( الزعامة ) وعقدة النقص السورية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

انتقل علم النفس من دراسة النفس الإنسانية الفردية لدراسة النفس الاجتماعية باعتبارها حالة ذهنية جماعية مرافقة للهوية ، فالثقافة التي تنتقل عبر الأجيال تحمل أيضا عناصر نفسية تطبع الحياة النفسية الجمعية لشعب من الشعوب … أما البنية النفسية  ذاتها فهي مركبة بحصيلة عوامل وراثية وعوامل مكتسبة ، وفيما يخص مركبات العقد النفسية فهي من العوامل المكتسبة التي قد تتولد في شعب بسبب خضوعه لظروف معينة ،  وهكذا فقد تميز المجتمع السوري بسبب عوامل سياسية وجغرافية ببنية نفسية مختلفة عن غيره ، تتجلى فيها نزعة عارمة من حب الزعامة  والتسلط  والسيطرة ، تتسبب بالنزاعات الفردية الدائمة على السلطة في كل مستوياتها وأنواعها ، وتتظاهر جليا في تدني روح العمل الجماعي بين السوريين ، رغم أنهم أذكياء ويحبون العمل ، ناجحين كأفراد ، بل متفوقين ، لكنهم فاشلين كمجموعات ، فالسوريون يحبون سوريا ، لكنهم يكرهون بعضهم البعض …

ما يميز السوريين بشكل ملفت للنظر طعنهم ببعضهم البعض ، وتناحرهم على السلطة والسيادة والزعامة ، وجل جهدهم يصرفونه في تحطيم بعضهم ، وهذا ليس عيبا جينيا بل صفة مكتسبة تعبر عن عقدة نقص جماعية لديهم تجاه السلطات ، وتصريف لاضطهاد مزمن تعرض له الشعب من قبل سلطات عديدة ومتنوعة (سياسية واجتماعية ودينية وقبلية وأسرية وأدبية ) متشاركة ومتساندة معا تمارس بقسوة واحكام على الأفراد ، الذين يخضعون لمجموعة هائلة من السلطات الشاملة لكل مناحي الحياة ، سلطة الأب والأم والجد والأخ والأقارب ، ورجل الدين والأستاذ وابن الحارة ، وكبار القوم ، وسلطة العادات والتقاليد والقضاء والشرطة والأمن بأنواعه  والحزب والبلدية …. وهكذا تضيق جدا مساحات الحرية التي لا تعود تعاش إلا في تغييب هذه السلطات عبر تحطيم وتشويه ونزع شرعية كل من يمارسها .

سلطة الأمر والنهي والمراقبة والمعاقبة الشمولية تغطي كل مناحي الحياة ، لا تقتصر فقط على منع السلوك السلبي المهدد للسلم الاجتماعي ، بل تتدخل في كل سلوك وفي كل صغيرة وكبيرة هامة أو غير هامة ، تحشر أنفها في كل شيء ، وبذلك يتحول المواطن لآلة تنفيذ مبرمجة مسبقا بل مجبرة خاضعة كليا لسلطات يمارسها أشخاص اعتباريون ، فلا يشعر الفرد بحريته ومسؤوليته حتى يتسلم زعامة أو سلطة مثلهم ، فالشعور بالكرامة والسيادة محصور في السلطات التي يحوذها الفرد، وغير ممكن من دون امتلاك سلطة يمارسها كمتسلط مهما كانت ، ولكون كل انسان محب للحرية والسيادة يصبح مضطرا للبحث عن السلطة كوسيلة ملزمة ، وميالا لتحطيم سلطة وزعامة غيره أيا كان ، ومن دون سبب ، كي لا تمارس عليه ما يكره ويطمح هو لممارسته عليهم ، فمهما كانت القضية ومهما كان الموضوع المناط بالسلطات فإن هذا  يقع في الدرجة العاشرة من الأهمية ، بينما تحتل عملية التنازع على السلطات لمجرد كونها سلطات المرتبة الأولى والثانية وحتى التاسعة من الاهتمام عند السوريين،

عادة تمارس هذه السلطات الكثيرة والشمولية بطريقة مزاجية من دون خضوع القائمين عليها لمعايير أو ضوابط ، يشعر من تمارس عليه بأنه فاقد تماما للحرية وذو درجة دونية تشعره بالنقص والاضطهاد ، ولا مجال لتحرره منها سوى أن يتسلم هو هذه السلطة لكي يتحرر من الضوابط والعقد والنقص ، ويستبد هو ويمارس ساديته هو ، فالمطلوب من السلطات ليس وظيفتها الاجتماعية بل ممارستها والتمتع بها لأن من يمتلكها عادة لا يخضع لها ، فهي نظام سادي قهري لا وظيفة له سوى القهر الذي يعوض عقد النقص، إن كانت سلطة أبوية أو ذكورية أو رعوية أو دينية أو سياسية أو قانونية ، كلها سلطات قهر وطغيان وتحكم وسيطرة غاشمة ، حتى إمام المسجد لا يكف عن شتم المصلين واتهامهم في دينهم في كل خطبة لمجرد صعوده المنبر ، والمعلم يقدم العلم بطريقة التعذيب والعقاب ، أما رجل الأمن فيستمتع بالترهيب ، والأم تفهم الأمومة سيطرة وتحكم وامتلاك . لذلك يفهم كل فرد أن حريته ممكنة فقط عندما يصبح هو الزعيم الذي يفرض هذا النظام على غيره ليتحرر هو منه ، ينشأ كل طفل على رضاعة حب الزعامة والسعي إليها ، بدل أن يهتم المجتمع في تغيير النظم والقوانين والحد من السلطات والحشرية والتدخل في حياة الناس وخصوصياتهم لكونه مجتمعا يميل للمحافظة والتقييد والقمع كضرورة تعوض عن الضعف والخنوع ، ويفهم الدين والأدب والوطنية في الخضوع لها بحذافيرها ، والذي يشكل حالة متضامنة من الاستبداد إذا ما فكرت في تغيير أي شيء فيها استنفرت كلها للممانعة ، فإذا نجحت انهار كامل النظام وتشظى وصار من العسير انتاج نظام بديل بسبب ممانعة الثقافة  التي تفهم معنى النظام كقهر .

وهذا ما حصل أخيرا في الثورة السورية التي كشفت أنواعا هائلة من الصراعات الكامنة ضمن البنية السورية ، وبين السوريين ، وكشفت ميلهم العفوي للتنازع وتحطيم بعضهم البعض ، ونزوعهم المفرط للتفكيك والتحطيم ، مما انعكس تشظيا للمجتمع والدولة والثورة أيضا ، وأظهر مقدار الحقد والكراهية المدفون في النفوس ، ومدى الاستعداد للاستعانة بالأجنبي لسحق الشقيق والأخ ، ومقدار الوحشية الكامنة نتيجة نظام الكبت والقهر والخنوع المتعدد المستويات والأشكال ، والذي لا ينحصر بالنظام السياسي القائم ، بل ينتج مثله حيث يتم تحطيمه .

الشعب السوري بسبب موقعه الجغرافي في منطقة صحراوية كشريط مأهول يربط بين ثلاث قارات ، وبسبب فقره وقلة امكاناته وهزالة قدرته على المنعة وتعرضه الدائم للغزو والاحتلال والحروب والتهجير من الجوار الأقوى … لم يعرف الاستقرار  ولا الوحدة عبر التاريخ ، فبين الحارة والحارة يتغير الدين واللغة والقوم ، وبين القرية والقرية ، وبين الفرد والفرد ، لم يكن موحدا إلا بسلطات القمع المختلفة المتشابكة ، وعندما فكر بالحرية اكتشف مقدار السلطات التي عليه اسقاطها  والتي حاولت اعادة الاستبداد وتجديده بصور وأشكال وألوان مختلفة ، لذلك كانت ثورة الحرية هي ثورة تحلل وتفكك ، وسوف تستمر كذلك لغياب ما يجمع الناس من حالة ذهنية وشعور وسلطات، فلا يجمع السوريين اليوم سوى خلافاتهم ، والعصبيات التي تولد النزاعات ، وعقدهم النفسية ، وبعض الذكريات عن الوطن ، ولكي نتجاوز هذه الحالة ، يجب أن ننتظر تغير الثقافة والحالة النفسية ، وهذا يتطلب ليس القاء المواعظ ، بل مرور الشعب في التيه. فلكي يتخلص أتباع موسى من ذهنية العبودية تاهوا أربعين عاما ، ولكي نتخلص من ذهنية الاستبداد والسادية والتسلط والتنازع والتناحر والطعن في الظهر التي تخرب أي مشروع جماعي ووطني يجب أن نتشرد ونتيه ونضيع ونتفرق، حتى تنهار الثقافة التي حملناها من زمن الاستبداد ويا ليته سياسيا فقط ،

سوريا بحاجة لجرعة هائلة من الثقافة الليبرالية التي تحترم الانسان الفرد وخصوصيته ولا تتدخل فيه إلا بشكل محدود عندما يهدد سلوكه السلم الاجتماعي ، ولا تمارس عليه إلا أقل قدر من السلطات ، فلا تغيير لحالة السوريين من دون تغير الثقافة التي يحملونها ويتوارثونها ، أي التخلص من عقد النقص وحب الزعامة ( الوجه الآخر لها ) ، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.