السعادة المستحيلة

د. كمال اللبواني

السعداء في العالم ثلاث هم : المستبدون في العالم الشرقي وكلاب العالم الغربي وأعضاء الائتلاف السوري والوفد المفاوض ، وليس السبب في ظروفهم بل في تكوينهم ذاته : وذو العقل يشقى بالنعيم بعقله ، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم ، والعته ضروري لتوهم الشعور بالسعادة التي هي مطلب مستحيل …  ليس فقط فان كوخ وتشيخوف ، بل معظم الأدباء والفنانين الانطباعيين عبروا عن استحالة تحقيق السعادة ، من خلال رؤيتهم الحدسية لشرائح المجتمع و شخصياته ، فالأدب والفن العالمي غير الرسمي لم يعثر على السعادة ولم يدونها لنا لكي نبحث عنها كما يفعل من يتوهمونها في كرسي أو منصب أو ثروة .

… وأنا هنا لا أكتب عن استحالة السعادة لأعزي ملايين المنكوبين السوريين الذين تعرضوا لأشد ما يمكن أن يتعرض له شعب في العالم ، لا أكتب للثكلى التي فقدت ابنها ، ولا لمن لا تعرف مصير زوجها ، ولا لمن تشوه وتعطل ولم يجد من يساعده ، ولا للطفل المشرد بين الخيم والأنقاض ، ولا للجائعين تحت حصار البراميل ، ولا لمصارعي الموج وطعام الأسماك … بل أكتب إلى جيل شاب رغم كل ما تعرض له ورغم البؤس الذي أصاب وطنه بدأ يتبنى ثقافة جديدة تتعلق بمجتمع الرفاهية والحرية المزعومة ، فالهجرة من ذاك الخراب الذي كان اسمه سوريا لم تحدث فقط بالجسد هربا من البراميل بل معها وقبلها بالروح والعقل والثقافة نحو الاغتراب … وهذا لا يعني أن الهجرة سيئة بحد ذاتها ، لأنها أحيانا تكون مفتاحا للإبداع والتغيير حيث يتخلص المهاجر من أسر بني القربى والمحافظين وتقليد الموروث المتكلس .

يعيش شبابنا وهم أنهم يجب أن يكونوا سعيدين أحرار ، وسعادتهم كما يظنون في الحصول على ما يرغبون من متطلبات هي بنظرهم محقة  وما أكثرها ، لكن أيضا لا يدركون أنه حتى لو حصلوا عليها كلها ستنشأ متطلبات جديدة تؤرقهم وتصبح سبب تعاستهم وهكذا … فمحموم الاستهلاك والرفاهية كشارب ماء البحر . حتى قال الحكماء : القناعة كنز لا يفنى ، لأنها تخفف هذا التوتر الشره لمتطلبات العيش الذي لا يديم فرحة الوصول لأي غاية ، بل يستبدلها بشوقِ غاية أخرى . فالسعادة المستمرة ممكنة فقط عندما نمتلك القدرة على فعل ما نريد ، وهذا لا يتحقق إلا في الفردوس . وكل حياة خارجه هي عبودية للضعف والحاجة وتعرض للألم والنقص والحرمان . إلا عند مستبدي الشرق الذين يستبحون كل محرم ومع ذلك الكل يخدمهم ، وكلاب الغرب الذين يشاركون الرفاهية دون تبعاتها من عمل أو قانون ، وأعضاء الائتلاف الذين استبدلوا الوطن بالفندق المدفوع الأجر وصارت كل أفعالهم هي تصدير البيانات .

الذي أركز عليه هنا هو طلب السعادة الذي يطلبه الشباب ، أي طلب استمرارهم بشعور الفرح والرضى والغبطة والراحة والمتعة … بعد أن أصبحت هذه المطالب مشروعة ومعترف بها في ثقافة الرفاهية ، لكنها بقيت مستحيلة عمليا … مهما تغير مستوى الحياة المادية ومهما تغيرت السوية الطبقية ، والعادات الاجتماعية ، وأنماط الاستهلاك ، مما يولد تناقضاً تأسيسيا بين الثقافة والواقع له مفعول مدمر للحالة النفسية والاجتماعية للأجيال الجديدة . فعيب هذه الثقافة أنها تعد بشيء مستحيل هو السعادة . مصممة لزيادة أرباح الشركات على حساب تعاسة الناس وسعيهم المحموم وراء سراب تزينه لهم دعاية تجارية وفنية رخيصة .

السعادة سراب ، شعور مؤقت في لحظة الانتصار والحصول واطفاء الشوق ، فهي بمقدار الحرمان والشوق ، نعيشها حرقة وأملا ، ونشعرها لحظة ثم تزول ، تذيقنا طعم الفردوس ولا تجعلنا نعيش به ، فبمجرد الحصول على ما نشتهي نعتاد الموجود وينشأ شوق معذب جديد … فالبحث عن سعادة هو غير منطقي في أي ثقافة تضع ذلك هدفا وغاية ، فهي بذلك تخلق أنماطا استهلاكية جنونية ، وتحث الرغبة وتطلقها ، وتحرض على السعي للمزيد من الإثارة والتشويق لاجترار الشعور بالسعادة وتضخيمه ، وصولا للشذوذ ، وتثير درجة من الأنانية وانحطاط الشعور بالواجب ، بل أيضا تسبب الميل لاستعمال المسكرات والمخدرات وتنتهي بالشعور الدائم بالكآبة وأحيانا الانتقام من الآخر أو الذات … فما لذة العيش إلا للمجانين .

وبدل أن يكون هدفنا هو السعادة بطريقة مبهمة ، يمكن البحث عن مشروع وهدف ، والسعي لتحقيقه والانشغال به ، وننشغل بالبحث عن الأفضل والأنسب ، ونهتم بالنجاح بالوصول إليه دون وهم الحصول على السعادة منه ، يمكننا أن نقارن بين الظروف والنظم ونختار ، لكن أن نتوهم أن نموذجا منها يحقق السعادة فهذا مستحيل ، فلكل نظام ولكل حال فرحه وحزنه ، ونحن لن نشعر بالسعادة في الدنيا حتى لو كنا مشاهير وأغنياء وزعماء وأعضاء ائتلاف أو قادة ألوية أو لاجئين في أرقى دول العالم …

ما يجب لجمه هو الرغبة والشوق وتصور أن السعادة ستتحقق في الحصول على أي شيء مهما كان لأن ذلك مصدراً للتعاسة والألم ( تعاليم بوذا )  ، طالما نحن في هذه الدنيا التي هي دار شقاء وفناء … الذي يجب أن يتحكم بنا هو رغبات أخرى غير السعادة : كالنجاح والقيام بالواجب والعمل ومساعدة المحتاج وتخفيف ألم المصاب ، فهي ما تشغلنا وتخفف ألمنا وشقاءنا في هذه الدنيا التي لا يجب توقع خلوها من هم وغم وحرمان وألم وفقر … فالغني هو الله ولا سعادة لمؤمن إلا بلقاء وجه ربه …

الشباب يحلمون بالحرية، ويرون أن النظام الديمقراطي أفضل وأرقى ، وأن دولة الرفاهية تقدم الكثير من الخدمات ، لكنهم لا يدركون أنه ليس نظاما لا للحرية ولا للسعادة ، بل هو استبداد أقل إيلاما ، فالدولة الديمقراطية  تجعل المواطن يعيش مستعبدا للراتب الوظيفي ، فإذا انقطع عنه لأتفه الأسباب تكدرت حياته وانتقل لذل السوسيال ( المساعدة الاجتماعية ) ، وتجعل المواطن مستعبدا للانضباط القانوني والإداري الذي ينظم معظم شؤون الحياة حتى داخل غرفة النوم ، الديمقراطية تستبدل آليات وأشكال الكبت والتحكم ولا تلغيها ، فالدولة مهما كان نظامها تبقى أداة قهر وقمع وضبط ومراقبة ومحاسبة ، يزداد طابعها القمعي بمقدار تعاظم دورها وسلطتها ووفعاليتها وتفاصيل قانونها … والحرية شيء نظري ، وهم لا يستطيع المواطن استعماله عادة في دولة مقيدة بالنظم ، فلطالما كان النظام والانضباط هو شيء معاكس للحرية ، والحرية عكس الدولة مرتبطة بالفوضى وليس بالنظام الذي هو القيد لهذه الحرية ، (  هنا يوجد من يغير معنى الحرية ليتهرب من هذا التناقض )

عندما قامت الثورة وتحطمت سلطة الدولة، مورست الحرية بمقدار ما فشلت الدولة ، وعندما برزت الحاجة من جديد لسلطة الدولة التي تنظم هذه الفوضى وتلغي تلك الحرية أعيد إنتاج السلاطين والأمراء والخلفاء الذين لا يختلفون كثيرا عن بشار ، فالحرية تعني أن يكون كل مواطن دولة ، وكل مواطن قانون وقاضي ، وهذا معاكس للحضارة ، الممكن من الحرية في النظم الحضرية والمدنية هو اختيار نوع الأصفاد ، يسمحون لك بانتقاد وشتم الحاكم عندما لا يؤثر ذلك على سلطته ، عندما تكون سلطته غير مستمدة من سمعته وشعبيته وشرفه ، بل مستمدة من نظام مالي قانوني سياسي اعلامي صارم ممسك بكل شيء ، ويقرر كل شيء ، ثم يسمي مواطنيه بالسادة الأحرار الذين لا يستطعون التأخر عن دفع فاتورة واحدة أو قسط لقروضه … الحضارة متعه لكنها في سجن ، رفاهية باهظة الثمن يولد تحصيل ثمنها شقاءً أكبر منها ، الحضارة سجن يحيطك بصفوف من الجدران والاكراهات والتعقيدات … والديمقراطية تشبه استبدال قيد  العبدة الحديدي بحلي ذهبية ترتديها السبية عندما تشترى لتصبح زوجة مكرمة بعبوديتها للرجل ، وتتباهى بهذا القيد ، كما تتباهى دول القمع الأوروبي بديمقراطيتها الوهمية …  جميلة كتلك الحلي التي تقوم بذات الوظيفة التي تقوم بها القيود مع أنها تعطي وهم الحرية بلمعان ذهبها .

 الناس ينشدون السعادة بالسلام والأمن والعودة لأعمالهم بأي ثمن ، وبشار يقتل الناس تحت تأثير وهم أن بقاءه في السلطة سيحقق له السعادة هو وزوجته وأولاده من بعده ، ليكتشف أنه الأكثر خوفا وقلقا وفقرا لأبسط عناصر الحياة ، والشعب يظن أنه بقتل بشار سينتهي عذابه وسيدخل الفردوس ، ليكتشف أنه يستبدل بشار ببشير . والذي يركب البلم ويصل لأرض الشنغن يتوهم أنه تخلص من بلد القتل والتعذيب والفقر ودخل بوابة السعادة ، ليكتشف أنه سيعيش في مخيم وغربة ، وعطالة وبطالة تعيد تفجير  حنينه لوطن الفقر والتصحر ، فيراه جنة مفقودة …

صحيح أن الحرب مؤلمة وقاسية ، لكنها ضرورية أيضا ، وفي الاستسلام  يزداد الشقاء والظلم … لذلك على الثقافة أن تكون واقعية لتنتج سلوكا واقعيا ، والأساس الذي يجب أن نبني أنفسنا عليه ليس البحث عن السعادة والمتعة والركينة ، ولا أن تكون هدفنا السياسي ، فهي كما نرى سبب المصائب ، بل هو العمل والقيام بالواجب دون وهم البحث عن السعادة والمتعة والراحة لأنها أقصر طريق نحو الخسارة والذل والإكتئاب والتوحش والحرب الأهلية …

لا الزوجة ولا العشيقة ولا الأولاد ولا السيارة ولا الفيلا ولا الحساب البنكي  ولا السلطة ولا الزعامة ولا الشهرة ولا الحرية والديمقراطية والعدالة سيكونوا سببا للسعادة،  إنها مشاغل وأعباء وقيود جديدة … فقط الرضا عن النفس وأداء ما يتوجب هو الذي يولد نوعا من الاطمئنان والرضا … الذي هو أغلى ما يمكن تحصيله . وهو ما تشير إليه  الآية الكريمة :

{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } (سورة الفجر 27 – 30)

أينما كنا في السجن أو في الحرية في الحقل أو في السلطة ، في جبهة الحرب أم في فنادق السفر علينا أن نقوم بواجباتنا التي يفرضها علينا موقعنا ودورنا في المجتمع الذي سرق حريتنا وذاتنا وضمها ( لكل يشبه آلة )  لا لحم فيها ولا مشاعر لها ، نعم نحن جزء من آلات لا تشعر ، نقوم بما يمكننا دون حرقة ولا شوق ، لا طمع ولا انبهار … ومن دون أن نقبل بأننا ماكينات عمل لن نستطيع تعويض ما خسرناه ولا تحقيق ما نريد تحقيقه كشعب … هذه هي الحياة وهذا هو امتحاننا وبلاؤنا وعنوان نجاتنا ، إنها الحياة التي تصر على تذكيرنا دوما أننا عبيد فيها … أما وهم المتعة والسعادة فهو وهم مدمر ، يجب أن يستبدل بشرف القيام بالواجب تجاه الناس ورب الناس ، وحسن أداء الواجب هو شرف كل عبد . وهو الاسم الذي خاطبنا به رب العرش العظيم . فالحرية وهم ، وتخلي عن الواجب وركض وراء السعادة التي هي وهم أكثر منها ، و الحضارات لم تبنى على مبادئ الحرية والسعادة بل على العبودية للحق والقيام بالواجب والأمانة، فلا حرية ولا سعادة قبل انعتاق النفس من أسر الجسد الحيواني الذي لبسته ، لذلك كانت الشهادة هي أضمن وأسرع طريق إليها :

{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) } (سورة فصلت 46)

صبرا أهل حلب ، لنحتسب شهداءنا ونقوم بواجبنا  والله المستعان .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.