لمّ الشّمل

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

على السوريين المهاجرين انتظار سنوات لكي تستكمل إجراءات لم الشمل بينهم وبين أحد من أفراد أسرتهم الذين تشتتوا في الأصقاع وانقطعت بينهم السبل ، لكنهم يستمرون في غربة عن كل ما حملوه معهم من صور وذكريات في بلدهم ، فهم غادروا على عجل من دون أن يحملوا معهم أي شيء ، وتشردوا على مراحل بدءا من الهروب من الاعتقال ، ثم الفرار من القصف العشوائي ، ثم الفرار من الفرار حيث داهمهم خطر الترهيب والغريب … ثم من الدول التي فروا اليها فعاملتهم معاملة الحيوانات ..  وهكذا يستمرون في مسيرة تشردهم وتشتتهم حيثما استطاعوا اختراق قوانين الحصار  والتجويع .

خرجوا على عجل آملين في عودة قريبة ، فطالت غربتهم وتعقدت مأساتهم ، وباعدت بينهم الأيام والجغرافيا ، وصار البعد جفاء ، ولم تعد وسائل التواصل كافية لتجديد ذكرياتهم المشتركة ، فصار الكلام صعبا ، والحديث مختصرا لمجرد رسالة معايدة تنسخ وتلصق على دردشات الموبايل ، لتبقي على آخر ترابط اجتماعي ووطني بينهم …

قوانين الدول قطعت بين الأسر وأفقدتها إمكانية التواصل ، الحاجة والفاقة والغربة حولت غنيهم لفقير وفقيرهم لمتسول . ومنتجهم لعاطل ، الكراهية والتمييز والنبذ حولهم لمضطهدين في دول اللجوء ، ظروف العيش في المخيمات والتشرد دمرت ما تبقى من قيم وتقاليد اجتماعية … توحشت حياتهم فتوحشوا ، تقلص وطنهم لخيمة أو بطانية ، وسلة غذائية ، وصار جل حديثهم يتمحور حول الحنين للماضي ، أو شتم الحاضر بكل ما فيه .

إذا سمحوا لك بجلب زوجتك وابنك الصغير فماذا عن الكبير ، وماذا عن البنت والصهر والخال والعمة ، ماذا عن الجار والصديق … حياة كاملة انهارت وتبعثرت ، وطن تمزق ومجتمع تنافر وتناثر ، صار هم كل فرد أن يبدأ حياته الجديدة من لا شيء ، يبحث عن أسرع الطرق للدخول لسوق العمل فيصطدم بحقيقة كونه لاجئ منبوذ … يكره نفسه وغربته ويقف في حيرة تجعله يحسد من بقي تحت ذل النظام وبراميله …

لا شيء في حياته غير الأمل في العودة ، فإذا تبخر هذا الأمل أصبح انتظار الموت هو الفعل الوحيد الذي يستطيع القيام به ، فالموت هو الشيء الوحيد المنتظر  مع انهيار كل شيء من حوله ومن خلفه وأمامه ، ومع تتابع أخبار القتل  والتشرد والتدمير والقتال …

حتى في أحلامه يرى بساتينه العطشى في شهر تموز تستنجد به كي يرويها ، ويستمع لصوت السجناء يستغيثون به ، ويستعرض صور من سقطوا في نيران تلك الحرب الظالمة التي شنت عليهم ، يتخيل ماذا حل ببيته وحارته وكيف قطعت كل مصادر الحياة فيها … يخشى أن يتكلم مع أحد أقربائه خوفا من سماع خبر سيء جديد لم يصله بعد ، أو طلب غير قادر على تلبيته ، إذا بحث عمن يواسيه وجد من يزيد همه هما وغما ، ذهب للشقيق فكان أكثر لؤما من العدو ، بحث عن الرفيق ، فتركه عند أول مكسب وخانه وسرق حصته ، صار يهرب من ابناء وطنه في الغربة خوفا منهم ومن مشاكلهم ومتطلباتهم . صار غير قادر على فتح جواله كي لا يستقبل المكالمات العاتبة … حتى تركيا غضبت منه وأغلق حدودها في وجهه . من لم يهجره النظام هجرته داعش والبي واي دي ، أو صراع الأمراء ، من لم يتقله الرصاص قتلته البراميل والأمراض والجوع والحسرة .

نعم لقد ماتت سوريا ، ومات المجتمع السوري ، وتوحش السوريون وتشردوا وانقسموا ، وصار من الصعب لم شملهم بحل سياسي أو بهيئة انتقالية، فسوريا لن تعود إلا على بحر آخر من الدماء والتصفيات … لن تعود حتى ينتصر فريق على آخر ويسحقه تماما … وليس على السوري سوى أن يختار بين الفرار نحو ذل الغربة ، أو البقاء والانغماس المصيري في أحد خنادق الحرب … فالحَكَم الأول والأخير هو للقوة والغلبة والقدرة على القتل ، هكذا استمر حال السنوات الخمس و لم يعد يقبل العودة ، فلا مكان في مثل تلك المعركة للحق والعدل أو التسامح والحلول الوسط … سوريا ستكون دولة للمنتصر في الحرب التي تدور على أرضها… ولا خيار سوى خيار الموت العزيز على أرض الوطن ، أو الذليل في أرض الغربة . وليس من السوريين إلا من قضى نحبه أو من ينتظر … وليس علينا كسوريين سوى السعي للم الشمل الوحيد الممكن بمتابعة القتال حتى النصر ، أو علينا انتظاره في الحياة الآخرة حيث يحشر المرء مع من أحب .

من أنين السجناء المتعفنين تحت التعذيب القاتل ومنهم الأخ والإبن والصديق والجار ، من عويل الثكالى والأرامل ومنهم الأم والأخت والعمة والخالة ، من صراخ الأطفال الذين شوهتهم القذائف  ، من عرق الباحثين عن لقمة يسدون بها رمق أهلهم الجياع ، من عزيمة الثوار الذين افترشوا الصخور والرمال لسنوات لم يردهم عن ثورتهم سوى الموت ، ومن بأس وإيمان المجاهدين وفدائهم …  من حنين المشردين والمهجرين ، ومن ذل المخيمات وذل السؤال …. من كره واحتقار كل من تسلق على حساب الدماء والجوع ، وارتفع على ظهور الآخرين وتسلط عليهم وزيف كفاحهم وتاجر بقضيتهم … من الأرض التي جفت عطشاً ، والشجر الذي قطعه الأوغاد ، من الحارات التي صارت خرائب ، من رماد المدن المدمرة المحترقة … من هذا كله على السوريين أن يعودوا ويلموا شملهم على أرض سوريا التي هي لهم ، لهم وحدهم  من دون الغرباء والأفاقين والسفلة الذي جلبوا كلاب الأرض ليطردوه منها ، فسوريا لا تتسع لغير الوطنيين ولا يجوز أن يكون فيها مكان للخونة والمجرمين والغاصبين والحاقدين … بالدم وحده ستعود ، وبالدم ستطهر أرضها  ويغسل عارها ويمحوا ذلها ، فلا نامت أعين الجبناء .

سلام من صبا بردى أرق      ودمع لا يكفكف يا دمشق

وللحرية الحمراء باب                    بكل يد مضرجة يدق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.