحقق كونه يواجه داعش ، بينما ستصنف الكثير من المجموعات الاسلامية الموالية لتركيا على أنها ارهابية بسكوت عربي … لذلك تشعر تركيا أنها الخاسر الأكبر من هذه الصفقة ، وقد تضطر لاستخدام جيشها لفرض ارادتها عند حدودها ، وهي ستستمر في اعاقتها لهذا التوافق من داخله وخارجه .
  • – بينما ستسعى الدول العربية لوضع حزب الله والميليشيات الايرانية بين المجموعات الارهابية على الأراضي السورية ، وهذا أيضا مطلب اسرائيلي يبدو أن الروسي قد يقبل به بضغط منهم … وبالتالي فإن مساحة التوافق الإيراني الروسي مرشحة للضيق، خاصة بتوفر التشجيع العربي ، وبالتالي يمكن الافادة من ذلك لكون الروسي لا يفكر في انزال قواته على الأرض أو نشرهم بشكل واسع ، أي أن ميزان القوى على الأرض سيصبح في كفة الثورة إذا غيرت المنظمات الجهادية تموضعها وعلمها السياسي …
  • – بسهولة يمكن لجهاز استخباراتي ما أن يصفي بشار في الوقت المناسب لكي يقلب الطاولة ، وهذا ما أعتقد أنه موضوع على أكثر من طاولة كخيار جدي لجعل الحكومة المشكلة سلطة انتقالية كاملة الصلاحيات بحكم الأمر الواقع ، رغما عن الروسي . لذلك فبشار ليس له مصلحة في التقدم في هذه المفاوضات . وقد يكون هو سبب افشالها .
  • – الأمريكي غير مستعجل لرمي حبل النجاة للروسي الذي يغرق في رمال الصراع مع العالم الاسلامي .. لذلك سيتغاضى عن أي عرقلة لمسار الحل السياسي ، ولن يدفع بجدية باتجاهه.
  • – الإيراني أيضا يراهن على فشل الحل السياسي الذي لا يحقق مصالحه ، لذلك هو غير متشجع لمنح الروس نصرا على الأرض يبعونه في سوق فيينا ويجيرونه لحسابهم .
  • – لذلك وبشكل عام يمكننا تقييم الاتفاق أنه فاشل ، و أن المراهنة على نجاحه هو نوع من الحلم .
  • – يمكن الاستفادة منه جزئيا ومرحليا : في فتح ممرات انسانية لأهلنا وتخفيف معاناتهم ويمكن أن يفتح باب العودة للمهجرين واللاجئين وبالتالي استعادة بعض الحاضنة الشعبية .
  • – الجيش الحر جيش تطوعي وبالتالي يستطيع عناصره أن يعودوا لمنازلهم وأعمالهم عندما يطلب منهم القتال في جبهات لا يعتقدون أنها تهمهم . كما تستطيع فرق الجيش الحر طلب نوع متطور وفعال من السلاح قبل قبولها التحرك للجبهات وهذا ما سيعقد ويؤخر العمليات التي ستوجه فقط لمناطق خارج سيطرة النظام.
  • – لا يجوز مقاطعة فرق ومجموعات الوسيط الدولي التي ستهتم بالملفات التفصيلية رغم أنها غير حاسمة … فهناك الكثير من العمل يمكن انجازه من خلالها وأهمه المطالب الاجتماعية في فك الحصار وتأمين الاحتياجات الضرورية واعادة المهجرين ووقف القصف … وهذه عناصر قوة للثورة والشعب .

آمل أن أكون  قد وضحت صورة ما يجري ، فهو باعتقادي ، بل من واجبي كسياسي أن لا نسمح له أن يشكل من حيث النتيجة هزيمة للثورة والشعب، هذا إذا أحسنا التكيف والتعامل معه ، لذلك نرجوا من الأخوة المجاهدين أن يتفهموا الموقف وأن يتحلوا بالمرونة المطلوبة لتجاوز المرحلة ، ومن الأخوة في الجيش الحر استيعاب إخوتهم المجاهدين وحمايتهم واحتضانهم، إذا ما دفعتهم الحاجة لاجراء عملية تفكيك ذاتي للمجموعات التي ستصنف ارهابية. عندها لن تجد الجيوش والأساطيل من تحاربه فتحارب بعضها … أو تتركنا وشأننا …

والله الناصر وهو المستعان .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.