بعد الشيوعية إنهيار الإشتراكية أيضا

د. كمال اللبواني

اعتبر كارل ماركس أن فضل القيمة ( الربح ) الذي يحققه الرأسمالي هو ما يقتطعه من جهد العمال ، فالعمل بنظره هو المصدر الوحيد للقيمة المضافة ، وبناء على هذه الفلسفة الاقتصادية ، اقترح نظاما اقتصاديا يلغي استغلال قوة العمل ، وطبقت فلسفته بطريقتين :

الأولى ثورية عنيفة هي الشيوعية   communism  التي ألغت بالقوة نظام الملكية الخاصة لأدوات الانتاج نهائيا ، وطبقت في روسيا والصين وشرق أوروبا وشرق آسيا  وشكلت المعسكر الثاني في القرن العشرين ، والتي انهارت معظم دولها  عام 1989 بثورة تحول اجتماعي كبرى ، بعد أن فشلت نظمها بسبب نزوعها نحو الاستبداد والفساد وتعطيل الحوافز والمبادرات ، بينما خاضت الصين تجربة تراجع مختلفة عن الشيوعية كما سنوضح .

والطريقة الثانية هي الاشتراكية socialism  ( الاجتماعوية ) التي سادت في الدول الأوروبية الغربية والتي اتبعت سياسة محافظة تعمدت اعطاء العمال ما ترى أنه حقهم في القيمة المضافة ، ونجحت في التطبيق ضمن النظام الرأسمالي ذاته ، ومن دون تأميم أدوات الانتاج ، طالما كانت السلع المنتجة تباع في دول العالم الأخرى حيث أضاف التبادل غير المتكافئ معها قيمة جديدة غطت ربح المستثمر من دون استغلال العمال . و أدامت نظام الرفاهية الغربي لكن إلى حين .

فهذه السياسات الاشتراكية أو الاجتماعوية بدأت تتعثر تباعا بمقدار ضيق هامش التبادل الغير متكافئ مع الأسواق الخارجية ، وبشكل خاص مع تنامي البضائع البديلة القادمة من اليابان ثم الصين وكوريا والنمور الآسيوية ، التي لا تعطي للعمل ذلك القدر من الحقوق أو الضمانات ، ولا تفرض الكثير من الضرائب على المستثمرين .

رويدا روديا أصبحت الالتزامات التي يجب على الرأسماليين تقديمها للمجتمع والدولة في دول الرفاهية باهظة ومنفرة ، فنشأت في الغرب نظريات الليبرالية الجديدة كمنقذ ، لكنها لم تنجح في الانتخابات حتى الآن بانتظار وصول اليمين المتطرف للسلطة والذي تأخر كثيرا ، حيث ما يزال يحسم التصويت العجزة والكسالى ، فهربت الرساميل والشركات أو أفلست ، وانتقلت المصانع للخارج حيث اليد العاملة الرخيصة والجنات الضريبية … وهكذا دخلت أوروبا والغرب كله في أزمة اجتماعية اقتصادية بنيوية لا مخرج منها ، بسبب الرفاهية الكاذبة التي بنيت على استغلال الدول النامية، فنظام العمل والضمانات الاجتماعية السائد ( الاشتراكي ) يستنزف المنتجين ويدفعهم للهروب ، ويحبط الطموحين والمبدعين ، كما يدفع اليد العاملة النشيطة والذكية أيضا للهجرة … وهكذا هرمت الحضارة الغربية ومالت للشيخوخة بسبب الاشتراكية التي أبدعها منظروا العدالة وحقوق العمال … وأصبحت على أبواب مرحلة جديدة من التطرف والعنف المرتبط به .

في الصين تم الجمع بين نظام الملكية العامة والحكم الشيوعي و نظام العمل الرأسمالي النيو ليبرالي معا بطريقة غريبة عجيبة ، فهي توظف العمال بسعر رمزي جدا ، وتفرض نظام تقشف شيوعي على المجتمع ، لكي تمكن منتجاتها الرأسمالية من المنافسة ، وتعطي الاستثمارات الخارجية حرية استغلال عمالها وتلويث البيئة وانتاج البضائع الرخيصة ، فيتسبب هذا النوع المشوه من التنافس بتدمير اقتصادات البلدان الأخرى ، ليس فقط الدول القوية التي أفادت من الاستعمار والتعبية والتبادل اللامتكافئ ، بل أيضا الدول المستقلة المناضلة في العالم الثالث ، حيث تستفيد الصين ومن ارتبط معها من الدول من العولمة الاقتصادية التي توحد أسواق السلع ، دون توحيد أسواق العمل ، بسبب عدم نضوج نظم العولمة السياسية التي تسمح بانتقال العمال، وعدم عولمة الديمقراطية وحقوق الانسان .

هكذا اذن انهارت الشيوعية ثم الاشتراكية  ودولة الرفاهية ، وساد نمط اقتصادي أحمق مخرب بسبب العولمة المشوهة المجتزأة ، التي تقيد آليات التوازن الطبيعية، التي نصت عليها قواعد النظام الرأسمالي ( السوق الحر ، والملكية الخاصة ) حيث يبدو بنتيجة هذا التحليل أن مقدارا من الربح لا بد أن يكون متوفرا ، وهذا يعني بالضبط مقدارا من الاستغلال والفقر والعوز ، من دونه تتوقف دورة الانتاج وتتحطم، يتوقف العمل ويفلس المجتمع بعماله وبرجوازييه … وهذا هو سبب فشل النظم والنظريات الاشتراكية التي هي صحيحة قيميا وفلسفيا لكنها غير صحيحة ومدمرة عمليا ، فالحياة لا تستمر من دون قدر من الطموح والتنافس والتباين ، والعمل يحركه قدر من الجوع والحرمان والعوز ، وإلا توقف المنتج والعامل معا عن العمل ،

وقد سبق أن اقترح كينز تعمد سياسة تضخمية محدودة ثابتة لتجنب المرور بفترات ركود وافلاسات رأسمالية دورية ، ونحن نقترح أن يتحرر سوق العمل ويحتفظ بنسبة بطالة ، ويتقيد نظام الضمانات ليبقي على نسبة من الفقر تحفز العمال على العمل ، وتمنع سعر قوة العمل من امتصاص هامش الربح الذي هو الحافز الوحيد للاستثمار والابداع والمغامرة ، وهكذا تعود الحياة لهذه المجتمعات التي تمارس فعل الهرم الذاتي المقصود لأنها تعيش خرافات المنطق ، والبيئة والعدالة والنظام ، والانضباط  بطريقة هزيلة ، وتتمسك بقشور دون ملاحظة تدهور المضمون أي نرى أنه لا بد من نظرية ( كينزية جديدة ، نيو ليبرالية ) .

لا شيء عمليا يضمن سلامة العملية الاقتصادية سوى السوق الحرة التي فيها التنافس والتبادل الحر الخاضع للعرض والطلب ، والدولة لا يمكنها لعب دور المنتج بل فقط الضامن لسلامة تنفيذ العقود والمواصفات … وكل نظام اشتراكي آيل للسقوط بفعل التجربة العملية ، وفلسفة ماركس مستحيلة التطبيق بشكليها الثوري والسلمي ، مثلها مثل كل منطق أحادي متطرف يعتمد السير في مبدأ ما حتى نهايته لوحده . فالعدالة لا تعيش من دون حرية تنقصها ، والانتاج لا يستمر من دون ربح واستغلال وترف ، والعامل لا يعمل لولا سيف الحاجة ، والطفل لا يتعلم حبا بالتعليم ، وكل ما يمكن تقديمه اجتماعيا هو مساعدة العاجز والفقير لكن ليس بشكل منتظم وحتمي لأن توفر مثل تلك الضمانات بطريقة مؤسسية يدفع باليد العاملة للبقاء في البيت والتكاسل والتهرب … فمن دون سيف الفقر والعوز لا نجد حافزا للعمل ، ومن دون هامش ربح لا نجد حافزا للاستثمار والمغامرة ، وكل نظام ضمانات وضارئب لا يترك نسبة من هذا وذاك هو نظاما فاشل ، فالاشتراكية هي نظرية طوباوية تشبه المدينة الفاضلة وكارل ماركس ليس إلا توماس مور آخر لكنه يتبنى العنف لتحقيق جنته …

والذي لا يقتنع فليأت للسويد ويرى بعينه كيف أن النظام الاشتراكي (الأفضل تطبيقا للاشتراكية في العالم) يعطل الانتاج ويتسبب بافلاس الشركات الخاصة ، وخسارة الشركات العامة ، والبطالة المقنعة ، ويقود السويد نحو الهرم الذي يتبعه الموت ، باتباعه معايير ومبادئ خلقية تبدو بنتيجة التطبيق سخيفة وشكلية ، مع أنه لا يوجد فيها فساد ظاهر ، ولا استبداد ممارس ، فالفساد هو ضمن النظام ذاته ، والاستبداد هو العبودية للقانون والتعليمات ، والجريمة في التمسك الأخرق بأخلاقيات مضحكة ، فنظام الاشتراكية ( الإجتماعوية ) هو نموذج للعته العقلي والقيمي زهايمر  المجتمعات الهرمة التي عاشت شبابها على الاستغلال ، وتريد أن تنهي حياتها بسلام . لا ينقذها منه سوى أن تحصل فيها ثورة سياسية اقتصادية ليبرالية يقودها اليمين ،

فقدرنا على مايبدو كمهجرين أن نعيش الثورات أينما رحلنا .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.