أوروبا الأسطورة  المريضة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

كلمة أوروبا ترجع لاسم إيروبا الأميرة الفينيفيّة من شواطئ صور في جنوب لبنان التي أحبها زيوس وأصبحت أشهر عشيقاته وسمى مملكته أي قارة أوروبا باسمها ، وتقول الأساطير الإغريقية أن التسمية ترجع لكلمة إيرب الفينيقية التي معناها غروب الشمس … وأصبحت أوروبا هذه سيدة الحضارة الحديثة وتوحدت في نهاية القرن الماضي ، لكن جورج بوش الإبن وصفها رغم ذلك بالقارة العجوز قبل عشر سنوات ، وها هي العجوز تدخل في المرض الذي ينذر بقرب نهايتها ،  بطريقة تشبه نهاية الامبراطورية العثمانية بداية القرن الماضي التي وصفت أيضا بالرجل المريض قبل تفكيكها …

وإذا تفككت الامبراطورية العثمانية بفعل حرب عالمية طاحنة  واستعمرت معظم أجزائها ، فإن تفكك أوروبا لن يكون بنتيجة حرب عالمية ، بقدر ما قد ينتج عن تفككها من حروب ، فتفكك أوروبا وانهيارها الذي يعود لمجموعة أسباب بنيوية لن يمر بسلام أو من دون محاولات حل لمشاكلها بالقوة العسكرية .

بسبب الإفراط بالتفاؤل إلى حد الغرور من الناحية الاقتصادية والسياسية طورت أوروبا نموذجا لحياة الرفاهية واشترت رضا شعوبها بنظام ضمانات وخدمات متقدم ، كانت تعتمد فيه على الاستعمار أو استمرار التبادل اللامتكافئ مع دول العالم الأخرى بفعل التفوق العسكري والتكنولوجي ، المجمل بمعايير الديمقراطية وحقوق الانسان … لكن ظهور منافسين شرقيين لها سحب منها تلك الأسواق وأدخلها في أزمة اقتصادية تجلت بهروب متفاقم للشركات واليد العاملة الخبيرة ، وتسببت هذه السياسات الاجتماعية في جعل اقتصاداتها تنزف وتتآكل ومجتمعاتها تهرم ، لتعيش أزمة لا أمل في حلها من دون التراجع عن نظام الضمانات وتقييد الاستهلاك على قدر الانتاج ، وتشجيع الاستثمار بما ينتج عنه من تفاوت اجتماعي وطبقي سيعود بأوروبا لزمن الفقر والاضطراب السياسي ، والحروب القومية والاستعمارية .

أغلب دول الجنوب والشرق في الاتحاد معرضة للركود أو الافلاس ،  دول الشمال تميل للنأي بالنفس كما فعلت بريطانيا ، ودول الوسط تعجز عن حمل الثقل وتميل نحو الإنغلاق والعنصرية ، بينما روسيا تتربص بها وتخطط للخروج  من أزمتها بحرب خارجية غير مكلفة، وعينها على جمهوريات البلطيق وممالكه بعد أوكرانيا ، وتحالف ألمانيا وبولندا سيكون في مواجهة قاسية مع العسكرية الروسية عندما تشتد الأزمات ، بينما يتصاعد الاقتصاد الشرقي والآسيوي ويضعف بل يقوض هيمنة الغرب على الحضارة … أي أننا أمام منظر غروب شمس الحضارة عن أوروبا ، التي تستمر في تخدير نفسها ، دون أن تظهر حتى الآن صحوات ولا ردات فعل ايجابية تطرح معالجات حاسمة لهذه المشاكل ، فالسياسات المتبعة كلها انسحابية وانهزامية ومحافظة وقصيرة النظر وتخديرية ، في مناخ يغيب فيه السياسيين الاستراتيجيين وتطغى السياسات الانتخابية القصيرة النظر ، وتتراجع أوروبا عن مسؤولياتها والتزاماتها العالمية والأخلاقية بالمفرق والجملة وتنكمش وتتقوقع نحو العنصرية والتعصب . ولا تبحث عن شراكات مع شعوب فتية تعيد لها شبابها .

أوروبا التي قادت الحضارة في القرون الماضية تناضل اليوم للبقاء في غرف العناية ولو شكلا من دون مضمون ، فالأزمة المالية المتفاقمة جعلت الأغنياء يقفزون من المركب ويتركوه للفقراء  الذين سيقودونه نحو الحرب بعد تطوير نزعاتهم التعصبية ، العولمة أوجدت الاتحاد الأوروبي ، والعولمة دمرته ، لأنها مستمرة في تحطيم الأشكال والحدود وتوحيد العالم وتوزيع قوى الانتاج بشكل متوازن فيه ، ولا تقبل أن تنحصر في هذا الشكل من النوادي المغلقة ، بل تصر على نقل البضائع والأزمات ، وإلغاء الحدود والخصوصيات والهويات ، وها هي تنقل وتوزع مركز الحضارة لتجعله معولما ومن دون هوية أوروبية …

والسؤال المهم هو كيف ستتغير المعطيات الاستراتيجية في منطقتنا بناء على هذا الأفق الجديد :

طبعا ستزداد غطرسة وقوة روسيا وايران ومعهم النظام ، وسيقودون هم وليس الغرب مشاريع تخريب وتقاسم الشرق الأوسط ، وبشكل خاص مشروع الهلال الشيعي ، وقد يعودوا لاستخدام الأسلحة المحرمة وأسلحة الدمار الشامل ، بسبب استنزافهم وارهاقهم ، وهذا ما قد يستفز أمريكا التي ستتدخل بشكل أكثر فعالية لاستعادة مكانتها في المنطقة ، والقضاء على خطر الإرهاب القادم منه ، فغياب أوروبا يقوي اللاعبين الآخرين وربما المحليين ، ويقدم  فرصة لاعادة انتاج نمط وحدوي في جنوب المتوسط وشرقه بعد أن فرض الغرب تقسيمه عبر اتفاق سايكس بيكو وفقا لنظام تقسيم النفوذ والمصالح الأوروبية.

تركيا التي تعيد تموضعها ببراغماتية كبيرة ضمن الرقعة وفقا للمتغيرات الجديدة ستستفيد في صعيد الحفاظ على وحدتها ودورها الاسلامي بسبب ضعف أحد أهم خصومها التاريخيين ( الغرب المسيحي الأوروبي ) ، وبذلك فالقضية الكردية تقف أمام خيبة أمل جديدة بعد أن قطعت شوطا واسعا بدعم أوروبي ، والمنظمات الجهادية الاسلامية ستجد فسحة أكبر للبقاء في الدول الفاشلة ، والدول العربية ستجد نفسها مضطرة للاعتماد على نفسها أكثر بعد أن تنال قدرا من الاستقلالية عن الغرب المنسحب من المنطقة ، وتصبح تحت خطر التفكك وانتشار التطرف ، وخطر التمدد الإيراني أكثر فأكثر ، وستجد الشعوب فرصة أفضل للضغط على الحكام الذين تعيشوا على الدعم والحماية الغربية خاصة مع استمرار هبوط أسعار النفط التي لا أمل في صعودها ثانية بفعل توفر المزيد من الطاقة البديلة ، مما قد يطلق الربيع المنتظر على طرفي الخليج العربي والفارسي  ، ويدخل الثورات العربية في مرحلة جديدة ، وينقلها من ثورة سياسية رفعت شعار الإسلام في مواجهة التبعية والاستبداد إلى ثورة داخل الفقه الاسلامي ذاته الذي شابته الكثير من العيوب والنواقص ،

و ثورة داخل الاسلام السياسي بشكليه الشيعي والسني الذي اعتمد على فكر الخوارج أساسا ، خاصة بعد صدمة التطبيق العملي للإسلام السياسي الذي طبقته الثورات الاسلامية في ايران والدول العربية والذي جدد الاستبداد فيها ، كما استخدمته الدول المحافظة لقمع شعوبها بغطائه، وبعد طغيان النزعة السلفية التي ترى الأصل في الدين بالعودة لتطبيق أشكال الماضي الغابر التي لم تعد تتناسب مع نمط الحياة الحديث،

لذلك تلوح في الأفق تغيرات استراتيجية كبيرة ، لكنها تبقى احتمالية وغير مؤثرة بذاتها في غياب الفاعل الذي يسعى ضمن الإمكانات الجديدة المتاحة  باستخدام العقل والحكمة التي تحصن الإيمان والشجاعة… فتركة أي متوفي يتقاسمها عادة الأحياء فقط  وليس الأموات …

أوروبا الأسطورة والحلم التي غزاها السوريون الفارون من لعنة الحرب على متن القوارب الصغيرة ، نقلوا إليها لعنة الدم السوري الذي لطخ أيدي الكثيرين ، تلك اللعنة التي ستطال كل الذين سعوا لتمزيق سوريا وقتل وتشريد شعبها ، أو  برروا لأنفسهم التسامح مع الهمجية والانحطاط القيمي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.