يثب

البنود المخفية في اتفاقية (كيري – لافروف )

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عاش الشرق الأوسط طيلة القرن الماضي  على خريطة اتفاقية سايكس بيكو التي تقاسمت بموجبها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى تركة الامبراطورية العثمانية …. و تسعى اليوم قوى عالمية مهيمنة ومتصارعة لرسم خريطة نفوذ جديدة في المنطقة تعبر عن تغيرات موازين القوى بينها … فقد تراجعت بريطانيا وفرنسا وتقدمت أمريكا مكانهما ، بينما نزلت روسيا التي تمثل الواجهة العسكرية للاقتصاد الصيني الذي يغزو العالم، ويقوض التفوق الغربي ويهزمه في عقر داره ، ويجعله يعاني من أزمة اقتصادية متصاعدة ومستمرة لا أمل في حلها، ستقوده حتما للتخلف . في حرب اقتصادية عالمية تتقدم  فيها اقتصادات الصين ودول أخرى وتهيمن بطريقة سرطانية وحشية على بقية البلدان ، مع أنها تفتقر لأي نوع من أنواع القيم والمعايير  والجودة ، ولا تتزين بأي نوع من المحسنات الحقوقية والديمقراطية…  هذه الحرب الاقتصادية العالمية تتظاهر بشكل صراع عسكري في الشرق الأوسط الذي يصبح هو بيضة القبان في التوازن بين الشرق والغرب .

الجميع اليوم  يسقط ما جرى في الحرب العالمية الأولى على ما يجري في الحرب العالمية الثالثة، ويقارن بين سايكس بيكو . وبين كيري لافروف ، و يتساءل عن محتوى ومضمون وخفايا اتفاقية كيري لافروف التي يريدون تسويقها عبر اجتماعات فيينا المتسلسلة ، ويتشوق لمعرفة خريطة ومصير المنطقة وزعمائها الجدد الذين ستقبل أوراق اعتمادهم عبر مفاوضات فيينا ، لذلك تسارع أغلب الشخصيات الكركوزية الانتهازية في المعارضة السورية لتقديم أوراق اعتمادها للمؤتمرين وترتدي زينتها لحضور حفلة السمر تلك …

قلة فقط تنتبه أن كل ما يناقش ويتفق عليه في فيينا لن تكون له أي قيمة فعلية مهما كان … فحال المجتمعين في فيينا هو كحال المعارضة السورية المتمثلة في الائتلاف القائد، والتي تتوهم أنها ترسم مستقبل سوريا عندما تجتمع للطعام في فنادق استانبول بتمويل نفطي، لتقدم نفسها عشية كل اجتماع للسفير الأمريكي الذي يذهب بها لفيينا وجنيف … فلا الورق الذي تخطه يتحقق ولا هم يجرؤون على دخول سوريا حتى بعد التدخل العسكري الروسي والأمريكي ، وأي قائد ذلك الذي ينتظره جنوده ليطبنوه ويصلبوه ويقطعوه لو وصلت ايديهم اليه !!! ….

وحال بيانات الائتلاف القائد هو كحال بيانات جنيف التي تحدثت عن وحدة وسلامة اراضي الدولة السورية وعلمانية نظامها ، وعن اندماج الجيش الحر بجيش النظام ، واجراء انتخابات حرة مسلحة بين الميليشيات، يقرر فيها الشعب السوري مصيره ، دون أن يلحظوا أن هذا الشعب قد قتل وشرد ولم يعد موجودا لا هو ولا سوريا ، وأن كل المنطقة دخلت في مرحلة تفكك واعادة تكوين جذرية لا يمكن السيطرة عليها باحتلال أو بانقلاب عسكري ، أو بسلطة مصطنعة تحضرها أجهزة الاستخبارات الدولية …

المشكلة التي يقع فيها كيري ولافروف ومن ينتظر منهما أن يقررا مصير المنطقة ليست فقط أنهم يعتمدوا هذا النوع التافه من المقاربات السياسية التي لا تفهم الواقع ، و على هذا النوع الأخرق الهزيل من السياسيين الواهمين الانتهازيين الذين سيشكلون حصانهم المفترض به تنفيذ اتفاقاتهم. بل في كونهم لا ينظروا  إلا لميزان القوى بينهم ، ولمصالحهم هم ويتجاهلون تماما وجود الشعوب وارادتها ، بل يتحدون مشاعرها عمدا وعن سابق اصرار … ويريدون تكرار تجربة سايكس وبيكو  التي قامت باستئصال حرية الشعوب وسيادتها  وقمع ارادتها …

يحاولون تكرار التاريخ ، لكن بنسخة خرقاء ، لأن المتغير الأساس الحاصل الذي قوض خريطة ودول سايكس بيكو ، ليس تغير ميزان القوى بين الشرق والغرب ، بل تغير الشعوب و الإنسان والمواطن ، وشروط الحياة والعولمة المتمثلة في التفاعل الاقتصادي والاجتماعي … والتي تعيد صياغة العالم كله ، وهذا ما يجعل من محاولة تكرار التجارب السابقة مجرد عملية خرقاء هزلية و سخيفة بقدر سخافة اجتماعات جنيف وفيينا واجتماعات الائتلاف وشخوصهم … بالمقارنة مع عظمة الشعوب وقدرتها على التضحية والعطاء …

من ينتظر ليتحدد مصيره في فيينا عليه أن يسأل مجاهدي الجبهات وأطفال المخيمات فإرادتهم هي من سترسم المستقبل، وليس ارادة المجرمين أمثال بوتين ، ولا المنافقين أمثال أوباما ، وليس التكنولوجيا الذكية القاتلة ، بل البيولوجيا الممتلئة بقوة الحياة التي تتراكم تحت الخيم وفي الأزقة الضيقة ، وتمزقها صواريخ الهمجية العالمية … ومن يتوقع من بوتين وخامنئي أن يصنعوا المستقبل في الشرق الأوسط كان عليه أن يتوقع ذلك في أوروبا من هتلر وستالين وموسوليني البائدين …

وكما لم ينجح الائتلاف القائد في فعل أي شيء لسوريا التي يدعي تمثيلها منذ خمس سنوات ، كذلك لن ينجح كيري ولافروف ولا المجتمعون معهم في فيينا ( من الراكضين وراء كراسي السلطة الانتدابية الجديدة  بقيادة البشار ) ، في فرض أي واقع أو نظام سياسي ، أو رسم حدود أي دولة في المنطقة، التي تمردت وثارت ولن تتوقف الا في المحطة التي تريدها هي ، ولن ينجحوا جميعا وفرادى في حل أي مشكلة  يدعون العمل لحلها ، لأنهم لا يرون بنظاراتهم ومناظيرهم إلا أنفسهم ، وهم في الواقع متطفلون بل سبب معظم مصائب المنطقة . كما لن ينجحوا في تحقيق حتى البند المتوافقين عليه جميعا وهو محاربة التشدد الاسلامي ( الذي يسمونه بالإرهاب ) لأنه في الواقع  يزداد قوة وامتدادا منذ حرب الروس وأمريكا في أفغانستان معه … حتى حربهم في سوريا عليه …

فالمخفي في اتفاقية كيري لافروف ليس مخفيا عنا بل عنهم هم ( كون الشعوب وحدها هي التي ستقرر مصيرها بنفسها ) ، والذي يفترض فيهم أن يتفقوا على ترك هذه الشعوب بحالها والانسحاب المذعور على الطريقة الأوبامية ، أو المدحور على الطريقة البوتينية  … فهم في زمن غير زمن سايكس وبيكو ولن يرثوا تركتهما لأنها أصبحت ملكا للشعوب التي حملت السلاح وتمردت وألفت الموت والدمار ، ولن تكون لاتفاقاتهم التي ترسم مصير المنطقة  غير قيمة الحبر والورق ، حتى لو شارك فيها كل العالم وغاب عنها الشعب . لأن أمريكا العظمى تتجهة نحو الانحطاط والانكفاء الأخلاقي والقيمي قبل الاقتصادي والسياسي و تريد أن تحارب بواسطة غيرها ، أما روسيا الفاشية الستالينية القيصرية الجديدة فهي تريد استعراض العضلات وترهيب الشعوب بترسانتها العسكرية  واقتصادها الأخرق الذي لا يستطيع تمويل تكلفتها، وكلاهما لن يجلبا الحل لمشاكل المنطقة بل سيزيدوها تعقيدا وتوترا …. والذي جمع المنحوس على فاقد الرجاء في جنيف لا يجب أن يتوقع النجاح لهما في فيينا . والذين يجتمعون لتقرير مصير المنطقة ، ستقرر المنطقة مصيرهم جميعا : دولا وحكام وشخصيات سياسية متسلقة …. فقد ولى زمن الاستعمار والوصاية والاستبداد وولدت الشعوب الحرة  المسلحة التي تقوض كل سلطة ، لتعلن نفسها كسلطة وحيدة غير قابلة للتفويض والسرقة .

بفعل العولمة والتواصل الاجتماعي والثقافي ، نجحت الشعوب في تقويض الأنظمة ، وبفعل انهيار وتفكك وفشل الدول المصطنعة ، فإن المنطقة والشرق الأوسط والشعوب العربية والاسلامية لن تكون بعد اليوم ساحة نفوذ لأحد … هذا ما سيتعلمه كيري لافروف أخيرا ، لكن ربما يحتاجون أن يضربوا رؤوسهم في جدران الواقع العنيدة ليقتنعوا بذلك ، وأن تلقنهم شعوب المنطقة دروسا لم يطلعوا عليها في مدارس السياسة ، فالتاريخ لا يتكرر ، وإن تكرر شكلا فيكون في المرة الثانية نسخة هزلية خرقاء … أي باختصار وداعا سايكس بيكو ، وباي باي كيري لافروف … وأهلا بالفوضى الخلاقة التي ستحقق ارادة الشعوب .

مهما تغيرت خريطة الجبهات، ومهما بذلت الجيوش الأجنبية من جهود، فلن يتحقق الاستقرار إلا لما يحقق ارادة الشعوب …

ومن دولة لدولة تتنقل الثورات والفوضى التي تعم كل المنطقة … ومن اجتماع لاجتماع ، ومن مدينة لمدينة تتنقل مسيرة افلاس الدول وعجزها عن السيطرة على الشرق الأوسط … ويسجل التاريخ صورة الشعوب وهي تحارب من دون سلاح في سبيل حريتها وسيادتها ، ويسجل كيري ولافروف كمهرجين في عالم السياسة ، ومن ينتظر نتائج اتفاقيتهم ، ومن يتناقل الأخبار عن تغير مواقف الدول والحكومات، ويبني تصوراته تبعا لها، ولا يرى ارادة الشعوب، هو على موعد مع مشهد هزلي مضحك يظهروا به جميعا على حقيقتهم كنظام عالمي فاشل وبلا أخلاق كرسته نتائج الحرب العالمية الثانية لتقوضه نتائج الحرب العالمية الثالثة …

قديما قال العرب لمن يغرق في نهر يعبره (بقربه المنفوخة) : ( يداك أوكتا وفوك نفخ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.