الأسد يصلي في جبانة داريا  

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تعمد بشار ( زوج السيدة الأولى)  تصوير نفسه يصلي عيد الأضحى في داريا ( لا أعاده الله عليه ) … بعد أن ضحى بآخر فرد من سكانها ، وحاول تقديم درسه المعتاد بالوطنية وهو يقف على ركامها ، وأنكر تماما جريمته النكراء بحق أهلها ، والذين أذكر أنهم أصروا على سلمية الثورة بعد أن حمل السلاح معظم ثوار ريف دمشق ، ورغم ذلك دفعت داريا الثمن الذي دفعته الزبداني التي حملت السلاح مبكرا ، فلا فرق عند بشار والبعث كل من يعترض عدو يجب تدميره إن كان سلميا أم مسلحا ، فالأسد ونظامه هو آلة للهمجية مسلطة على الشعب ، وحزبه حزب البعث هو حزب المقابر الجماعية  بامتياز … والأسد ليس وحيدا ولم يأت من فراغ بل من رحم مؤسسة حزبية كبيرة حكمت سوريا وشارك فيها الملايين ممن لم تغسل أيديهم وبطونهم من دماء وقوت الشعب بعد .

والحديث عن حزب البعث الذي جاءنا بتلك القيادات المجرمة التي تحوم كالحشرات في كل مكان له شجون … فقد اتهمني أحد الأصدقاء الكرد المقيم في المانيا بأنني بعثي قومي شوفيني بسبب مقالي ( مساء القضية الكردية )، والذي تحدثت فيه عن الظلمة القيمية والإنسانية التي دخلت بها القضية الكردية بعد الإصرار على اعتماد العنف وسياسة التغيير الديموغرافي في المنطقة ، فمارس علي بعض تصرفات البعث التي عانيت منها طويلا من تكفير وتخوين لكن بالنكهة الكردية هذه المرة … لذلك أحببت أن أشرح له ولغيره ماهو البعث ، وما هي معارضته ، كذلك حتى نفهم معنى صلاة بشار في داريا .

البعث لغة يعني العودة للحياة بعد الموت ، وحزب البعث قصد من اسمه الدلالة على مشروعه في إعادة بعث الأمة العربية والدولة العربية الواحدة ، وبناء المجتمع العربي الإشتراكي الموحد من المحيط الهادر للخليج الثائر ، ولم ينس عربستان واريتيريا وكيليكية … وطبعا فلسطين ولواء اسكندرون وشط العرب ، وجزر أبو موسى والطنب الصغرى والكبرى .. وصولا لأريتريا والصومال وجزر القمر .

حكم حزب البعث بشكل منفرد ومطلق العراق وسوريا  بدءا من انقلاب 8 شباط و  انقلاب 8 آذار عام 1963 على التوالي ، وانتشر كحزب قومي في كل أنحاء الوطن العربي ونقل نموذجه لليبيا والسودان والجزائر واليمن ومقاديشو، ومد استطالاته للبنان والأردن واليمن وفلسطين وأريتريا وموريتانيا … لكنه منذ وصوله للسلطة ورغم أنه حزب قومي وحدوي كانت الخلافات الداخلية تعصف به ، وتمزقه لأجنحة متصارعة ومنقلبة على بعضها فشعار الوحدة القومية من المحيط للخليج طبق كانقسامات حزبية عصبوية متناحرة حتى الموت داخل الحزب الواحد … وطبق كخلاف دائم وعنيف بين سلطته في العراق وسوريا طيلة عقود دون انقطاع  … وهكذا تجلى البعث الوحدوي بحزبين قوميين بل بعدة أحزاب لها نفس الإسم والشعار ، وبقيادتين قوميتين متناحرتين لأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة …

فالمشكلة مع البعث ليست في الشعار المجاني، بل في العمل الذي يكون عادة عكس هذا الشعار . وفي الممارس الذي هو دوما ومطلقا عكس المعلن … وعندما رفع البعث شعار الحرية طبقها كاستبداد وقمع وسجون ، وعندما رفع شعار الاشتراكية طبقها سلبا وتشبيحا وسرقة لأموال الدولة والمواطنين ، وعندما رفع شعار الوحدة طبقها انقسامات وصراعات لا تنتهي ، و قد رفع شعار العمال والفلاحين والمعلمين والرياضيين فخربت بيوتهم وتم افقارهم لدرجة الشحادة … ولم يرفع مطلقا ولا مرّة شعار السماسرة والمهربين والقوادين ، لذلك عاشوا بخير وبحبوحة وسعة ورغد ورفاه في طول عهده ، وذكراه  وكانوا سندا له في محنته وكراه … البعث مغناطيس للشخصيات المتسلقة الخسيسة عديمة القيم والمبادئ … الشخصيات الطفولية الفوهية الطلائعية حتى وهي في سن الكهولة ، التي ترقص وتتشخلع في الشوارع احتفالا بما قاله القائد الأجدب الملهم الموحى زوج السيدة الأولى … ولا يرتقي البعثي في سلم السلطة حتى يثبت ولاءه للقيادة الحكيمة بالوشاية بأمه ، وبأهل بيته ، وبتمكين الأمن من التحكم بكل ما لديه بما فيها ما يعيب ذكره. فبعث الأمة العربية صمم ليتم على يد هؤلاء ، و بواسطة الإمعان في الوضاعة والدناءة والخسة … فكانت حصيلة عقود من حكم البعث هي دمار معنوي ومادي تام ونهائي للدول التي وصل للسلطة فيها صورها مشهد الرفيق بشار بالأمس .

بعث العراق انتهى بسلطة صدام التي أنهت العراق وقسمته ، وبقيت تردد شعار الوحدة العربية حتى المشنقة ، وبدل تحريرها القدس عن طريق الكويت ، خرجت من بغداد عن طريق زاخو ، أما بعث سوريا فقد فعل بها ما فعله الحداد ، وتركها جثة هامدة ومقطعة للكلاب ، وسلمها للارهاب الذي تعيّش دوما على شعار محاربته . وباع سيادتها واستقلالها للمحتل الفارسي والروسي ، وأوجد في وسط دمشق وحمص وحلب جبهات عسكرية دائمة وساخنة تعوض عن جليد جبهة الجولان منذ تسليمها طوعا وعن طيب خاطر للتأكيدا على شعار التحرير الذي يتاجر به حتى وهو يهاجم حلب وداريا.  وكذلك  تعرضت لبنان والأردن واليمن وليبيا لقدر من المشاكل يتناسب مع نسبة امتداد البعث والتبعيث إليها ليس آخرها سلوك حزب الله الذي عطل ودمر لبنان وانتقل لسوريا ليفرغها من سكانها ويستبدلهم بميليشياته المنفهشة بأحلام الإمام الذي لن يعتق من دون مذابح دمشق والغوطتين … وهم من كانوا يحتفلون مع بشار في (تحرير ) داريا من أهلها .

فالبعث شعارا يعني التهلكة فعلا ، وبدل أن يحي الميت يهلك الحي … لذلك حملت الثورة عليه معنى الربيع العربي ، ولو سموه حزب التهلكة ربما لكانت الأمة العربية اليوم حية تسعى ، ولو أهلكناه في مهده منذ خمسين سنة لكنا اليوم نحيى بألف بخير … كما أن الغرب لم يتمكن من قتل الربيع العربي إلا عندما أعاد بعث البعث في قيادة هذا الربيع ، وحكمه فيه … فصارت الخطابات عكس الأفعال من جديد ، وكفرت الناس بالثورة بسبب الفساد والتدليس والتآمر والخيانة التي هي في دم كل بعثي انتسب لحزب البعث وتربى في كنفه طليعيا وشبيبيا وحزبيا … سياسيا كان أم موظف أم شيخ جامع عينه رفاق الأوقاف.

…. هذه صورة سيلفي للبعث الذي يعلن عادة عن نفسه بشكل معكوس ( negative ( شعاره عكس فعله ، و قد سارت على دربه المعارضة السورية التي قلدته ، فكانت شعاراتها وخطاباتها بعكس أفعالها ، ولم تنجح في توحيد صفوفها ورؤيتها إلا تحت إدارته وقيادته ، وهذا يشمل أيضا الحركات الدينية الإخوانية التي تعلن الدين وتطبق ما هو رجيم … وتعمل بقيم وأخلاق البعث وقيادته . ففشل الثورة السورية هو سببها ذاته (أي البعث) . الذي ثرنا عليه شكلا لكنه استمر فينا عملا يتحكم بسلوكنا وضميرنا فعلا ، فكان أن أنجز الموت كعادته في تحقيق عكس شعاراته .

المشكلة كما تبدو كامنة في التناقض الكامل بين الظاهر والباطن ، بين الخطاب والفعل ، بين الشعار والواقع ، المشكلة في جينات الثقافة التي تبرر الكذب والخداع الممارس على الآخر وعلى الذات والقدرة على جمع المتناقضات بكل صفاقة… أشبعونا كذبا ولصوصية واختلاسا وخيانة وتآمر .. وخطابات … ودمرت بلداننا وقتل منا من قتل وتهجر من بقي، وما تزال اذاعاتهم وخطاباتهم تلاحقنا سلطة يتحكمون بها ، ومعارضة يحكمونها .

 عندما نتعلم الصدق مع النفس ومع الآخر نكون قد بعثنا كأمة دفنت بكذبها ، عندها نسميها عروبة وثورة واسلام قولا وفعلا … ومن دونه سنستمر في التكاذب والخيانة المتبادلة ، التي تؤدي لفشل اجتماعنا وتحضرنا ، وتحول مجتمعاتنا لمجتمعات عنف وصراع بيننا وفي دواخلنا. فالكذب هو الفيروس الذي يخرب كامل نظامنا الاجتماعي والسياسي والديني … وبعث الأمة العربية الفعلي يتطلب تحريرها أولا من الكذب ، فماذا ستكون النتيجة إذا كان على يد حزب البعث ذاته الذي هو حزب الكذابين والكذب، نتاج وطني يعبر ويختصر تخلف هذه الأمة وانحطاطها.

المشكلة أن بعض الكرد يحاول تكرار تجربة البعث العربي بتجربة بعثية أخرى لكن بلغة كردية ويرفع ما يرفع من شعارات ، ويطبق عكسها ، فبدل تحرير الكرد يستعمرهم ويستعمر العرب معهم ، وبدل توحيدهم يمزقهم ويوغل في قمعهم وتمزيقهم ، وبدل أن يثبتهم في أرضهم يساهم في تهجيرهم وتهجير العرب أيضا منها … وعندما تخسر القضية الكردية قيمها الإنسانية فهي تخسر أهم وأقوى عناصرها وهذا ما تكلمت عنه في مقالي عن مساء القضية الكردية بسبب حاملها الحالي أقصد حزب البعث الكردي الشيوعي ( PYD ) .  الذي لم يفك تحالفه مع البعث العربي الاشتراكي ولن يفعل ، فإذا شاءت الظروف واختلف معه تحالف مع حزب الغد الأكثر بعثية من البعث ذاته .

بحر من الكذب والكذابين والنصابين والفاسدين والمجرمين والسفلة يحاصرنا في كل مكان ومن كل صوب … فننساق مع تيارهم وأمواجهم لنغرق بكذبنا وكذبهم … وعندما يرفع أي منا رأسه فوق أمواج الكذب يعاد اغراقه في خضم الديماغوجيا … ونغرق جميعا بفشلنا ونقتل بعضنا وندمر أوطاننا … وهذا حالنا الذي لا نحسد عليه .

فقط عندما يجرؤ أي منا على قول الصدق وكشف ما يجول في نفسه ، وما يقوم به ، إن كان حاكما في السلطة أو مدعيا معارضتها ، أو مدعيا الدين والتدين شكلا وهنداما … إن كان عربيا ، أو حتى كرديا … عندما يكشف لنا فعلا عن ذمته المالية وما قبض ومن أين يعيش ، وماذا فعل بالمال الذي أتمن عليه، مع أنه أقل قيمة من القضايا الأخرى … نكون قد بعثنا فعلا ، فالبعث ، كما هو الائتلاف صورة من صور الكذب المؤسس له عميقا في جينات ثقافتنا البعثية حتى العظم عربا وكردا،  والاستمرار في هذا الكذب لن يغير من حياتنا شيئا مهما اسقطنا من أنظمة ودويلات وأنشأنا من إمارات وفيدراليات ، لأنها ستقوم عليه حتى لو كانت كردية في القامشلو أو اسلامية إخونجية في باب الهوى وحلب الشهباء ..

وحده الصدق هو الكفيل باسقاط البعث قبل السلاح والحظر الجوي، وطيران التحالف الذي هو أكثر بعثية منا جميعا فهو دائما يستهدف المدارس والمستشفيات تحت شعار محاربة الإرهاب .  البعث هو الموت وسبب الصراع وهو عنوانه . وما يجري في سوريا ليس صراعا ضد البعث بل صراعا داخله يعبر عنه . وأي حل سياسي يبقي على البعث أو البعثيين سيعني استمرار الهلاك ، وانتشار المقابر الجماعية … وصورة بشار الأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي يصلي في مقبرة داريا خير دليل ومثال على هذا البعث.

( الصورة هي لوحة رسمتها قبل أكثر من عشر سنوات يظهر فيها علم البعث كعلم للمقابر الجماعية …)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.