الأسد صنع الجهاديين الذين يزعم قتالهم اليوم من مشتبه بهم إلى عملاء

نشر موقع «London review of Books» مقالاً للكاتب والباحث البريطاني بيتر نيومان()، توصل في خلاصته إلى أن الرئيس السوري بشار الأسد الذي يزعم أنه «يحارب الارهاب في بلاده» هو في الواقع من أنشأ قواعد هذا الارهاب، ونظّم بواسطة أجهزة استخباراته قيام المجموعات الاسلامية المتطرفة التي تنادي بالجهاد. ويغوص الكاتب في تاريخ إنشاء المجموعات الجهادية في سوريا على يد أجهزة الاستخبارات كي تلعب دوراً يحقق أهداف الحكومة السورية بإبعاد شبح الحرب الأميركية عنها عقب غزو العراق، استناداً لنظرية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بإسقاط الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط، وهو ما دفع الأسد وأجهزة استخباراته إلى الاعتقاد بأن سوريا ستكون المحطة التالية من حرب بوش. ويتناول نيومان تاريخ العلاقة الدموية بين نظام «البعث» في سوريا منذ العام 1964 مع الحركات الاسلامية وفي مقدمها تنظيم «الأخوان المسلمين» الذي اضطر أعضاؤه إلى الفرار من سوريا بعد العام 1982 عقب الحملة الدموية التي شنّها عليهم في مدينة حماه، لكن ذلك لم يحل دون تحوّل من بقي من أعضائه في سوريا نحو العمل السري والشعور بالكراهية ضد النظام وأجهزته الاستخبارية.

ويروي الكاتب بالأسماء دور كبار «الارهابيين» الذين صنعهم الأسد وأجهزة استخباراته، في محاربة الأميركيين في العراق، وصولاً إلى دورهم الذي رسمته لهم أجهزة الاستخبارات السورية في لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري في العام 2005، لمحاولة تضليل التحقيق وإثارة النعرات المذهبية وكيف أن «فتح الاسلام» وقائدها كان من عناصر الاستخبارات السورية الذي كلّف بمهمة تجنيد «جهاديين» بهدف مناهضة نفوذ رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري.

وفي ما يلي، الترجمة الكاملة لمقال نيومان كما ورد على الموقع الالكتروني:

http://www.lrb.co.uk/v36/n07/peter-neumann/suspects-into-collaborators

قبل ثلاث سنوات، كان من الصعب إيجاد أي شيء مهم يتعلّق بسوريا في الكتب التي تتناول تنظيم «القاعدة». ويحوي كتاب لورانس رايت «البرج في الأفق» الذي يعتبره البعض القصة الحقيقية لنشوء تنظيم «القاعدة»، خمس إشارات حول سوريا فقط، في حين أن كتاب فواز جرجس «بروز وسقوط القاعدة» يذكر سوريا مرة واحدة فقط، على أنها مسقط رأس والدة أسامة بن لادن. لكن اليوم، أصبحت النظرة إلى سوريا وعن حق- هي أنها المهد لإعادة تنامي «القاعدة»: نقطة جذب للجهاديين، توفّر لهم الشبكات والمهارات والدوافع الضرورية لإنتاج جيل جديد من الارهابيين. كيف حصل ذلك؟ ولماذا حصل بهذه السرعة؟

بالنسبة لبشار الأسد، فاللوم يقع على الخارج خاصة تركيا وممالك الخليج التي استخدمت أموالها ونفوذها من أجل رعاية الانتفاضة ضد حكم الأسد، وتسليح الثوار وتوريد المجندين الأجانب. وفي السنوات التي سبقت الانتفاضة، اعتبر الأسد وأجهزة استخباراته أنه يمكن تغذية الجهاد والتلاعب به وفقاً لأجندة الحكومة السورية. وفي تلك الفترة دخل الجهاديون الأجلانب للمرة الأولى إلى البلاد وساعدوا الحكومة على بناء الهيكلية اللازمة وطرق الإمداد الذي أصبحت الآن تستخدم لمحاربة الحكومة. إلى هذه الدرجة أصبح الأسد اليوم يحارب العدو الذي ساعد على إنشائه.

ولكي تكون لسياسته مغزى، من المهم فهم التاريخ الطويل من المواجهة بين الإسلاميين وحكومات حزب «البعث» برئاسة بشار ومن قبله والده حافظ الأسد. لقد نشبت أول النزاعات الدموية بين الحكومة السورية و»الأخوان المسلمين» في العام 1964 قبل اقل من عام على استيلاء «البعث» على السلطة. ومن وجهة نظر الإسلاميين، استولى على البلد يتعارضون معهم بشكل كامل على كل شيء يؤمنون به: لقد قضى نظام «البعث» العلماني الصارم على إمكانية إقامة دولة إسلامية؛ هدّدت اشتراكيته مصالح صغار التجار ورجال الأعمال الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للأخوان؛ والدعم القوي الذي حصل عليه في أوساط الأقليات خاصة المسيحيين والعلويين يعني أن الغالبية السنية كانت ستخضع لحكم «الكافرين» و»المرتدّين«.

غير أنه لم تنشب انتفاضة منظّمة ضد «البعث» إلا في العام 1976. وحظيت الانتفاضة برعاية ما يسمّى «الطليعة المقاتلة» (وهي مجموعة طائفية نشأت على هامش «الأخوان المسلمين») وتلا ذلك دعم قوي من جميع فصائل «الأخوان المسلمين»، أجزاء من المعارضة العلمانية ونظام صدام حسين في العراق. وتوّجت المواجهة بحرب دموية استمرت ثلاثة أسابيع في شباط من العام 1982 في مدينة حماه، حيث قتلت القوات الحكومية آلاف الأشخاص ودفعت نظرياً كل من يعرف أنه من مؤيدي «الأخوان المسلمين» إلى مغادرة البلاد. وشكّلت تلك المرحلة نهاية «الأخوان المسلمين» داخل سوريا وهذا ما يفسّر لماذ كان حضورها وصوتها خلال النزاع الحالي هامشياً: لا يملك «الأخوان المسلمون» في سوريا، بخلاف نظرائهم في مصر، تنظيماً ولا هيكلية، كما أن معظم قادتهم (الأحياء) لم تطأ قدمهم سوريا منذ عقود طويلة.

والإلغاء الوحشي للأخوان لم يعن أن الدولة تجنّبت «الانعطافة الدينية» التي خبرتها معظم المجتمعات العربية خلال التسعينيات من القرن الماضي. وبسبب المآسي الاقتصادية والسياسية والفساد المستشري والشعور بأن الجتمع السوري في ظل النظام القائم لا يملك أملاً بالتقدّم أو فرصة للتطوّر، اتجه العديد من السنّة صوب الاسلام واعتنقوا نظام حياة دينياً. ولإدراكه بما كان يحدث، سعى بشار الذي خلف والده في العام 2000 إلى استمالة والهيمنة على هذه الصحوة. وفي السنوات الأولى من رئاسته، أمضى معظم وقته وهو يتودّد إلى رجال الدين ويراقب المساجد ويتأكد من أن الرأي العام الإسلامي الناشئ يسير وفقاً لأهواء النظام. كما موّل المؤسسات الدينية وأنشأ مصارف إسلامية وخفف من القيود الحكومية المفروضة على المظاهر الدينية مثل ارتداء الحجاب في الأماكن العامة وإقامة شعائر الصلاة بين أفراد القوات المسلحة. وفي كتاب «إحياء الاسلام» الصادر في العام 2011، لاحظت الكاتبة لين الخطيب أن موقف بشار الأسد التسامحي مع الإسلام يتعارض كلياً مع العقيدة الأصلية لحزب «البعث» التي تعتبر أي ذكر للدين «انحرافاً سياسياً» وتنظر إلى الاسلام «كأيديولوجية رجعية«.

ولم يصل انفتاح بشار على الإسلام في ذلك الوقت إلى «الجهاديين» الذين انتشروا بشكل واسع بين صفوف المجتمعات السلفية في سوريا المتواجدة في المجتمعات الفقيرة وفي الأرياف مثل درعا في الجنوب، إدلب في الشمال وضواحي حلب. في أواخر العام 1999، نتج عن كمين نصبه الجهاديون اندلاع أربعة أيام من القتال مع القوات الحكومية وتسبّب بحملة ملاحقة وقمع في سائر أنحاء البلاد أسفرت عن اعتقال حوالي 1200 مشتبه بهم من الميليشيات وأنصارهم. وبعد اعتداءات 11 أيلول 2001، عرض بشار مساعدة حكومته في الحرب على الارهاب. وعلى الرغم من القلق من دوافعه، وافقت حكومة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على التعاون ودأبت على تسليم الحكومة السورية معتقلين جهاديين «في غاية الأهمية» حتى العام 2005.

و»السلاح السري» للحكومة السورية في حربها ضد الجهاديين كان اختراق صفوفهم وتحويل المشتبه بهم إلى متعاونين وهي تقنية استخدمت بنجاح كبير في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي ضد الأخوان المسلمين. واستناداً لبرقيات «ويكيليكس» المسربة عن وزارة الخارجية الأميركية، فإن أحد المسؤولين في أجهزة الاستخبارات السورية أبلغ مسؤولين أميركيين أن «لدينا خبرة كبيرة ونعرف هذه المجموعات» متابعاً «لا نهاجمهم أو نقتلهم … نضمن أنفسنا … ولا نتحرك إلا حين يحين الوقت المناسب». وأضاف أنه نتج عن هذه المقاربة «اعتقال مصدر الإرهابيين وإزالة الخلايا الإرهابية«.

وأثار الغزو الأميركي للعراق في آذار 2003 غضب السلفيين السوريين الذي اعتبروا أن احتلال «ارض المسلمين» سبب شرعي من أجل التسلّح. والاستراتيجية المشحوذة بشكل جيد للنظام للتعامل مع مثل هذه الأحداث تنظيم تظاهرات والسماح للناس بالتعبير عن غضبهم على شاشة تلفزيون الدولة الرسمي لم تعد خياراً: لا يمكن استرضاء السلفيين، يريدون الذهاب إلى العراق لقتل الأميركيين. بالنسبة للأسد ورؤساء أجهزة استخباراته، يشكّل هذا الوضع تحدياً جدياً، وبعد أسابيع من التردّد، قرّروا الانتقال إلى إستراتيجية جديدة: عوضاً عن قمع غضب السلفيين، سوف يشجّعونه.

وكانت فكرة السماح للسلفيين بالذهاب إلى العراق جيدة لسببين: الأول هو التخلّص من آلاف السلفيين العدائيين والذين يملكون ميلاً للجهاد، توضيبهم وشحنهم إلى حرب خارجية قد لا يعود الكثيرون منها أحياء ليشكّلوا خطراً على حكومة الأسد الأقلية الحاكمة؛ والثاني، زعزعة الاحتلال في العراق، وإفشال سعي الرئيس بوش للإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية (جميع من هم في الدائرة اللصيقة بالأسد كانوا يخشون أن سوريا هي التالية). واستناداً لكاتب سيرة الأسد دافيد ليش، فإن دمشق «أرادت فشل عقيدة بوش، وتأمل أن العراق سيكون البلد الأول والأخير الذي تطبّق فيه. أي شيء يمكنها القيام به لضمان هذه النتيجة، باستثناء استجلاب التدخل العسكري الأميركي المباشر ضد سوريا، يعتبر لعبة عادلة«.

وعملياً، تحوّلت سوريا بين ليلة وضحاها إلى نقطة العبور الرئيسية للجهاديين الأجانب للانضمام إلى التمرّد في العراق. وداخل سوريا، كانت أجهزة الأسد الاستخبارية تنشّط عملائها الجهاديين، وأشهرهم كان «أبو القعقاع»، رجل الدين السلفي من حلب الذي درس في المملكة العربية السعودية والذي كان يستمع إلى خطبه مئات وفي بعض الأحيان آلاف- الأشخاص. وقبل غزو العراق، كان أتباع «أبو القعقاع» يتصرفون كحرّاس دينيين، يفرضون العقاب على «التصرفات غير اللائقة» ويشجعون على الكراهية ضد حكومتي إسرائيل والولايات المتحدة الكافرتين. وبعد الغزو، تحوّلت مجموعته إلى محور يزوّد زعيم «القاعدة» في العراق «أبو مصعب الزرقاوي» بالمجنّدين السوريين. وكانت جهود «القاعدة» ناجحة لدرجة أنه في العام 2003 شكّل السوريون أكبر كتيبة مقاتلين أجانب في العراق. وبعد أربع سنوات، وعندما تغيّرت الحسابات السياسية وأرادت الحكومة السورية إبطاء حركة انتقال المقاتلين عبر أراضيها، قتل «القعقاع» في ظروف غامضة. وشارك في جنازته أعضاء من البرلمان السوري إلى جانب آلاف الاسلاميين. واستناداً لتقارير إعلامية لبنانية، فقد «لفّ جثمانه بالعلم السوري وحظيت المناسبة بكل مراسم الجنازة الرسمية«.

كان «القعقاع» مهماً، لكنه لم يكن الرجل الوحيد المتورّط في إرسال المقاتلين الأجانب إلى العراق. واستنادأ لوثائق حصلت عليها القوات الأميركية في مدينة سينجار الحدودية في العراق، فإن إدارة العمليات اللوجيستية كانت تتولاها شبكة معقّدة تتشكل مما لا يقل عن مئة «مسهّل» منتشرين في جميع أنحاء البلاد ويحتفظون بكميات من الأسلحة والمنازل الآمنة في دمشق، اللاذقية، دير الزور وغيرها من المدن السورية الرئيسية. وكان هؤلاء يعملون بالمقابل بشكل وثيق مع العشائر المنتشرة على الحدود العراقية، والذين عانت تجارتهم القائمة على التهريب كثيراً بسبب الحرب، والذين كانت عملية تسهيل تدفق الجهاديين من سوريا بديلاً مرحّباً به.

وبعد أقل من عام على تأسيسها، كانت الشبكة السورية متجذّرة بشكل جيد لدرجة أنها بدأت بجذب الجهاديين من دول مثل ليبيا، المملكة العربية السعودية والجزائر الذين كانوا يصلون جواً إلى دمشق أو ينتقلون عبر أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وفي العام 2007، قدّرت الحكومة الأميركية أن 90% من المفجّرين الانتحاريين في العراق كانوا من الأجانب، وأن ما بين 85% و90% من المقاتلين الأجانب في العراق دخلوا إلى البلاد عبر سوريا. وأصبحت شبكة الجهاديين في سوريا بشكل رئيسي امتداداً للشبكة العاملة في العراق وتعمل من دون دعم فعلي من حكومة الأسد، لكن بشكل مؤكّد بعلمها.

ومع حلول العام 2005، أصبح من الواضح أن عملية «الحرية للعراق» تعاني من مأزق وأن السوريين ليس عليهم القلق من أن يصبحوا الهدف التالي لعقيدة بوش. لقد كان التدفق المستمر للاجئين من العراق يشكّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد السوري (بدا واضحاً في العام 2008 أن سوريا تريد رؤية الاستقرار وليس الفوضى في العراق). وأكثر من ذلك، كانت «القاعدة» في العراق المجموعة التي تعامل معها «أبو القعقاع» بشكل وثيق- كانت تحوّل اهتمامها بعيداً عن محاربة الأميركيين نحو احتمال الانخراط في حرب مذهبية مع الشيعة، وهو احتمال كانت تنظر إليه الحكومة السورية ذات الأغلبية العلوية برعب. غير أنه لم يكن هناك أي فرصة لإغلاق الحنفية. لقد توسّعت شبكة الجهاديين بسرعة لدرجة أنه حتى «أبو القعقاع» الذي طلب منه الدعوة إلى «الاعتدال» عندما بدأ التمرّد يتحوّل إلى حرب مذهبية، كان قد فقد الكثير من نفوذه؛ كما أصبحت عملية تهريب المسلّحين مغرية لدرجة أنها تحوّلت إلى صراع واسع بين العشائر نفسها. لقد أنشأ النظام السوري ظاهرة لم يعد بإمكانه السيطرة عليها. * بالنسبة لبعض الجهاديين الذين بدأوا بالعودة إلى سوريا بعد العام 2005، كانت أجهزة الاستخبارات السورية قد وضعت لهم خطة بارعة. مرة أخرى، سعت إلى تصدير خطر الجهاديين في الوقت الذي تحوّل أبطاله (عن غير قصد) إلى أدوات مهمة للسياسة الخارجية السورية. وهذه المرة كان الهدف لبنان، حيث أجبرت مؤخراً سوريا على إنهاء احتلالها العسكري الذي استمر 30 عاماً، وحُمّلت مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وبالنتيجة، أجبر العديد من الجهاديين الذي دخلوا غلى العراق عبر سوريا، للعودة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بالقرب من صيدا وطرابلس التي انطلقوا منها في رحلتهم إلى العراق. لم تكن منظمتا «فتح الاسلام» و»عصبة الأنصار»، المجموعتان الجهاديتان المحليتان تحت السيطرة الكاملة لأجهزة الاستخبارات السورية، لكنهما كانتا فاسدتين لدرجة يمكن استخدامهما لتنفيذ غايات الاستخبارات السورية في لبنان، حيث كانت تأمل في إثارة نزاع مذهبي وحرف مسار التحقيق الذي تقوم به المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في اغتيال الحريري. وسرعان ما تبيّن أن إرسال الجهاديين إلى لبنان لم يحل المشكلة. لقد قرر العديد من الجهاديين العائدين من العراق البقاء في سوريا، حيث انخرطوا في حملة إرهابية. وتضمنت هذه العمليات هجمات ضد مبان حكومية، مبنى التلفزيون الرسمي، السفارة الأميركية في دمشق ومركز عبادة شيعي، وجميعها تم الحديث عنها في وسائل الاعلام العالمية. غير أنه كانت هناك مئات الحوادث الأقل أهمية وهجمات فاشلة أبقتها الحكومة في الظل، ولم تكشف عنها، ولم يكن بإمكان العالم الخارجي أن يعرف عنها. وقال عملاء الاستخبارات الأوروبية الذين كانوا ينشطون في تلك الفترة في سوريا إنهم تلقوا تقارير عن حوادث إرهابية «شهرياً». وتذكر تقارير الخارجية الأميركية المسربة (ويكيليكس) وقوع تفجيرات والعديد من النزاعات المسلحة ومحاولات التفجير في العام 2006؛ المزيد من المعارك المسلحة، ومحاولات تفجير سيارات في دمشق والاستيلاء على أحزمة ناسفة وسيارات مفخّخة و1200 كيلوغرام من المواد المتفجّرة في العام 2008؛ كما تفجير باص ينقل حجاجاً شيعة في آذار 2009.

وتبنّت الموجة الأولى من هذه الهجمات بين العامين 2004 و2006 مجموعة «جند الشام»، وهي مجموعة غير معروفة يعتقد الخبراء أنها تأسست على يد الزرقاوي، في حين أن الموجة الثانية بين العامين 2008 و2009 كانت من عمل «أعضاء متمرّدين» من «فتح الاسلام». ومهما كان العنوان، فإن الأشخاص المسؤولين عن هذه الهجمات كانوا، من دون استثناء، مقاتلين سابقين في التمرّد العراقي تم جلبهم من سوريا لاستخدامهم بسبب خبراتهم القتالية ومهاراتهم في المعارك لمهاجمة الحكومة، وبشكل أخص السكان الشيعة.

وواحدة من أهم مظاهر فشل سياسة الأسد وارتدادها عليه كانت حوادث التمرّد في سجن صيدنايا. فبعد غزو العراق، عرض مسؤولو الاستخبارات السورية على السجناء الاسلاميين في هذا السجن السيء السمعة الذي يقع خارج دمشق، فرصة الحصول على تدريبات عسكرية والتوجه لقتال قوات التحالف في العراق. واستنادأً لبرقية مسربة عن وزارة الخارجية الأميركية (ويكيليكس)، فمن بين الذين وافقوا على العرض وتمكّنوا في النهاية من العودة إلى سوريا «فإن البعض لا يزال متوارياً .. وآخرين رحلوا إلى لبنان، فيما أعيد اعتقال مجموعة ثالثة وسجنت مجدّدا في صيدنايا». وشعر أولئك الذين أعيدوا إلى السجن بأنهم تعرّضوا للخديعة: لقد توقّعوا معاملة أفضل، ربما الحرية، وكانوا مستائين جداً من ظروف السجن». وفي تموز 2008، ثاروا واحتجزوا عدداً من حراس السجن وبعض العسكريين كرهائن. وعلى الرغم من نشر القوات السورية الخاصة، استمر السجناء في السيطرة على جزء من سجن صيدنايا لعدة أشهر. وفي كانون الثاني 2009، تم إنهاء حالة التمرّد الطويلة من خلال معركة شرسة كلّفت حياة مئات السجناء وعشرات الجنود. بالنسبة للجيش السوري، كانت هذه الحادثة «نقطة سوداء». لم تأت وسائل الإعلام السورية على ذكر الحادث كما تسبّب ترحيل بعض المقاتلين السابقين إلى لبنان بمشاكل بالنسبة للأسد. فقائد «فتح الاسلام»، الشريك الجهادي الرئيس لسوريا في لبنان، كان يعرف بأنه من أهم عناصر الاستخبارات السورية، وأن الفكرة الرئيسية بالنسبة لدمشق كانت تحويل المجموعة إلى «مجموعة جهادية خاصة لها في لبنان»، لمواجهة جهود رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري (نجل رفيق الحريري) وحلفائه السعوديين. واستنادأً للأكاديمي الفرنسي برنار روجييه، الخبير في شؤون مخيمات اللاجئين في لبنان، فإن السوريين حققوا نجاحاً أكبر مما كانوا يتوقعون. وباستثناء المقاتلين الأجانب، فإن المجموعة تمكّنت من تجنيد الجهاديين الطامحين من جميع أنحاء لبنان, وبعد تمركزها في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان، نمت حركة «فتح الاسلام» ليصبح عديدها أكثر من 500 مقاتل، وكانت تأتيها الأموال ليس من سوريا فقط، بل من الخليج وحتى من أنصار الحريري (الذي كان يفترض مواجهة نفوذه بواسطتها). ويقول روجييه «لقد كان لها تأثير مغناطيسي على الاسلاميين في جميع أنحاء البلاد«.

وفي أوائل العام 2007 أعلنت المجموعة نيتها إقامة إمارة إسلامية في شمال لبنان وانخرطت في مواجهة مع الجيش اللبناني استمرت ثلاثة أشهر وانتهت بهزيمة المجموعة. ووجد أعضاء المجموعة الناجين ملاذاً في المنطقة الضيقة التي يقطنها السلفيون في شمال لبنان، أو أنهم عادوا إلى سوريا حيث شنوا هجمات ضد الشيعة وضد الحكومة السورية. وخلال الأزمة الحالية، برزت «فتح الاسلام» كواحدة من أوائل مجموعات الثوار التي تعتنق أجندة جهادية، فيما تستمر مجموعات الجهاديين الأخرى باستخدام قنوات تموينها وتطويع المجاهدين إلى صفوفها في لبنان.

والنتيجة الطويلة الأمد لسياسة الأسد سببها انفتاحه على شبكات الجهاد الدولية. وقبل تحويله بلاده الى نقطة ترانزيت للمقاتلين الأجانب، كان الجهاديون السوريون قد ترعرعوا بشكل كبير في الداخل. لطالما كان في»القاعدة» أعضاء سوريون من النخبة الإستراتيجي أبو مصعب السوري على سبيل المثال، أو أبو دحدح الذي حكم عليه بالسجن لفترة طويلة في أسبانيا لكنهم اضطروا للهرب من سوريا في مطلع الثمانينيات ولا توجد أدلة على ارتباطهم بنشاطات جهادية في داخل سوريا، أو سعوا إلى تنظيمها أو حتى أظهروا أي اهتمام للقيام بها. لم يكن خبراء الارهاب على خطأ عندما اعتقدوا لفترة وجيزة على الأقل- بأن سوريا كانت خارج منظومة القاعدة.

لكن ذلك تغيّر في العام 2003 عندما سمح الأسد للجهاديين في بلاده بالارتباط مع الزرقاوي ويصبح جزءاً من شبكة المقاتلين الأجانب الممتدة من لبنان إلى العراق، ولها طرقات خاصة ومنازل آمنة ومسهّلون عبر جميع أنحاء البلاد. ومع المساعدة الفعالة لأجهزة استخبارات الأسد، أصبحت سوريا مفتوحة أمام تدفق ونفوذ- الجهاديين أصحاب العلاقات المهمة من ليبيا، المملكة العربية السعودية، الجزائر، تونس، اليمن والمغرب، والذين جلبوا معهم أرقام معارفهم، الأموال والخبرات. وخلال سنوات قليلة، لم تعد سوريا نقطة سوداء على الخارطة الدولية للجهاد: في أواخر العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، أصبحت أرضاً معروفة للجهاديين الأجانب، في حين أن الجهاديين السوريين أصبحوا أعضاء رئيسيين في «القاعدة» في العراق حيث اكتسبوا خبرات قتالية وحصلوا على علاقات دولية وخبرات ضرورية لتحويل سوريا إلى أرض الجهاد التالية.

وعند اندلاع النزاع الحالي، لم يكن مفاجئاً أن تبرز البنى الأولى للجهاديين في النواحي الشرقية من البلاد، حيث نقاط العبور إلى العراق، وفي أماكن مثل حمص وأدلب القريبة من لبنان؛ ولم يكن مفاجئاً أيضاً أن الجهاديين وليس الأخوان المسلمين- هم القادرين على توفير المقاتلين الأكثر التزاماً وخبرة وأصحاب المهارات والمصادر والانتظام لمهاجمة الحكومة. كما كان الذين وجدوا أنه من الأسهل لهم أن يتواصلوا مع شبكات المتعاطفين الأثرياء، خاصة في الخليج، لتوفير الأسلحة والتمويل. والمثال الأكثر وضوحاً كان تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، اللاعب الطائفي المتشدد في الأزمة الحالية والمتحدّرة من تنظيم «القاعدة» والزرقاوي في العراق، والذي يعتمد على الشبكات نفسها وخطوط التموين التي مكّنتها من نقل المقاتلين من سوريا إلى العراق بخلاف أن اليوم بالطبع، انخفضت نسبة تدفق المقاتلين من الجهتين. ونظراً لتاريخ وتكوين مجموعات مثل «داعش»، فإن العديد من وجوه المعارضة السورية يزعمون اليوم أن المجموعات الجهادية في سوريا هي دمى بيد الأسد، ويستمر استخدامهم والتلاعب بهم من قبل الاستخبارات السورية في إطار جهودها لتشويه سمعة الثورة السورية، وتقسيم المعارضة وردع الغرب عن التدخل لمصلحتها. وفي الواقع، لا يوجد شك بأن العديد من قدامى وكبار القادة في مجموعات مثل «داعش» لديها سجلات في أجهزة الاستخبارات السورية، وأن بعضهم على الأرجح يتعاون لغاية اليوم مع النظام. كما لا يوجد أي شك في أن الحكومة السورية التي تقاتل عدداً كبيراً من المنشقين العلمانيين من أفراد قواتها المسلحة الخاصة، لديها مصلحة في تصوير المعارضة على أنها مجموعة متعصبين مجانين. كما أن بعض تصرفاتها مثل إطلاق سراح المزيد من الاسلاميين من سجن صيدنايا، أو تجنيب المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» من هجمات القوات الحكومية- كانت بقصد تحريض الجهاديين ضد بعضهم البعض. لا توجد لغاية اليوم أدلة قاطعة بأن الجهاديين ككل يخضعون لسيطرة النظام، على الرغم من التصاريح المتكررة لوجوه من المعارضة السورية بأن مثل هذه الأدلة ستظهر في الأيام المقبلة. لا يشك أحد في أن المجموعات الجهادية في سوريا تجلب دعماً خارجياً وشبكات دولية، تتضمن مقاتلين أجانب من جميع أنحاء الشرق الأوسط وحتى أوروبا. غير أن سبب قدرتهم على تجنيدهم وتجنيدهم بسرعة هو أن حكومة الأسد ساعدت على إنشائهم«.

() بيتر نيومان هو أستاذ الدراسات الأمنية في جامعة «كينغ» في لندن. يقود حالياً مشروع أبحاث عن النزاع السوري ومستقبل الحركات الجهادية الدولية.

المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.