يثب

أسطورة الأم وابنها ( من عشتار إلى داعش )

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما تحدث تفجيرات (داعش) في بروكسل بمناسبة عيد الأم (عشتار) فهي مصادفة ذات معنى ودلالة… برمزيتها وارتباطها بالمذبح المقدس للحياة والموت والجنس والقتل… تفوق كثيرا واقع ارتباطها بالسياسة والأمن والأيديولوجيا … فالموت هو بوابة القداسة، ومن يهتم بالقداسة يسرع نحو الفداء والتضحية، ومن يموت في سبيلها يدخل عالم الألوهة ( شهيدا )… وهكذا تستمر لعبة ( القتل والتقديس ) كملحمة مؤسطره شديدة التعقيد يصعب على انسان الحضارة اليوم فهمها لبساطة تفكيره وسطحية علاقاته …

(الأم /الحياة ) التي تشتهي (الإنجاب/ الإبن ) تقيم علاقة حميمية مع (الذكر/ العنف) في هذه العلاقة نوع من القتل الرمزي يحاكي فعل الصراع والزراعة والالتهام … فتحمل الأنثى من صاحب العنف المهزوم الذي انتهى إليها لتلتهمه، و لتلد من مائه المهين الذي اخترق أحشاءها ذلك الطفل الذي تشتهي أن يكون منها ولها … كائن جديد غض يولد من رحمها … ولكنه هو أيضا سيصبح بدوره عرضة للموت الرمزي في أحضان أنثى أخرى تنتظره كرجل… ( تلك هي قصة الموت والحياة التي ترويها أسطورة اينانا واختها أريشكيجال في صراعهم على دموزي الابن الاله القتيل ) وفيها معاني الاحتفال بالربيع الوليد عيد النيروز وعيد الأم معا … والمعاني التي تحاكي فعل الجنس والزراعة ، حيث نزرع الحَّب ليموت وننتظر أن يبعث في الربيع ، وقد نقتله نحن بأيدينا حصادا ويباسا و سحقا وطحنا وشواء لنقتات به ، ونقدسه ونذبحه إن كان نباتا كالقمح أو حيوانا كالكبش والثور ، أو انسانا محبوبا أراد التغيير فصار قربانا وخبزا يضحي بنفسه لانقاذنا … بينما تتناوب على الأم/ الأرض/ الرحم /الحياة : الولادة والموت ،الفرح والحزن، اللطم والمجون، الصوم والطعام، والشح والعطاء.

تبدأ هذه الدورة المقدسة المؤسطرة التي دخلت كل الديانات من الحرمان والكبت المفعل ذاتيا عبر صيام طوعي قاس في نهاية الشتاء لتنفتح في آخره بوابة الفرج مع صرخة الولادة … ولادة الطفل / الربيع والخير، ولادة عام جديد … فهي الصوم الكبير وعيد الميلاد السنوي وعيد الفطر وعيد الأم معا …   وعندما يكبر الطفل ويترعرع الربيع قد نقتله لنقتات به فيكون العيد الكبير أو الجمعة الحزينة وعيد الفصح وعيد الأضحى عيد الحصاد والفداء والذبح في المجتمع الزراعي الذي يعيش على قتل ما ينتج، كصفة تسم الحضارة.

نقرأ في العهد الجديد { هكذا قال الرب، تبارك اسمه في كل ما قال: “خذوا كلوا. هذا هو جسدي” (مت 26: 26).

“اشربوا منها كلكم. هذا هو دمى” (26: 27، 28)

“خذوا كلوا. هذا هو جسدي” (مر 14: 22) “هذا هو دمى الذي للعهد الجديد” (مر 14: 24).

“هذا هو جسدي، الذي يبذل عنكم” (لو 22: 19) “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمى” (لو 22: 20).}

تحدد هذه الأسطورة الرمزية معظم أعيادنا، وتندس رموزها المتعددة في المقدسات والديانات والطوائف، و تتشكل منها وعليها الرموز والطقوس المقدسة والآلهة بدءا من عشتار واينانا وصولا للسيدة العذراء وزينب ، وبدءا من تموز وبعل وصولا للمسيح الابن والحسين القتيل . ذات القصة وذات العلاقة بين الأم والابن الذكر الذي يصبح حبيبا وزوجا مرة أخرى، فهو نتاج الانثى منها يولد وفيها يموت، يزرع كما يزرع القمح في الحرث، ليولد منها وينمو ويزهر ثم يعود اليها ليموت ويدفن فيها … بينما تلعب هي مرة دور عشيقة عطشى لماء الحياة ، ومرة دور رحم منتج لهذه الحياة ذاتها …

هذا في الأسطورة أما في الحياة العادية فعادة ما تتعلق الأم بولدها الأكبر سنا من الذكور، الذي تكنى باسمه، و تريد أن ترى فيه صورة فتى أحلامها وهو ما رمّزه فرويد (بعقدة الخصاء ) التي تحركها، يترعرع الفتى على أيديها فتترك الدنيا كلها وتهتم به وتتفرغ لتفاصيل طلباته من دون ثمن سوى متعتها به وحبها له، فليس في الحياة أجمل من الحياة ذاتها ومن صناعة هذه الحياة، وعندما يكبر تسعى لأن تزوجه فتختار له من تكمل دور الأنثى النموذجية للرجل حسب تصورات الأم التي ترى فيها مكملا لولدها وليس كيانا ذا هوية وخصوصية … وهنا يبدأ صراعها معها الذي لا بد منه، بينما هو يفضل الفتيات الشبيهات بأمه لحبه وولعه بها (عقدة أوديب)، فتضطرب علاقته بزوجته التي لا ترى نفسها نسخة عن أحد ويستمر التنازع بين المرأة والمرأة على ملكية الذكر وأحقيتها به ( الخصاء ) ، بينما يستمر أيضا التنازع بين الذكر والذكر على حصرية امتلاك هذه الأثنى أو تلك وارتكاب الخطيئة معها ( أوديب ) …

صحيح أن عملية الجنس والحمل والولادة هي أمور حيوانية، لكنها بسبب حيوانيتها تلك ترتبط جذريا بتكوين وسلوك الانسان لدرجة تجعلها محورا للحياة ما فوق الحيوانية ومحركا لأكثر من نصف الدوافع الانسانية …      ومشكلة الانسان العربي هي تعقيدات حياته الجنسية التي تكاد تدمر معظم امكاناته وتوازنه النفسي …. طالما أن الجنس رغم وجوده الطاغي في حياته لا يحظى بالاعتراف الشرعي ، بل يقع ضمن باب الخطيئة والعيب والحرام …. إلا في شروط محددة جدا ( يرى الكثيرون أنها ليست متاحة وغير كافية … ) لذلك فإن أغلب أبناء المجتمع يضطرون للقفز فوقها لكن سرا ومن دون اعتراف جمعي بشرعيتها ، مما يولد عندهم الشعور بالذنب والتناقض الداخلي المدمر ، الذي اذا ما تضخم وصل حد تكفير الذات سرا، وتكفير الآخر علنا، ومن ثم التفكير بالقتل وبالانتحار الجهادي كوسيلة وحيدة لهزيمة الشيطان الذي يسكن حتما كل نفس ولا امكانية لهزيمته إلا بقتلها ، إنه اليأس من امكانية التطهر والعفة في هذه الحياة الدنيا التي يسيطر عليها ابليس، وهو الهروب نحو الحياة الأخرى الموعودة التي فيها كل ما تشتهي النفس وكل ما هو محرم في الدنيا.

يتم تجاوز الخوف من الحساب العسير على السقوط في امتحان العفة واتباع النزوات في الحياة، عن طريق تبرير القتل والموت الجهادي والاندفاع نحوه عند الكثير من الشباب المعقد السلوك والدوافع حيث توجد الثقافة الذكورية … حتى لو كانوا يعيشون في شوارع بروكسل وباريس لكن بثقافة ذكورية تمتلك الشرعية من مجتمعاتهم المغلقة التي مهما هربوا منها لابد أن يفكروا بالعودة اليها ذات مرة، ليتلقفهم الأصوليون والسلفيون المتربصون المتربعون على عرش الشرعية الدينية والاجتماعية من دون منازع ، والذين سرعان ما يقدموا الكثير من المبررات لدفع هؤلاء الحيرى للتطهر الجهادي بواسطة الفداء والتضحية ، لكن هذه المبررات المؤدلجة ليست هي الدافع النفسي الحقيقي لسلوكهم الذي تمتلئ به خزانات الدوافع ( الليبيدو ) ، من هنا حساسية المجتمع الغربي لوضع المرأة المسلمة واعتبار تحررها قضية أساسية في محاربة الإرهاب، الإرهاب كفعل ذكوري انتحاري ينتقل بالمضحي للفردوس و الحياة الأخرى حيث الخلاص من كل حرمان معذب ، فما هو مشتهى وشبه مستحيل في الدنيا كونه حرام، يصبح تلقائيا بمجرد الموت مباحا تماما في الآخرة التي تصور كحياة مجون ومتع لا تنتهي وغير محدودة بقانون أو عرف أو مسؤولية …

– فصلت [41] – الآية [31] 1 نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون

– الطور [52] – الآية [20] 2 متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين

وإذا كان الموت طهر تعبدي كالخصاء بل أرفع منه قيمة فلماذا قتل الآخر ، هنا نهبط من هذا السمو الذاتي المظلم نحو الوحشية التوظيفية التي تقدس السياسة وتقحم المقدس فيها ، فقد جرى على يد السلفيين الجهاديين اكتشاف وتوظيف الكبت الجنسي في توليد العنف السياسي , وتحويل طاقة الليبيدو الجنسية إلى دافع أيديولوجي ذكري عدواني طامح للقتل والسيطرة , ينقلب في ذروته لأنثوي ماسوشي شديد الميل للموت والانتحار .. ويستخدم المختلين عقليا والفاشلين اجتماعيا والمحطمين عاطفيا .. خاصة في البيئات الأشد فقرا وبؤسا وتخلفا المعدمة في كل شيء ، وأحيانا يستعين بالأدوية المهلوسة وعمليات غسيل الدماغ والعيش في العالم الافتراضي واستبدال الواقع بالعالم الآخر كأي لعبة كومبيوتر ، حيث يصعب التفريق بين شخصية اللاعب وشخصية الفاعل .

وإذا لم يعوض على ذلك وجود وعي وضمير اجتماعي قوي مزروع بالتربية , قد يسمح بانحطاط هذا الإنسان إلى سوية وحش حقيقي مستتر كثيراً بأردية التدين / كأقنعة تنكر أو كتوهم معاش متصل بالله… وإذا توفرت لهذا الداعية المعقد التكوين النفسي والعقلي والعاطفي ظروف مناسبة وساحة للانطلاق وامكانيات مادية سيصبح له جنودا من الفارين الهاربين من جحيم الحرمان والبؤس والجهل والكبت والعنف الأسري والمدرسي والسياسي, ومن قسوة المصادرة والقمع والكتب الجنسي , أو من المحطمين المدمنين , ثم قد يحولهم قائدهم بواسطة إمارته العصبوية المليشيوية الغاشمة إلى قوة ضاربة تجسد له ولهم , ما عندهم من حقد ووحشية يسمونها “جهاداً ” لكنه جهاد من أجل ماذا؟ من أجل نصرة الله الغاضب الذي لم يجد من ينصره سوى هؤلاء المظلومين الحاقدين، والذين يشكلون حزبه وجنده كما يتوهمون … في حين أنهم ينصرون الجوع والحقد الذي بداخلهم والذي لا يحركهم سواه لأن الله لا تنقصه القدرة ولا تعوزه الملائكة لفعل ما يريد ؟ وهم يتعمدون طريقة انتقائية في اختيار ما يناسب دوافعهم النفسية والسياسية من نصوص الدين ويتجاهلون ما يعارضها .

{ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (سورة البقرة 255)

المرأة ليست الأم التي ندخل الجنة ببرها , وليست الأخت المساوية لنا , وليست الابنة التي ستصبح مثلها , ليست نفس لها حق الوجود والامتحان , فبمجرد أنها شريك في الجنس وموضوع له، تنهار وجودياً إلى مستوى الشر والخطيئة والنجس والعورة الذي يجب إخفاءه , مع استثناء كامل للرجل… ولا نفهم لماذا كل هذا الخوف الأسطوري من المرأة الذي يتظاهر بالاحتقار والقهر , هل لأنها تمتلك امتيازاً اجتماعياً يجعلها تتفوق على الرجل بارتباطها العضوي بالأسرة , ولا نفهم لماذا هذا الخوف الأسطوري من الجنس أيضا ، هل هو الخوف من النفس التي لا تقوى على ضبطه , والجاهزة دوماً للانفلات من عقالها . أم هو الخوف من الصراع مع الآخر على المرأة. الذي فرضته الظروف الصحراوية البدوية القاسية التي تفتقر لمعظم ما يساعد على نشوء السلطة الفعالة مادياً، السلطة القادرة على حماية المرأة وحماية الحقوق والأسرة , مما يضطر الذكور لفرض نظام الحراسة الصارم على المرأة / الظعينة ، ويضطر الأنثى الضعيفة جسدياً للقبول به كبديل عن الاستباحة الحتمية والتحول لسبية من دونه. أي أنه الحرص على صيانة مستوى أولي من الوجود الاجتماعي السلمي في مجتمع وبيئة صحراوية لا يمكنها تحمل أي درجة من التسامح مع أي حرية أو فوضى جنسية , وهذا النظام الصارم لا يقوم من دون تقديس و أسطرة رابطة الدم /الشرف، الحمية والعصبية، التي اعتمدها الفقة الاسلامي وحول الاسلام لدين المحرمات الجنسية بامتياز . فالرمز الأكثر شيوعا ودلالة على الإسلام هو حجاب المرأة وهو شغل المسلمين الشاغل .

وهذا يفسر لنا جزئياً لماذا ينتشر الحجاب في البيئات الصحراوية , ولماذا انتشر الإسلام في المناطق الجافة والقاحلة ، أو لماذا هذا التناقض الرمزي الجغرافي بين الإسلام والزراعة، بعد أن شرحنا الترابط بين الإسلام وقيم الشرف الجنسي الذكوري الصحراوي و تأثير الجغرافيا في جينات الثقافة ، لنصل لفهم طريقة ارتباط العنف والارهاب بالثقافة الاسلامية الصحراوية.

لذلك يصر ويشدد الفكر الأصولي المغالي المسيس على تقليد الماضي البدوي والتثبت عنده ، وعلى الحجاب وكبت المرأة ، ويصر على توليد واستثمار الكبت الجنسي ويدافع عنه بكل عنف. لأنه يهدف من وراء ذلك إلى توليد وتوظيف عنف الكبت الجنسي في إنتاج القوة السياسية العسكرية الضاربة التي يحتاج إليها لتنفيذ أغراضه السياسية التي وجدت في الدين منبع قوتها السياسية … أقصد العنف الذي يخدم أيديولوجيا ونزوات دوغمائية ، والموجه نحو المدنيين المخالفين اعتباطيا ( إرهاب ) كوسيلة ذات تأثير كبير وفعالية عالية تفوق كل الأسلحة وتعوض نقص التكنولوجيا.

فبمقدار استثارة واستفزاز الذكورة المتأثرة برؤية المرأة العارية بمقدار استحضار الرغبة بالعنف , التي يبررها الغضب المسقط على الرب افتراضياً , الرب الغاضب من مشهدها والذي أمرها بالستر , فيغضب لغضبه ذكور المسلمين … ويمارسوا العنف على الآخر وضده بقدر ضخامة المشاعر الجنسية المحرضة / وبواسطة ربطها بالدين يصبح هذا الغضب مقدسا وليس جنسيا ، وبمقدار الخلط بين الذات والإله يتم تجيير هذه المشاعر المضخمة (بسبب الحرمان والكبت وقوة الشهوة ) إلى حقد (إلهي) يبرر ويغذي ويأمر بالقيام بأفعال سادية رهيبة من العنف الوحشي البربري، الذي يعبر عن الآيروس الجنسي العدواني, وهو ما يظهر جليا في السلوك السياسي المضاد للاجتماع والمجتمع ككل , والموصول بموضوع جنسي شهواني مكبوت على الدوام مرتبط بادعاء طاعة الشريعة التي نظمت حياة البداوة يوما ما فصارت على يد الأصولية السلفية هي الدين القويم الصالح لكل زمان ومكان والذي لا تبديل له.

– الأحزاب [33] – الآية [23] من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.

– التوبة [9] – الآية [111] إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.

المحرك الحقيقي للمتطرف هنا ليس الإيمان بالله الذي يفترض به أن يتكون بالعقل والتفكر ويعاش بالبحث والابداع ويولد عنده الحب أولاً ثم الصبر والتسامح كإنسام مستخلف من الله في اعمار الكون, بل لأن هذا الإيمان المتشدد مشوه وشكلي ومتثبت عند الوحشية السادية الجنسية البدائية، فهو غير مقبول إلا إذا كان تكفيرياً وغاضبا ودمويا ، يعبر عن ويبرر الرغبة الجامحة بالعنف كتصريف خارجي للكبت والحرمان ، والشبق والشهوة والكره.. مع ما يرافقه من حب للسيطرة والامتلاك والتسلط والقهر والإذلال والالتهام والعنف والقمع والإكراه والاغتصاب والسبي والذبح وارتكاب المجازر . مع كل المتع واللذات السادية المركبة عليها .

الخوارج والتكفيريون المتشددون يهربون من الواقع نحو المعنى والشعر والجنس والعشق , وفنهم وشعرهم وجداني شكلي رمزي معنوي، يتعاملون مع القرآن كنص غنائي شعري ، و سرعان ما ينتهون بقتل النفس في ساحات القتال لتخليد المعنى والدلالة…الحامل الاجتماعي للخروج في الماضي هو القبائل البدوية التي هاجرت وضاع منها المجد (ربيعة وإياد ) .. الآن الحامل الاجتماعي هو فتات المجتمع الأهلي التي تجمعت في أحزمة البؤس حول المدن وفي الأحياء البائسة حتى لو كانت قد هاجرت إلى أوروبا ، دون أن يتم استيعابها في مجتمع مدني قوي وقادر .. ليلعب التمرد والعشق والفروسية والفداء دورهم في الانتماء لداعش ومنظمات الجهاد كمجد وبطولة مشهودة تتحقق بعد الشهادة المدوية على أنغام آيات القرآن التي يجري الاهتمام بلحنها وتجويدها، وبديل مغري عن الضياع والحرمان والواقع البائس و الخنوع المذل للسلطة الغاشمة .

الدين والمقدس يقوم على التحريم والتابو المؤسطر المطلق وليس على التساهل والنسبية، ولطالما كان هناك طلاق بين التقديس والتسامح، فكل دين وكل ايمان هو مشروع تعصب مهما ادعى، والإرهاب هو واجب ديني من وجهة نظر مرتكبيه، كرنفال بطولي تموزي جماعي طقسي مقدس ونبيل ومتطرف للخصاء والموت الأسطوري الجمعي متكرر و مشهود في كل مراحل التاريخ ، يتكرر عندما تنتشر المعصية و تشتد الحاجة للتضحية والفداء ، بل هو اعلان صارخ عن فشل الحياة العادية ، وهو أيضا في هذا العصر سبب لهذا الفشل من خلال استمرار الثقافة الذكورية الأبوية التي تحاول تكريس امتلاك الذكر الأب للأم والابن معا، والتي تستخدم تكوينيا الكبت والقمع كجزء لا يتجزأ من هذه المنظومة، فتنتج العنف والاستبداد والارهاب ( داعش ) وتجعل من جرائمهم عملا مقدسا. بينما يستغرق البعض في الأسباب الدينية والسياسية التي لا نراها كافية كدافع لقتل النفس … فهناك فارق بين الحرب والارهاب . فالحرب هي تنازع مع الآخر ورغبة في هزيمته ، بينما الإرهاب هو أيديولوجيا تعبر عن تخلف وبؤس وفشل ذاتي، وعن رغبة داخلية في قتل الآخر والانتحار مستقلة إلى حد كبير عن أسباب الحرب وقوانينها.

المجتمع المنغلق الفاشل الذي يهيمن عليه التعصب يعطي الموافقة على فعل الارهاب في ظروف خاصة ، ويشجع ضمنيا الشبان على ارتكابه ، لكن فقط اؤلئك الشبان الذين يعانون من تكوين نفسي مختلف هم من يعملون بهذه الموافقة الجمعية، فلا الظرف الفكري والنفسي لوحده كاف لدفع الفرد نحو ارتكاب فعل الارهاب الانتحاري الفظيع، ولا وجود الموافقة الاجتماعية عليه كاف لوحدها على دفع الشبان نحو الانتحار ، بل لابد من اجتماع كلاهما معا ، لذلك يهاجر الشبان المهزومون نحو أمهم في الرقة ليعودوا محملين ببركتها اللازمة لتبرير طقس الموت المقدس البطولي هذا، والذي يزداد قيمة وقدسية بمقدار حصوله على الاهتمام الاعلامي كتعويض عن الشعور المزمن بالدونية واللاقيمة .

وإذا كانت عشتار العاشقة المحبة للحياة هي رمز الأمومة والخصوبة التي ولدت الربيع، فإن داعش هي أختها أريشكيجال التي تعيش في العالم السفلي وتختطف إليه من تطال يدها … داعش هي كل هؤلاء الأبناء المحرومين المفتقدين لعشتار والراغبين في الموت التموزي كتقرب بها حيث يؤدون طقسهم الخصائي على مذبحها حبا وعشقا وقداسة وشهوة حتى الموت … من قال أن الأساطير لا تعيش في القرن الواحد والعشرين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.