( الاتفاق الأمريكي الروسي ) – لماذا يكرهوننا ؟

 

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

أقرت الدولتان الكبريان اتفاقا بينهما للحل في سوريا … أقل ما يقال فيه هو إهانة كاملة للشعب السوري ، وتضييع لقضية ملايين الضحايا ومكافأة للمجرم القاتل ، والإصرار على اخفاء جريمته بل إعطاءه الفرصة لمتابعتها … وهذا ينبع من موقف متحيز لمجمل المجتمع الدولي الذي لا يكتفي بتوصيف الصراع في سوريا توصيفا مجحفا، بل يتعمد إهانة الضحايا عندما ينكر ما يتعرضون له من جرائم ، ومن يشهد ما يجري في سوريا ثم يقارنه بمواقف الدول والاتفاقات التي وصلوا إليها يستنتج (نتيجة تقلع العين ) بأنهم يكرهون العرب والمسلمين كرها أسطوريا يتجاوز كثيرا حسابات المصالح والسياسة … فهم لا يفوتون فرصة للتعبير عن هذه الكراهية إلا ويستخدموها … فتتحول تلقائيا عندهم تسمية الجرائم التي يندى لها جبين البشرية لمجرد عمليات قتالية للقوات الحكومية ضد المتمردين ، ولا يخفون تمنيهم قتل وسحق أكبر عدد منهم ، بعد أن ألصقوا بهم صفة الإرهاب بسبب هويتهم الإسلامية التي لن يتخلوا عنها … وبذلك ينحازوا كليا لصالح القاتل المجرم وتخرج اتفاقياتهم لتقول ذلك بكل صراحة .

المسألة التي تقف وراء تلك المواقف كما هو جلي ليست مسألة مصالح ، ولا معايير مزدوجة ، ولا عدم تسامح ديني ، ولا حتى أمن اسرائيل … إنه الكره والحقد الذاتي المتراكم عبر التاريخ ضد المسلمين، والمؤسطر لدرجة تجعل المواطن العادي والإعلامي والسياسي يسلكون جميعا ذات السلوك وبشكل متناغم في الغرب والشرق معا … فلم يسبق أن توحد موقف الشعب العادي والحكومات بهذا الشكل ، كما لم يسبق أن توحدت المصالح بين روسيا والصين وألمانيا وأمريكا وبريطانيا وإيران لكي تتوحد مواقفهم بهذه الطريقة الفريدة … بل إن ما يوحدهم فعلا في سوريا هو فقط الحقد على الإسلام والمسلمين العرب السنة بشكل خاص ، من دون لف ولا دوران . والذين أصبحوا ضحية حرب إبادة وتهجير يشنها العالم مجتمعا ضدهم . فلا يملكون للرد على هذا الحقد الأممي سوى الإرهاب بكل أسف . لذلك نختصر جوابنا على هذه الاتفاقية أنها لن تنجح ولا تحمل أي معنى من معاني الحل .

هذا هو توصيف الحال الراهن ببساطة ووضوح وكما يفهمه كل طرف، بغض النظر عن خطابه الإعلامي المضلل … والاتفاقية الروسية الأمريكية كرسته ، ولم تحمل أي عنصر من عناصر حله … أيضا توصيف الحال بصدق وصراحة لا يكفي ولا بد من فهم أسبابه ، لكي نفكر في آليات تجاوزه … أي البحث عن أسباب الحقد والكراهية المتبادلة بين المسلمين وغيرهم … فإذا كان المسلمون يبررون حقدهم بجرائم ومجازر ترتكب اليوم ضدهم بتواطؤ من القريب والبعيد، يبقى السؤال لماذا العالم كله حاقد عليهم إلى هذه الدرجة التي تجعله يتعاون مجتمعا على حماية قاتلهم ومساعدته … هل هو فقط رد فعلهم على العمليات الإرهابية وهم يعرفون أنها سلاح الضعيف في مواجهة غطرسة القوي؟ أم هو شيء تاريخي قديم مسكوت عنه على الأقل في الثقافة والخطاب الإسلامي .

هذه الكراهية لم تبدأ مع حوادث أيلول، أو بسبب الإرهاب الإسلامي الحديث، حيث سأل الأمريكيون ذات السؤال يومها: لماذا يكرهوننا لدرجة أن يفجروا أنفسهم في مدننا ؟ والأصح أن يسألوا لماذا لا يكرهوننا ؟ لأنهم نسوا بأن الكره (كما هو الحب) لا يكبر ويترعرع ويصبح أسطوريا إذا لم يكن متبادلا ويتم تغذيته بالأفعال … نسوا سياساتهم ومعاييرهم المزدوجة ، ودعمهم للمتجبرين والطغاة ، ونهب الثروات … ونسوا ما تفعله صواريخهم وطائراتهم … نسوا كل العنف الذي يمارسوه على الآخر وتذكروا فقط العنف الفردي الذي يصل لديارهم بصعوبة بالغة . يركزون فقط على شيطنة العدو ( الإرهاب ) وينسون ارهابهم المنظم المشرعن مرة بالنظام الدولي ، ومرة بالمصالح القومية في مناطق الآخرين . فالمصالح القومية الروسية مثلا تقتضي ببقاء الأسد حاكما لسوريا ، وعليه تجد من حقها ارسال طائراتها لقتل السوريين نساء وأطفالا وشيوخا وبدم بارد ، وأن تعطل الشرعية الدولية والعدالة بالفيتو لحمايته … ثم تقول أن مصير بشار يقرره الشعب السوري لكن على ما يبدو بعد أن يصبح أغلب هذا الشعب في المقابر ومخيمات اللجوء .

نحن أيضا نعيش على خطابات العداء للغرب الصليبي المجوسي الرومي الفارسي الغربي والمغولي ، ثم الحقد والتآمر اليهودي ، وهكذا تشكل الكراهية والحقد عندنا مجمل خطابنا السياسي والجهادي الذي نبني عليه سلوكنا نحن أيضا ، ونبرره بما يجري اليوم من جرائم بحقنا ، ونظهر ذلك جليا في منابر الحركات الإسلامية والقومية وعلى شبكات التواصل التي تزيد من تعميمه وأسطرته … والذي يتجسد سلوكا في حركات المقاومة المتنوعة ، والتي تزداد عنفا وشراسة ، والمختلفة فيما بينها لكن المتفقة على شيء واحد هو وجود عدو شيطاني متربص حاقد ينتظر الفرصة للانقضاض والقضاء الوجودي على الاسلام واستباحة المسلمين . وهو ما يجب التصدي له بكل ما توفر حتى مشاهد الذبح المرعبة التي تمارس بحق الخونة والجواسيس والأجانب الذين يقعون في اليد، لترهيب ذلك العدو وبث الذعر في صفوفه … والتي بدورها تعزز قناعة الحاقدين وتبرر عدوانهم ، أو على الأقل بلادتهم تجاه مأساة الشعب السوري .

هم يكرهوننا ولا يفكروا في أثر سلوكهم وسياساتهم على الشعوب والحضارات ، نحن أيضا لا نهتم بوجهة نظرهم عنا ولا كيف تكوّن عندهم ذلك الحقد الذي لا يمكن أن يوجد بهذا العمق لمجرد اختلاف الدين ، أو حصول تنافس عسكري أو حروب بين جيوش نظامية تتبع ملوك ودول ، بل هو حقد أصيل منطبع في عمق الشعور والوجدان الجمعي والفردي ، لكونه يلامس القضايا الأساسية التي يتحسسها الشخص … ليس دخول العرب لدمشق وطرد الروم منها ولا استيطانهم الأندلس ، ولا دخول الترك للقسطنطينية ولا حتى محاصرتهم فيينا هي سبب ذلك الحقد الشخصي والكراهية … هذه حدثت وتحدث بين الأمم والحضارات ، وتزول مع تغير التاريخ وشخوصه ولا تورث حقدا وكرها غير عقلاني (كالموجود اليوم ) إذا لم تكن محمولة على عناصر ثقافية فنية قيمية رمزية ذات قيمة وأكثر على كل فرد .

ذلك النوع من الحقد الشخصي هو ما يجعل الرأي العام في العالم يشعر بالغبطة والسعادة لاستمرار الصراع ولارتفاع عدد القتلى (طالما أن العدو الهمجي يقتل بعضه ) … و هو بذات الوقت يجعل النصيري مثلا والصفوي يعتبر أن التفنن في تعذيب وقتل السني عملا نبيلا بل أخلاقيا ودينيا ، له دافع شخصي وليس فقط تنفيذا لأوامر … فكيف تتم صناعة وتناقل هذا الحقد … ؟

من جيل إلى جيل ينقل الفن القصصي والأدب الشعبي من التاريخ لحظات انسانية مؤثرة ، وتستخدم الثقافات الفن والأدب لتثبيت تلك التجارب الإنسانية التي تتحول لتجربة خاصة بكل فرد ينشأ عليها ، وهو ما نسمية عملية الأسطرة ( أي خروجها من رابط الزمان والمكان والشخوص ) ، وقد استخدمت هذه الثقافات أخطاء أخلاقية ارتكبناها كمسلمين وصاغتها في قوالب فنية وأدبية تدخل للوجدان دون رقيب وتكونه كما تريد في غفلة من العقل ، وهي ما تزال فعالة ، وما نزال نغذيها ، ونقويها ، وهذا ما لم ينتبهوا هم أيضا إليه … فالحقد المتبادل بين المسلمين وغيرهم ، ليس بسبب اختلاف الدين ، بل بسبب ثقافة الكراهية التي تتعمد أسطرة حوادث معينة من التاريخ وحملها في جينات الثقافة لتحول الإختلاف لعداء عاطفي جارف مستمر ليس بحاجة لتبرير ، عداء وجودي تكويني ، وليس مجرد اختلاف مصالح  يزول بتغيرها … فكل سني هو قاتل للحسين بشخصه أينما وجد . وكل يهودي هو ممثل للشيطان .

من القصص التي يعتمدون عليها، قصص خطف الأطفال وبيعهم جواري ومماليك في العالم الإسلامي ، وهذه القصص لحساسيتها تنطبع عميقا في وجدان القرى والمجتمعات التي تعرضت بشكل منهجي لذلك طيلة العهود الإسلامية (ولم تُمنع أو يوضع لها حد ، ولم تكن محرمة دينا وشرعا) ، حتى تكونت بعض الجيوش الإسلامية من أطفال خطفوا من ذويهم وتربوا تربية خاصة بعيدة عن المجتمع ، ليتحولوا لآلة قتل لا تعرف الرحمة … فقوة المسلمين العسكرية لم تكن فقط بسبب إيمانهم ، كما نتخيل ، وهم لم يكونوا دوما فاتحين … كما ندعي ، وما مورس على الحدود مع الدول الأخرى ، مورس أيضا في الداخل وهذا ما جعل الأقليات تحمل درجة من الحقد على الاسلام والمسلمين أكبر مما يحمله ألد الأعداء الخارجيين … فلا نستغرب أن كراهية اليهود العرب أشد من كراهية اليهود الألمان ، ولا نستغرب أن ما تقوم به الطائفة النصيرية من أعمال وحشية في سوريا يحظى بتعاطف وتعاون من بقية الأقليات ، ويفوق ما قام به أي احتلال همجي خارجي … كما لا نستغرب بعد هذه الوحشية والهمجية أن ينشأ عند المسلمين من يخطط لقتل أكبر عدد من المدنيين الأعداء الحاقدين ولو بالسكاكين … تبادلا للحقد والكراهية … وهكذا وصلت الوحشية في الحرب السورية لدرجة غير مسبوقة كما ونوعا ، ومع ذلك أنكرها لافروف وكيري ولم يلحظوها في حلهم السياسي التافه ….

طبعا مسألة الخطف ليست الوحيدة ، لكنها لوحدها تكفي ، فالأدب الرومنسي يذكر حكايات الأميرات التي تم اختطافهن وبيعهن جواري في أسواق بغداد واستانبول ، و منهم فتيات الشعوب السلافية المجاوره التي يعتبرها بوتين أمته … فهو ينتقم اليوم بقصف الشعب السوري وتدمير مدنه من أولئك الذين خطفوا قومه واستعبدوه … وهذا ما جعل العالم ينسى كل مصائب سوريا ويركز على سبي وبيع اليزيديات … فهذا يتطابق مع ذاكرتهم ويدل عليها .

لا يجب أن نستغرب أهمية ذلك الخطأ التاريخي الذي قام به المسلمون، وهو ليس الوحيد بل نقدمه كمثال ، فقد تم اختطاف ما يزيد عن عشرين مليون عبد من أفريقيا وحدها ونقلهم لموانئ بنغازي ومراكش وبيعهم للتجار الأمريكيين الذين حملوهم لأمريكا … وهذا العدد الهائل من المخطوفين يقابله عشرة أضعافه من القتلى أي 200 مليون قتيل  خلال قرنين كانت كفيلة بتدمير مجتمعات أفريقيا واحداث تخلف فظيع فيها … حتى أن الكثير من زنوج السودان وأفريقيا دخلوا الاسلام لتجنب هذا الخطف… وعندما يقرأ الرئيس الأمريكي قصة أجداده ( كونتا كنتي ) سوف يتصرف كما يتصرف الكاره المحتقر للإسلام والمسلمين ويتشفى بالانتقام منهم … و يجد في فعل الأسد انتقاما يستحق التشجيع والمؤازرة …

فالمسألة ليست سياسية أو في مستوى الدول ، إنها مشاعر وعواطف أشخاص تتغلب على المصالح والسياسات . هي مشاعر حقد عنصرية وطائفية متبادلة تجعل الحاقد يضحي بمصالحه بل بنفسه في سبيلها … وهذا ما جعل من معاناة الشعب السوري مسلسلا مكسيكيا … لأن الصراع في سوريا يلخص صراعات العالم ويختصر تاريخه وينفس أحقاده … تشعر وأنت في مخيمات اللجوء لماذا هم أرادوا ذلك ، وكيف يتمتعون وهم يشاهدونك عبدا بين يديهم يمنون عليك بالطعام وعتيق الثياب والإنسانية التي لم تمنحها لأطفالهم يوم كنت تدخل عليهم بسيفك وتختطفهم لتبيعهم في سوق النخاسة . هم يشبعون غريزة الانتصار عندما يبنون كل تلك المخيمات … ليطمئنوا أن جيوش الإسلام لن تدك حصونهم في القريب .

كما ترون لا يمكن تجاوز الصراع في سوريا طالما بقي محكوما بتلك المشاعر ويدار بين أولئك الأشخاص وامتداداتهم … ما يحدث في سوريا هو لعنة الذنب الذي يرتكبه صاحبه دون أن يحاسب أو يسأل نفسه عليه … فيتوهم أن فعلته قد مرت ، لكن أجيالا أخرى بعده تدفع الثمن باهظا … كما دفع أهل سيربينتشا وسراييفو ثمن قسوة العثمانيين قبل قرون ، هذا ينطبق علينا كمسلمين ، وينطبق على الآخرين أيضا الذين لم يفهموا مدى جدية وخطورة لعنة الدم السوري التي تورطوا فيها بأكثر من طريقة، ولا يدركوا حجم الانتقام التاريخي الذي قد يحدث بسببها عندما تصبح مكونا ثقافيا محمولا على قصص وحكيات موثقة يسجلها الأدب والفن ويتناقلها مليار ونصف مسلم بما تحمله من بشاعة وحقد خاصة عند تعمد تغييب العدالة التي هي بديل الهمجية ، ولا يقدرون ماذا سيحل بالعالم المحكوم بهكذا أشخاص وثقافات حاقدة وعنصرية ، تمسك بلمفاته وتديرها وفقا لأحقادها وعقدها النفسية ، وتقودنا نحو الهاوية متمثلة بالمجتمع الدولي ومؤسساته والدول الكبرى المتحكمة فيه وشخصيات الزعماء المنحطين خلقيا وقيميا …

العنف والإرهاب والحقد هي النتائج المتوقعة دوما للتغاضي عن القيم والأخلاق وتغييب العدالة ، فلا سبيل لاقامة المجتمعات ، ولا للنظام العالمي الذي أصبح ضروريا بعد توحد العالم وتشابكه، من دون احترام هذه القيم وبشكل خاص حقوق الإنسان والمجموعات ، ومن دون أخذ ذلك بعين الاعتبار فكل حل سياسي للصراع سينتهي بالمزيد من التعقيدات والتصعيد . وحتى يتعرف كيري ولافروف على القيم والأخلاق وحقوق الانسان لن يكون لاتفاقاتهم أي نتيجة فعلية في صعيد السلم والاستقرار ... ولا شيء من دون سبب وبدون أساس وتاريخ … نحن محاصرون بتاريخنا الذي لم يكن مجيدا دوما . والذي لا يجب أن نعود إليه دون نقد ، أيضا نحن ضحايا حاضر يولد عندنا ما يولد من رغبة في الانتقام ، لكننا يجب أن نفكر مليا بتاريخنا وحاضرنا عندما نضع أقدامنا على عتبة المستقبل … فقصة خطف البنات والأطفال وبيعهم في سوق النخاسة واحدة من القصص التي تشبه قصة تبرئة الأسد من مليون ضحية قتلها من أبناء شعبه … هناك قصص كثيرة أخرى فعلناها ويفعلونها تجيب على سؤال لماذا لا نكرههم ولماذا لا يكرهوننا… حكايات وحكايات يطول وقت الحديث عنها … حتى يطلع الصباح وتسكتت شهرزاد عن الكلام المباح .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.