مدلولات الحدث التركي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

ما حدث في تركيا هو  زلزال سياسي سيكون له أثره الكبير والبعيد المدى على المنطقة والعالم الاسلامي ، فهو أكبر من مجرد انقلاب قادته فئة عسكرية متآمرة تم احباطه ، ما حدث هو ثورة شعبية تركية أطاحت بنظام الوصاية الغربية نهائيا وإلى غير رجعة ، وأعادت هوية تركيا الطبيعية ، وأعلنت ولادة الشعور بالانتماء السياسي الاسلامي الموحد الذي ستقوده … فالأردوغانية قد نجحت فعلا في إطلاق عثمانية سياسية جديدة في تركيا والعالم الاسلامي ، سيكون لها تأثيرها على العالم في السنوات القادمة .

لم نسمع في ثورة الشعب التركي على الانقلاب  غير التكبيرات من دون أي شعار سياسي ، فقد تحرك

الشارع عفويا وطوعيا بتأثير مشاعرهم وليس الأفكار والأيديولوجيا والأوامر الحزبية ، شاركهم في هذا الشعور (عن قرب وعن بعد ) العديد من الشعوب الاسلامية الأخرى ، بل عم العالم الإسلامي شعور عارم بالتضامن والتفاعل غير مسبوق يوحي بغلبة وتفوق شعور الانتماء الديني على شعور الانتماء القومي الذي افتعله الاستعمار والذي انهار بمفعول العولمة الاستعمارية ذاتها ، وقد فاق حماس السوريين وفرحتهم حماسة الأتراك أنفسهم وهم من يدرك فعلا مدى الحاجة لحاضنة اسلامية قوية تصون حقوق المسلمين وترفع الاضطهاد عنهم . وشعروا أن ثورة الشعب التركي ضد الانقلابيين ( الحلفاء الطبيعيين لنظام بشار ) هي الجزء المكمل لثورتهم ، وأن انتصار الشعب التركي  هو بداية انتصارهم .

اليوم تولد هوية لأمة سياسية يجمعها الاسلام ، تقفز فوق العقلية الحزبية والتنظيمية الضيقة والعصبيات المذهبية وفوق الشعور القومي وحدود الدول ، نحو فضاء الانتماء العفوي الحر في طول وعرض العالم الاسلامي الموحد بكلمة لاإله إلا الله التي كانت هي الشعار الوحيد في الثورة . وهذا ما لم يحسب حسابه من تآمروا على أردوغان خوفا من مشروعه ، فساعدوه على النجاح من حيث لا يحتسب .

هذا في النظرة العامة أما  في الحيثيات:

فبسبب تطور وسائل الاتصال وبسبب تنامي قدرات أجهزة الأمن فإنه لا يمكن حدوث مثل هذا الانقلاب بدون استخدام الهيكلية العسكرية العادية ، وهذا يتطلب التوافق بين كبار قادة الجيش ، والذي لا يمكن توقع حدوثه من دون وجود تعارض سياسي كبير بين السلطة والمؤسسة العسكرية ، ومسافة واسعة بين وجهات النظر داخل الدولة . ولا يمكن أن تنقلب مؤسسة بهذا الحجم في دولة بهذا الحجم ، إلا إذا كانت تتوقع الحصول على تأييد شعبي سريع  يحسم نصرها .

اعتمد الانقلاب أسلوب اظهار القوة لاجبار السلطة على التنحي ، وفرض صيغة دستورية جديدة . ولم يستخدم العنف إلا بشكل محدود جدا ، فالانقلاب بمضمونه هو تمرد على السلطة الحاكمة ، وعلى نتائج الانتخابات التي لا يؤمن بها ، فهو عبارة عن تمرد لا يمكن اعتباره خيانة وطنية إلا بحدود ومقدار استخدمه للعنف فعلا والذي يبقى سلوكا فرديا .

المعروف في تاريخ الانقلابات (وتركيا عريقة فيها ) أنه لا ينجح الانقلاب من دون القاء القبض على أغلب رموز السلطة ، وليس فقط بمجرد استعراض القوة واغلاق مؤسسات الدولة ، وهذا الخطأ الذي ارتكبه الانقلابيون يدل على أنهم لم يكونوا انقلابيين بكل معنى الكلمة ، بل ظلوا يتوقعوا تأييد الشعب لهم أو وقوفه على الحياد ، ويعتمدوا على اعتراف العالم بهم والذي كان محضرا مسبقا على ما يبدو ، وهذا ما طبع اقدامهم على العمل بأسلوب متباهي واثق من النصر ، مترافق مع سلوك عملي ناقص ومتردد وغير حازم كان عاملا في فشلهم  .

لم يُطْلع القادة جنودهم على نيتهم ، بل وجهوا أوامر تبدو عادية ، ربما بسبب الحاجة للتكتم ، وربما كانوا يتوقعون رفض الجنود لأي عمل غير وطني ، لكنهم كانوا يتوقعون بنشرهم الوحدات وبسيطرتهم كمؤسسة عسكرية على مرافق البلاد  أن تستسلم السلطة السياسية أو تفر ، وأن يؤيدهم الشعب أو قسم هام منه ، دون الحاجة للاغتيالات والاعتقالات المسبقة ، التي أجلت للمرحلة التالية بعد فرض الشرعية التي يريدون . فهدف الانقلاب العسكري هو اقامة سلطة غير سلطة أردوغان وتغيير النظام السياسي الحالي ، وليس أخذ السلطة للجيش بشكل مباشر ودائم .

ما لم يحسب الانقلابيون حسابه هو تطور وسائل التواصل الاجتماعي وحيوية استخدامها ، فلم يتمكنوا من التعتيم التواصلي الكامل ، وبالرغم من استنفار الإعلام العالمي لخدمتهم ونشر اشاعاتهم تمكنت القيادة التركية من التواصل مع الشعب وانزاله للشوارع ، كما لم يتعامل قادة الجيش مع جنودهم كمواطنين على تواصل دائم مع الحدث ، ولم ينتبهوا للفجوة بينهم وبين القيادات ، ولم يتوقعوا أن يقفز المواطنون الشجعان على الجنود ويشلوا قدراتهم ، مما يمكن أجهزة الأمن من اعتقالهم وكأنهم عزل من السلاح .

القيادة التركية أثبتت أنها غير متمحورة حول شخص واحد ، وليست مرتكبة وجبانة لتفر ، ولا تخاف شعبها وتقمعه لتخشى غياب دعم الجيش لها ، بل استخدمت الشعب الأعزل لمواجهة الجيش في مفارقة عجيبة لما حدث في سوريا … المجتمع التركي الحديث أثبت أنه قوي وحيوي وناضج ويحب بلاده ويشعر بالعزة والكرامة ، المؤسسات والأمن والجنود والأحزاب السياسية وقفت موقفا مبدئيا متماسكا وطوقت الأزمة بحرص وطني كبير ، لذلك من الصعب التلاعب بهذا الشعب كما يحدث في جمهوريات الموز . ( بحسب خطاب عبد الله غول الرائع )

لا يعقل أن يتحرك معظم قادة الجيش معا للاطاحة بالسلطة من دون مشاورات مع الدول الغربية التي تربطهم بها علاقات وثيقة ، ويجتمعون مع جيوشها بقواعد عسكرية مشتركة ، والتي على ما يبدو باركت خطوتهم وتوقعت لهم النجاح السهل ، وقد فضح سلوك الإعلام والتصريحات المبكرة تورط عدد من الدول الغربية والعربية بالتخطيط والتشجيع والتمويل والترويج ، وبشكل خاص الولايات المتحدة ، ولم تكن مجموعة غولن إلا تغطية لجهد استخباراتي دولي متعدد الجنسيات وطويل الأجل ، كما سبق و نوقش احتمال الانقلاب العسكري التركي في الكونغرس والإدارة الأمريكية وتسرب ذلك للإعلام . وفي الآونة الأخيرة سارعت اسرائيل وروسيا معا في المصالحة مع أردوغان بشكل مفاجئ وفي وقت واحد مما يوحي بعلمهم المسبق بما سيجري وساعة الصفر في تركيا ، ويوحي أيضا بعدم قناعتهم باحتمال نجاحه ، لذلك احتفظوا بهامش استقلال عن ادارة أوباما وبخط الرجعة والتهدئة خوفا من ردة الفعل التركية في حال فشل الانقلاب ، بعكس الادارة الأمريكية الفاشلة في كل شيء والتي بدل أن تحترم نفسها وتسقط بشار الكيماوي ، سعت بشكل أخرق وغبي لاسقاط أردوغان الطيب خدمة لبشار وطهران ( أنا شخصيا يكفيني لاثبات هذا  التورط الأمريكي والأوروبي عدم صدور إدانة واضحة فورية للانقلاب ، فالتأخر بحد ذاته دليل أكيد على انعدام وجود المعايير والقيم في السياسة الخارجية ) .

أي أن فشل الانقلاب هو خيبة جديدة تضاف لخيبات أوباما الذي بالتأكيد تم توريط ادارته بإعطاء الضوء الأخضر لهذا العمل الأخرق ، وبالتأكيد لم يتفاجأ بالانقلاب لا هو ولا حلفاؤه الأوربيون في لندن وبرلين وباريس ولا حتى العرب، وجميع هؤلاء لا يدركون حجم الانهيار الذي يعاني منه حلفهم ودولهم، ففشلهم ليس إلا نتيجة طبيعية لضعفهم وعجزهم وقصور أدواتهم ، بل قصور وعيهم وقدرتهم على فهم المتغيرات والتعامل مع الأحداث وإدارتها ، بدليل التنصل المتسرع من مسؤولياتهم عنها بطريقة مسفة .

ايران والانقسام المذهبي والصراع القومي في المنطقة كان بعيدا عن تدبير هذا الانقلاب بتصميمه وأحداثه ، وإن حاولت ميليشياتهم استثماره في حربها المذهبية ورفع منعويات أتباعها ، ولا حتى الكرد الذين يتصادمون مع الجيش المنقلب ذاته والذي هو أشد عليهم من سلطة أردوغان . فالانقلاب يعكس إذا حالة صراع على هوية ودور وانتماء تركيا ، ولا يهدف لالغائها وتفكيكها ، وقد حسم الشعب قراره بهذا الخصوص … وانتقلت تركيا بعده من دولة قومية عضو في الناتو لدولة اسلامية … فالربيع العربي الذي انطلق منذ سنوات منقلبا على النظم القومجية المستبدة محاولا تغيير هوية الدولة ، حدث في تركيا لكن بليلة واحدة .

لن يسكت الغرب على انطلاق الهوية الجديدة للدولة التركية ولن يسكت عن توطيد العلاقات بين الشعوب الاسلامية ووحدة المشاعر والانتماء ، وسوف يستمر بالسعي لتقويض هذا الربيع الاسلامي ، عبر دفع وتنمية أحزاب التعصب والتشدد المشرذمة والمنفرة ، وعبر اللعب بالعصبيات القومية والمذهبية ، وأيضا عبر تنفيذ المؤامرات واغتيالات القادة الحقيقيين ، وتشجيع ودعم مجموعات الإرهاب بشكل خفي وغير مباشر … لذلك يجب على القيادة التركية توسيع جهازها القيادي ومأسسته واكثار عدد كوادرها وتوقع الانتقام الغادر ، والاسراع في اقامة الروابط مع الشعوب الاسلامية ، وفي استيعاب الاندفاع القومي الكردي ضمن الجامعة الاسلامية ، وعدم استخدام القسوة في محاكمة الانقلابيين ، فالخوف من الاندفاع كثيرا وراء العقوبات الرادعة الذي سيهدد وحدة واستقرار تركيا ، الذي أصبح هدفا بحد ذاته للغرب بعد فشل انقلابهم ، فلا بد من التسامح الداخلي للحفاظ عليه … كما يجب عليها التخطيط جديا للخروج من حلف الناتو الذي تآمر على استقرارها وأمنها ، وتغيير طبيعة الجيش وعقيدته ، ودوره المتعالي والمنفصل ، وتحويله بقدر الامكان لجيش شعبي .

تركيا يجب أن تصبح حاضنة الهوية الجديدة وعاصمة الأمة الاسلامية بكل ما تعني كلمة أمة ( التي لا تختزل في حزب مبني بطريقة العصابة ويسلك سلوكها … وفهمكم كفاية ) … فعندما يستطيع المسلم من غير قوميات (متدين أم غير متدين) أن يشعر بأن تركيا وطنه وعاصمة هويته يكون أردوغان قد نجح فعلا وعمم نصره على كل المؤمنين بمشروعه عندما أعطاهم هوية سياسية جديدة علمها الاسلام بما يليق بهذا الدين وينزهه عن أفعال المتعصبين والجاهلين . وهذا الدور الاسلامي الجامع والحيوي خاصة في عصر العولمة قد أهملته عن عمد كل من مصر بعد عبد الناصر ثم السعودية التي انغلقت على نفسها وأغلقت حدودها وقيدت سياساتها الخارجية ، كما حوصرت ودمرت بغداد التي كان من الممكن أن تعوض هذا الدور ، ودمشق حكمها القرد ،  بينما فشلت الثورة الاسلامية في طهران في لعب دور اسلامي متميز بسبب تعصبها المذهبي واصرارها على أولويته . فكان من الطبيعي أن تلعب استانبول هذا الدور بما لها من تاريخ عريق فيه .

الغرب الذي ما يزال يتمسك بالعقلية الصليبية من الطبيعي أن يقلق على ضياع قيادة الحضارة من يديه ، وأن يتآمر على استانبول استكمالا لأهداف الحرب العالمية الأولى ، كذلك المسلمون من حقهم أن يبحثوا عن دورهم الحضاري في العالم بعد قرون من التخلف والتبعية والذل والتشرذم  وخيبات الأمل التي أصابت المشروع القومي العربي الاسلامي الذي أوصل حال العروبة والاسلام للحضيض … وهذا يضع على المسلمين واجب تقديم اسلامهم وأنفسهم بطريقة مختلفة عما يمارس حاليا .

أخيرا وبعد ذلك اليوم التاريخي الذي مر على تركيا ، أصبح بإمكان كل مسلم أن يدلل على استانبول كعاصمة لعالمه وبلاده ، وأصبح على تركيا واجب أن تعطيه ما يلزمه من حقوق تثبت له ذلك ، وأن تأمر سفاراتها برعايته أينما تقطعت به السبل .

هكذا ننتقل من نصر استانبول لنصر حلب إنشاء الله. بشرط الحرص كل الحرص على استقرار تركيا وعدم جرها للفوضى التي ستكون الهدف المباشر للحاقدين بعد فشل الانقلاب .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.