يثب

نظرية الفوضى الخلاقة … ومستقبل الشرق الأوسط

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

منذ أن طرحت كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي ثم رئيسة الديبلوماسية الأمريكية السابقة في عهد جورج بوش الابن نظريتها عن خريطة الشرق الأوسط عام 2003  والتي بحسب رأيها قد شاخت كثيرا، ولمحت يومها لامكانية استخدام الفوضى الخلاقة كأداة للتغيير فيها بعد أن وصل التعفن لانتاج ظاهرة الارهاب العالمي الذي ضرب عمق الحضارة الغربية… صار كل تحليل سياسي لأي حدث أو حرب أو تدخل يفترض التخطيط المسبق للفوضى … في تناقض لفظي ظاهري (لكون الفوضى شيء لا يمكن التنبؤ بمساره وتخطيطه )، وانسجام عملي lللأحداث على الأرض لدرجة قد تكون مقنعة حتى للباحثين والمختصين في فلسفات السياسة والمجتمع … فما هي نظرية الفوضى الخلاقة :

الفلسلفة المثالية الحديثة التي كان تاجها الفيلسوف الألماني هيغل تجاوزت البحث في الظواهر الثابتة القابلة للتجربة والتي اختص بها العلم التجريبي (ديكارت وكانط) . إلى بحث الأمور المتغيرة المبدعة الغير قابلة للتكرار المخبري ولا التجريب … فطور هيجل نظريته عن الديالكتيك مستقرئا مبادئ معرفة قوانين الظواهر ( الحية ) المتغيرة باستمرار . الذي قام كارل ماركس بتطبيق قواعده على المادية والتاريخ الانساني ، فخرج بنظريته عن التكوين الحركي للتشكيلات الاجتماعية والتي سميت بالمادية الديالكتيكية ثم التاريخية… والتي تنص على ثلاثة قوانين أساسية أولها وأهمها أن الظواهر المتغيرة ( الحية ) التي تعيش حالة الحركة والتغير تتكون أساسا من أضداد متحدة ومتصارعه ( قانون وحدة وصراع الأضداد ) فالمجتمع يتوازن عند حصيلة صراع ضدي بين مكوناته الأهلية أو الطبقية … والصراع الطبقي والعنف هو محرك التاريخ/ التغير والتبدل  … وكل شكل ونظام ودولة هو حالة استقرار مؤقته تقوم على قمع الحركة وتلخص نتيجة هذا الصراع وتخفيه … ولكنها ككل شكل لمضمون متغير غير قابلة للدوام عندما تتغير قوى ومكونات الصراع، فتراكم الكموم يؤدي لتغير نوعي ( قانون التراكم الكمي والتغير النوعي ). وهذا التغير النوعي يتم عبر قانون ثالث هو النفي ونفي النفي … بحيث ينهار الثبات الذي يعبر عنه الشكل، و تنهار الوحدة  وتنتفي صفة الوجود المتكامل المنسجم ذو الهوية، وتتفكك لحالة فوضى جديدة وهويات جديدة أدنى ( النفي ) … وعندما يصبح هذا النفي واقعا تزداد تدريجيا العوامل الدافعة للاجتماع والوحدة من جديد وتعود للعمل، لكن على أسس وهوية وتوازنات جديدة وهوية جديدة جامعة وانتاج شكل آخر جديد وربما أرقى بحسب جهة تطور العوامل الدافعة … أي عبر نفي التفكك والفوضى مرة ثانية ( نفي النفي ) . فالنفي ونفي النفي هو آلية تغير النظم التي لها صفة الثبات التي تمر بها الظواهر الحية الدائمة التغير كالتشكيلات الاجتماعية …

وقد اعتبر كارل ماركس وانجلز أن تغير وتطور قوى الانتاج (من بشر وأدوات وعلوم) له دور حاسم في تغير علاقات الانتاج أي البنى الفوقية الثقافية والسياسية التي تحكم التشكيلات الاجتماعية … واعتبر الدولة (وأي نظام) مجرد أداة قهر وقسر واحباط واعاقة للتطور والتغيير فكل نظام هو قمعي ورجعي، وكل فوضى هي ثورية وتقدمية ( البيان الشيوعي 1848) ، وهذا ما تطور لنظرية الثورة المستمرة التي نظر لها وريث ماركس أقصد تروتسكي ( يقول هوشي منه الزعيم الفيتنامي متأثرا به : إذا أردت أن تعيش فعليك أن تصنع ثورة ) ، بينما عمل لينين وستالين بعكس نظرية ماركس الخلاقة المضادة لفكرة الدولة، عملوا على بناء وترسيخ دولة ديكتاتورية البروليتارية المختزلة بالحزب ثم الشخص القائد الأعلى له ، دولة القمع والانضباط والاحباط بأقسى وأكثر الأشكال صرامة، أنتهت التاريخ ولجمت التغير والتبدل وحولت المجتمع الانساني لآلة ميكانيكية ، ستنهار فيما بعد بفعل قوى الفوضى الخلاقة داخلها التي تتناقض جوهريا مع هذا الشكل … وكل نظام سيعجز عن الحفاظ على التوازن الديناميكي داخله فكيف إذا ألغاه … فتاريخ الدول هو التغير والتبدل ، هو تناوب بين الفوضى والنظام .

اعتبر ماركس وآدم سميث أن البنى الفوقية (الثقافة والسياسة )  هي تعبير عن البنى التحتية واعتبر أن الاقتصاد هو محدد السياسة، فالسياسة هي التعبير الأكثر اختزالا عن الاقتصاد، ولم يقم وزنا كبيرا للثقافة التي هي الوسيط الالزامي المثالي الخفي بين الاقتصاد والسياسة كونه متعصب للفلسفة المادية (فديالكتيك هيجل بحسب رأيه صحيح لكنه مقلوب ويقف على رأسه لأنه مثالي )… والبنى التحيتية هي الأهم والثقافة مجرد تابع تافه لا قيمة له .. لكن الفلاسفة الغربيين الذين حاولوا اعادة الاعتبار للفلسفة المثالية في وجه طغيان الماركسية والشيوعية في القرن العشرين طوروا مفاهيم جديدة لدور الثقافة والأفكار والأفراد المبدعين في تغيير البنى الفوقية والتحتية معا …  هيدجر  وفوكو … وأعادوا جزئيا ( جزئيا لأنهم تعمدوا تجاهل القيم والرموز الدينية كونهم علمانيون) أعادوا  الاعتبار للقيم والمفاهيم المثالية التي بمفهوم النظرية التاريخية المثالية هي الجامع الحقيقي والمولد الفعلي للاستقرار والتقدم ، وليس القمع والقوة والعنف، فما يرسخ السلم ويلطف الصراع التناحري المدمر ويحوله لتنافس حضاري تراكمي هو منظومة القيم التي تقوم عليها نظم الاجتماع القائمة على الحرية والعدالة معا ، والقادرة على التعبير عن الحاجات والمتغيرات وتلبيتها بطريقة مرنة وسلمية … فالحضارة كما يقول فرويد مبنية على التابو والتحريم ، وليس على ممارسة العنف كما يقول نيتشة وهوبز . بينما يرى هنغنتون أن الدول الرأسمالية الديمقراطية الحديثة دولة خالدة وهي نهاية التاريخ .

وفقا للفلسفات المعاصرة ليست فقط التراكمات الكمية هي التي تؤدي لتغيرات نوعية، بل أيضا التغيرات النوعية في القيم والأفكار والمعارف هي أيضا أدوات فاعلة قادرة على التغيير في الاقتصاد والسياسة معا ، فهي أدوات تغييرية سحرية جاذبة قادرة على تفكيك الانتظام الخطي وتحويله لفوضى من خلال تحطيم نظم وأسس الاجتماع والهوية التي تقوم أيضا على نظم ومفاهيم وقيم أخرى جاذبة تولد الوحدة داخلها … وهنا نصل لأصل ومبدأ الفوضى الخلاقة كنظرية مثالية في احداث التغيير التاريخي عبر التثاقف وانتشار الأفكار . التي ترى أن بعض النظم ذات خصوصية مغلقة عصية على التغيير وذات قدرات قمعية كبيرة ولها استقلالية كبيرة عن ارادة الناس وتستطيع تشكيل حلقة مفرغة من الثبات يصعب على قوى التفكك تحطيمها ، لكنها ليست عصية على التفكيك بواسطة الفكر والرموز المجتمعية ، وقد نجح تطبيق هذه النظرية بشكل رائع في تفكيك منظومة الدول الشيوعية والاتحاد السوفييتي … حيث جرى ضخ قيم الحرية والليبرالية عبر رموز محددة أدت في النهاية لتفكك ذاتي دراماتيكي  لهذه المنظومة الحديدية 1989 .

فتفكيك وتغيير بعض النظم المستقرة على القمع الذي يستخدم أدوات وامكانات الدولة الحديثة الرهيبة ممكن عبر التدخل الناعم في نشر هذه الأفكار والمفاهيم التي تقوض الاستقرار فيها … وهذا يتطلب تطوير هذه الأفكار وجعلها متناسبة مع مشاعر الناس ، وايجاد الوسيط الناقل من رموز وأدوات ، ومن ثم دعمها وتدريبها في مرحلة تكوينها وبدايتها كي تتغلب على قوى الثبات وتحطم حلقتها الداخلية … في هذه الحال تنجح في تفكيك ونفي النظام القائم على قداسة السلطة وتحطيم تابو الخنوع ، فتنشط قوى الفوضى/ الثورة ، التي لابد ستستعيد نظامها لكن على أسس جديدة تعبر عن المستوى الفعلي لتطور ونمو البنى التحيتية وقوى الانتاج بما فيها حاجات ومتطلبات البشر . هذه هي نظرية الفوضى الخلاقة التي تعمل في الشرق الأوسط الآن والتي يعتبر الربيع العربي نموذجا عنها …

عندما عم الفساد وتدعم بالاستبداد والقمع ، وعزز استمراره بتحطيم الوعي والتجهيل … بدا وكأن هذا العالم لن يتغير فنمت نظرية الجماد والتوريث حتى في الجمهوريات … وتعرقلت امكانية تطور وتنامي القوى التحتية التي بدأت بالهجرة والتحطم … لذلك لعبت أفكار ورموز جديدة مناقضة دورا كبيرا في تحدي القمع والفساد بأفكار عن الحرية والديمقراطية ودولة القانون ومحارب الفساد … والتي انتهت أخيرا لتحريك الشارع وتحطيم جدار الخوف ( بوعزيزي) … في وجه أعتى الديكتاتوريات … تلك الثورات التي اعتبرتها الأنظمة الحاكمة مؤامرة خارجية مقصودة لأنها تنتج الفوضى، بدل النظام ( الفوضى التي صارت ضرورة بسبب منع أي امكانية للتطوير والتغيير … ) لكن هذه الأفكار المدنية الحداثية الديمقراطية عجزت عن تشكيل حالة جذب وتجميع جديدة ، بسبب عمق الانقسام الأهلي وغياب المجتمع المدني ، وتدني سويات المعرفة والثقافة، والخبرة السياسية، فالديمقراطية ليست عقيدة وليست عصبية ذات قوة جذب ، كانت قوية وجاذبة عندما جابهت الاستبداد، فحطمته ونفته وولدت الفوضى، لكنها عجزت عن تنظيمها عندما صارت انضباطا والتزاما وتقيد بمعايير …  فصارت ساحة الحرية  ساحة فوضى وصراع وتناحر من دون إعادة انتاج النظام والرتابة والسلطة …

وهذا ما سمح لظهور أفكار جديدة جامعة دينية مقدسة بحكم التاريخ، مما جعل الغرب والعالم المصاب بفوبيا الاسلام يفكر في دعم الأنظمة وتثبيتها، واستخدمت هذه النظم كل أدوات القمع بسكوت ورضا عالمي … عندها جاء المبرر لدخول عوامل جديدة لهذا الصراع وهي آيديولوجيا الجهاد الديني، التي استطاعت تنظيم الفوضى وتشكيل خصم عسكري عنيد في وجه الأنظمة المدعومة غربيا وتحول الصراع من صراع داخلي لصراع حضارات وثقافات وأديان .. كان أهم تجلياته ظهور الخلافة الاسلامية وأمارات غيرها هنا وهناك تعيد تشكيل الذات تبعا للصراع التاريخي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب … وأدت لانطلاق ظاهرتين عالميتين هما الإرهاب والهجرة التي تشكل هي بذاتها عناصر تفكك النظام العالمي الذي وقع في تناقض بين الانغلاق على الذات والعنصرية وبين العولمة المتحللة ، ولم يدرك الغرب حتى الآن عمق واتساع الفوضى التي ظن أنها ستكون محدودة حيث يريد ، فعشرات الدول تأثرت وأصيبت ، وعشرات ملايين المهاجرين على الطريق ، وحدِّث عن انتشار وتوسع الارهاب بلا حرج .

حتى الدول التي حافظت على وجودها قسرا ، فقد تحولت لمجرد سجون مؤقتة لحالة فوضى وفشل كامنة مثل الجزائر وتونس ومصر ، بينما بقية الدول العربية التي لم تخترقها أفكار الحرية والديمقراطية لأنها ليست دول استبداد عسكري ستاليني بل استبداد سلطاني أهلي وديني … هي أيضا عرضة للتفكك والانهيار بمجرد دخول أفكار الجديدة مختلفة إليها … كتحرر المرأة أو قيادتها للسيارة .. والمرشحة في السنوات القادمة لثورة فريدة في العالم تقودها المرأة ، أما ايران فهي عرضة لتفكك وشيك بتأثير عوامل ليبرالية تتناقض جذريا مع مشروع الثورة الاسلامية ، في حين يصمد المجتمع المدني التركي وديمقراطيته الضعيفة في وجه محاولات تفكيكه التي تجري عبر ضخ قيم قومية تعصبية انفصالية مدعومة بعنف الارهاب ، بالتزامن مع ضخ قيم تعصبية دينية على يد رموز اسلامية مدعومة من الأمريكي في الطرف الآخر من الشعب من دون نجاح حقيقي في كسر حالة الانتظام حتى الآن ..

فنظرية الفوضى الخلاقة التي طورها منظروا السياسة الأمريكين هنغينتون وتشومسكي وكيسنجر وغيرهم ، بدأ تطبيقها في الشرق الأوسط بدعم رموز وأفكار الديمقراطية أيام جورج بوش الابن، تراجع عنها أوباما الذي عاد لسياسة دعم الأنظمة القائمة ، لأنها أدت بحسب نظره ليس لقيام الديمقراطيات المستقرة في الشرق الأوسط ، بل لطغيان الجامعة الدينية الاسلامية الجهادية ، وأدت أيضا للبدء بمرحلة من عدم الاستقرار والتفكك في النظام العالمي برمته … فهي فوضى معدية وخلاقة فعلا لا يمكن التحكم فيها، تنجح في تقوض النظم والدول والحدود السياسية والنظام العالمي . لكن فقط عندما تكون معيقة لتطور قوى الانتاج المعولمة واحتياجات الانسانية… وهي لم تنتج بعد منظومة قيم كونية أخرى جامعة تعيد تنظيم كل هذه الفوضى ، بل أنتجت قيم تعصبية تنازعية تهيئ لحرب كونية مقدسة وعنصرية تبدو جلية في الصراع في سوريا وعليها  . الهروب من هذا الاحتمال يحتاج فعلا لمفاهيم جديدة عن الدولة وعن النظام العالمي . يحتاج لبناء أفكار جامعة تلعب دور المقدس الجديد الجامع ، وهذا عمل فكري مثالي قيمي أيضا سيكون له دور انقاذي هائل … فما تم تفكيكه بالفكر التغييري يتم تجميعه به أيضا ، وكل تحالفات القوة من دون اعتبار للقيم والمثل ستفشل لكونها تعتمد مبادئ الديالكتيك المادي وليس المثالي .

المثل يقول تستطيع أن تشعل النار لكن قد يصعب عليك اطفاؤها فيما بعد، لأن الكثير من الأشياء قابلة للاشتعال … والعالم الذي عرفناه قبل الثورة السورية لن يكون بعدها … صبرا شعب سوريا  المحاصر والمعذب والمشرد … فإن موعدكم النصر ، ثورتنا التي وجدت صعوبة في اسقاط نظام حقير ، لن يكون تغيير العالم المرتبط به وبنظامه القيمي صعبا عليها . فالعالم عندما يدافع عن نظام الأسد يدافع عن قيمه ونموذجه هو ، وهزيمة نظام الأسد هي هزيمة للنظام القيمي العالمي برمته . وهي لن تكون من دون خلق بديل كوني أرقى منه . فالتاريخ قد يمر في مراحل فوضى وأزمات لكنه لا يسير نحو الوراء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.