الشيوعيون والتدخل الروسي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

في دمشق عندما كنا شبابا أيام الجامعة في السبعينات ، كانت الآراء السياسية  في مقصف الأزروني و الآداب تنقسم لثلاثة ، تيار انتهازي موالي للسلطة يجمع بين أبناء المستفيدين والمترفين والضباط والمخبرين من كل الطوائف ، وتياران معارضان للنظام هما التيار الديني السني ( الذي أطلق عليه جملة اسم الإخوان ، ولم يكونوا فعليا في أغلبهم منظمين ، بل كان تجمعهم يعتمد على الانتماء للطائفة والالتزام بالدين ) ، والقسم الثالث هو اليسار بألوانه المتقاربة : الشيوعي والقومي الاشتراكي ، والذي لم يكن طائفيا من حيث الأساس .  ولم يكن يومها التيار الليبرالي قد شهد النور بعد ، فالجميع كان يعتبره استعماريا برجوازيا إمبرياليا متحللا  من الدين والعدالة … حتى الإسلاميين كانوا يتهربون من تأييد الرأسمالية (الربوية )، وينتسبون للفكر الاشتراكي الذي وجدوه متناسبا مع تعاليم الدين . ولم تكن فكرة الديمقراطية واردة في أي من هذه التنظيمات والتيارات ، وأول طرح لها جاء من الأحزاب الشيوعية الأوروبية الفرنسي والإيطالي … فتشكلت في سوريا أحزاب شيوعية منفصلة عن السوفييت وتتبنى الديمقراطية (الشعبية) بدل ديكتاتورية البروليتاريا . لذلك قمعها النظام برضى وموافقة روسيا التي كانت حامي الشيوعيين ومغذيهم في كل أنحاء العالم، وتخطط للهيمنة عليه عبر نشر الشيوعية وأحزابها الطامحة للسلطة بالثورة والعنف الذي يعتبر محركا للتاريخ والتي تصب مرجعيتها في الكرملين .

كانت الثورة البلشفية نموذجا يحتذى لكل حزب طليعي يريد الوصول للسلطة ، بدعم من دول العالم الاشتراكي التي توسعت كثيرا بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت توازي دول العالم الأول وتنافسها، وتبني علاقات ود مع دول عدم الانحياز ، فتقوم الطليعة الثورية في هذه الدول بنشر مفاهيمها في صفوف العمال والفلاحين ، وتنظيم أحزابها ، وتتمرد على السلطات سياسيا وعسكريا ثم تستلم السلطة بالعنف والثورة ، وتنضم للكومنترن الشيوعي بقيادة الرفيق الأحمر الذي لن يتوانى عن دعم هذه الأحزاب والثورات عبر العالم ، بينما يعتمد الغرب أساسا لوقف هذا التمدد الشيوعي على دعم الديكتاتوريات العسكرية القمعية التابعة له . وبقيت هذه المعادلة تحكم تلك الحقبة التي كانت تسمى بالحرب الباردة ،

ما أتحدث عنه هو موقف الشيوعيين من روسيا السوفيتية والجيش الأحمر ، حيث كانت الأحاديث في تلك الأيام تتحدث عن ضرورة أن تساعد روسيا السوفيتية الشعوب في العالم على تحقيق الثورة البروليتارية التي تحررها من العلاقات الرأسمالية والاقطاعية الرجعية والهيمنة الامبريالية معا بواسطة الثورة الشيوعية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا ، ولم تكن الديمقراطية هدفا أو وسيلة حتى ذلك الوقت … اليسار كان ينظر للمركز الثقافي الروسي كمصنع للثورات ، ولمكتبة ميسلون وسينما الكندي والكتب الحمراء التي عليها صور لينين وماركس ، والصفراء التي عليها صور ماو وهوتشي منه كمادة دراسية ثورية ضرورية للوصول بالمثقف الثوري والحزب الطليعي لسكة النصر الذي لن يتم من دون ثورة حمراء مدعومة من شعوب الاتحاد السوفييتي الصديقة ، وجيوشه ومخابراته العسكرية التي جندت الكثيرين تحت برنامج البعثات لجامعة الصداقة ( لومومبا ) ، والزيجات من عناصر أمن روسيات بمهمة زوجة ومخبر سياسي وعسكري يخدم قضية الثورة العالمية ، وكذلك دورات التدريب المختلفة بما فيها العسكرية التي عادت بالكثير جدا من الضباط المرتبطين بالمخابرات العسكرية هناك … عمليا كان الاتحاد السوفييتي قاب قوسين من الهيمنة على سوريا كما فعل في أفغانستان ، وقد استطاع أن يبني تحالفا استراتيجيا مع الأسد الأب بوجود ومشاركة الحزب الشيوعي السوري ، وعليه كان يعتبر سوريا وليبيا والعراق والجزائر واليمن ومصر ما قبل السادات هي دول تحت جناحه … والتي شهدت أغلبها ثورات الربيع العربي الذي تعتبره موسكو اسقاطا لنفوذها .

الثورة الشيوعية السورية التي نظّر لها الشيوعيون تأخرت كثيرا بفعل النظام السوري العسكري المدعوم غربيا وروسيا ، والذي كان حلا وسطا بين الغرب والشرق ، وتعاونت روسيا والغرب مع النظام على سحق الأحزاب السورية بما فيها الشيوعية التي لا تأتمر بأمر وكيل روسيا خالد بكداش ، والدينية التي تعادي الشيوعية ، واجتمع في السجون طرفي النقيض ،  المتدينون الذين يتهمون النظام بالإلحاد والشيوعية ( وهم أول من أثار الموضوع الطائفي في العلن ، لأن تهمة الإلحاد طغت ولا يمكنها أن تجتمع مع الطائفية)  واليسار الذي يتهم النظام بالرجعية والتآمر مع الغرب الإمبريالي لاستغلال العمال والفلاحين ونشر التخلف وتوظيف الحركات الدينية في نشر الخنوع  والتخلف ومقاومة الفكر المادي العلمي .

حالة من التخليط الذهني شابت الوعي الوطني في تلك الحقبة ، حتى النظام كان صديق وعدو الجميع … والبلد في حالة عدم توازن …. ثم حدثت ثورة غير متوقعه في هذا المناخ … لكن في روسيا السوفيتية ذاتها وعلى يد العمال والفلاحين ذاتهم ، وبشعارات ليبرالية ديمقراطية وليس طبقية ( فالعمال والفلاحين هم من كفر بالشيوعية التي وضعتهم على علمها … وانهار الاتحاد السوفييتي ، وبقي النظام السوري الديكتاتوري يتعيش على الدعم الغربي فقط لكن توازنه اختل، وانهارت الأحزاب اليسارية جميعها وصارت تساوي الصفر ، وبقيت الحركات الدينية هي القوى الأساسية التي تعارض النظام ، ليس لأسباب سياسية ولا اقتصادية ، بل لأسباب طائفية أساسا … وفي ظل هذا المناخ المبشر بحرب أهلية قادمة لامحالة ، كان لا بد من انبثاق حركة سياسية تعيد تنظيم الاصطفاف السياسي الوطني ، وبالفعل تحول قسم من المثقفين اليساريين نحو الليبرالية الديمقراطية كحل يخرجنا من هذا الاستقطاب القائم بين (نظام طائفي فاسد مستبد لم يعد مدعوما غربيا بسبب زوال السبب وهو التهديد الشيوعي ، وبين ضد ديني متعصب ليس لديه مشروع وطني ) … وقد حظي هذا المشروع الإصلاحي ببعض الدعم الغربي في مواجهة النظام ، وعندما قامت الثورة أخيرا على النظام عام 2011 استعملت رموز وشعارات هذه الحركة الديمقراطية الليبرالية التي وجدت قبولا في الغرب بداية الثورة ، قبل اندفاع جحافل الفقراء والمنبوذين بشعاراتهم ، في مواجهة آلة القمع الهمجي  الحاقد الذي مارسه النظام ، وهكذا تحولت الثورة لحرب أهلية طائفية طاحنة ، تمتد في عموم الشرق الأوسط .

حملت الثورة السورية تباعا الشعارات الليبرالية ثم الاسلامية ثم الرجعية … وصولا للتعصب والتطرف والترهيب ، وعندما أوشك النظام على الانهيار استغل الروسي الموقف فجاء بطائراته وقواذفه لسحق ثورة الشعب السوري ، وتثبيت النظام ، واستعادة هيمنته على سوريا ، بل احتلالها كما كان مخططا لذلك أيام الحرب الباردة .  مما أثار حفيظة الغرب الأمريكي الذي عادت له ذكريات تلك الحرب ، وانتقل التوتر بينهما لأوروبا وغيرها ، واستفاق العالم على شبح تكرار سنوات الحرب الباردة ، ذلك الشبح الذي لم تستطع ديبلوماسية كيري لافروف تجنبه ، بالرغم من التنازلات الفظيعة التي قدمها كيري للروس على حساب دماء الشعب السوري . والذي أقر عمليا بسيادة روسيا على الدولة المفيدة في سوريا .

لقد تحقق أخيرا حلم الشيوعيين بتدخل روسي ، لكن هذا التدخل حصل لقمع الثورة وليس لمساعدتها ، ولتثبيت النظام الرجعي ، ولنشر التشيع الطائفي ، وليس العقل المادي العلمي ، ولا عجب في ذلك طالما لا يوجد فارق لفظي كبير بين الشيعية والشيوعية ، جاء الروس ليس لجلب الشيوعيين للحكم، بل الشيعة والصفويين والمجوس ، وصار شريكا في جرائم حرب وضد الإنسانية بعد أن كان صديقا للسلام والأممية البروليتارية … وحول الشعب السوري كله بفترة قصيرة من برجوازية ريعية وعقارية صغيرة لسقط البروليتاريا عبر تدمير بلاده وممتلكاته وتشريده في مخيمات اللجوء .

وهكذا تحقق حلم الشيوعيين البروليتاري، وحدث ما تمنوه ووعدوا به ، لذلك تراهم اليوم حيرى بشأن هذا التدخل … يلفون ويدورون ويكذبون ، فالكذب هو الوسيلة الوحيدة التي تجعلهم غير ملزمين بدفن رؤوسهم بالمراحيض الفكرية التي عاشوا عليها وفيها ….

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.