تسريبات الجهاديين: حرب الأسرار

قدمت الثورة السورية للتيار الجهادي فرصة تاريخية لإعادة بناء شرعيته الشعبية وتنظيم صفوفه وتجديد دمائه، لكنها وضعته أيضاً في أعمق المآزق التي عصفت به وبلبلت صفوفه من الداخل، وذلك بما وفرته تنظيم دولة العراق والشام من أعداء كثر كانت التيارات الجهادية أولهم، مع ما شكله الاعتراض عليه وإعلان الحرب كما أعلنها من مخاوف على تفكك التيار الجهادي وانقسام صفوفه، ولكن معظم رموز ومنظري الجهاد العالمي انحازوا في النهاية ضد التنظيم بعد أن أصبح الوقوف معه مهدّداً لوجودهم الميداني والرمزي في الحالة السورية، على عكس انحيازهم المعلن في العراق.
على أن الجديد في هذا الصدام ليس حدته الميدانية والجدلية، بقدر ما هو استغلال الأسرار المخابراتية ضمن التيار الجهادي في هذا الصدام، ونشأة صراع وسباق حذر ولكنه يتخلى عن حذره شيئاً فشيئاً في كشف أسرار الآخر، والمفارقة هنا أن جزءاً كبيراً من هذه الأسرار تهدد الخصم أمام أنصاره والتيارات الجهادية عامة (كما حصل مع ما قيل إنه فضح لحساب الجهاد نيوز بالقول إن القائم عليه شاب مصري مدخن مقيم في الكويت)، لكن جزءاً منها يعتمد في تهديده على العدو المشترك المتمثل بالمخابرات العربية والدولية (كما حصل مع تسريب صورة قيل إنها للقائد العام لجبهة النصرة الجولاني).
يعرض المقال لأهم هذه التسريبات المتعلقة بتنظيم الدولة.
قتل الابن العاق
وبعد الصدام المسلح مع تنظيم الدولة بداية هذا العام، شهد الصراع أكثر من طور وصولاً لتحوله إلى حرب وجود جذرية في النهاية، كان أهمها إعلان قتل أمير جبهة النصرة في الرقة (أبو سعد الحضرمي)، ثم مقتل (أبو خالد السوري) بعملية انتحارية والذي رثاه معظم رموز التيار الجهادي بتلميح أو تصريح لمسؤولية تنظيم الدولة عن مقتله –رغم نفي التنظيم لذلك- الرثاء الذي كان أهمه كلمة قائد تنظيم القاعدة أيمن الظواهري التي أثارت زلزالاً بين أنصار التنظيم وصل إلى حد تكفير الظواهري نفسه، وصولاً إلى مواجهات مركدة نهاية آذار الحالي، وما أثارته كل هذه الموجات المتتابعة من هزات عنيفة في الوسط الجهادي تداخلت وتفاعلت فيها الكلمات الصوتية والشهادات والتسريبات.
ويمثل “تويتر” المساحة الافتراضية الرسمية التي تدور فيها صراعات الجهاديين النظرية، آخذاً مكان المنتديات الجهادية التي كانت المنبر الرسمي لعقود، وكانت شهادة الشرعي في جبهة النصرة (أبو عبدالله الشامي) الصوتية على تنظيم الدولة وأسباب الصدام معه، ثم رد الناطق باسم تنظيم الدولة (أبو أسامة العدناني) عليها بالدعوة إلى “المباهلة” فاتحة لعدة قيادين جهاديين أن يدلوا بشهاداتهم عن تنظيم الدولة في سلسلة (شهادات قبيل المباهلة) كان أهمها شهادتا (أبو فراس السوري) الذي تكلم عن تهديد أبي خالد السوري من قبل الدولة وعن رد فعل تنظيم الدولة المفاجئ على وساطتهم لأجل الصلح في بداية الصدام المسلح، و شهادة (أبو سليمان المهاجر) الذي تكلم عن لقائه بالبغدادي ونائبه الأنباري وتهديد البغدادي أمامه بقتل الجولاني وأبي مارية القحطاني، بعد أن أقسم أنه سيستجيب لقرار الظواهري فيما لو قرر عودة التنظيم إلى العراق.
كما كانت شهادات المنشقين عن التنظيم أو الخارجين من سجونه مادة ثرية عنه، وكان من أهمها شهادة (أبو صفية اليمني) و (أبو شعيب المصري)، عدا تدخل منظرين معروفين في الوسط الجهادي مثل (شؤون استراتيجية) و (أسد الجهاد2) في معركة الشهادات وكشف المخبوء.
أما بشأن التسريبات التي تولتها حسابات أنشئت لهذا الغرض، فلعل حساب “ويكليكس دولة البغدادي” كان من أول المحاولات المختصة بكشف الأسرار المتعلقة بتنظيم الدولة، تم الرد على هذه المحاولة بحساب “ويكليكس صيدنايا” والذي يديره على الأرجح (نديم بالوش) الشخصية الجدلية التي سبق اتهامها بالعمالة لمخابرات النظام حين كان سجيناً في صيدنايا وبجرائم قتل بعد الثورة.
وظهرت بعد ذلك عدة حلقات تهدف “كشف حقيقة دولة البغدادي” كما تقول، كان من أهمها ما نشره من يُدعى (أبو أحمد العراقي) حول بنية التنظيم الأمنية، وما نشره من يُدعى (أس الصراع في الشام) حول بنية التنظيم المالية.
وتأخذ معلومات الشهادات أو التسريبات مصداقيتها من متابعة ونشر المنظرين الجهاديين المعروفين لها، ما يعطيها شرعية التداول، وسلطة التأثير وصياغة الواقع الميداني والحقل الجهادي الرمزي، وهذا أحد معاني التاريخ بحد ذاته.
البنية الأمنية: سرداب البعث
تركز التسريبات والشهادات الموجهة ضد تنظيم الدولة، على الاختراق المخابراتي الدولي للتنظيم، لتشويه صورة التيار الجهادي، ولخدمة أهداف مخابراتية، ويتم التركيز على البنية الأمنية للتنظيم ذات الخلفية البعثية الصدّامية، فيما يشبه إعادة إنتاج بعثية للتيار الجهادي بدأت مع تأسيس (دولة العراق الإسلامية) عام 2006م، ولكنها بلغت أوجها مع مقتل أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر عام 2010م وتولي القائد الحالي (أبو بكر البغدادي) لها.
بدأ الاختراق منذ منذ مساعدة النظام السوري على تجنيد ومرور ثم اعتقال الجهاديين الذاهبين إلى العراق، ما أتاح له خزينة معلومات وعملاء ضخمة داخل هذه التيارات، ولكنه أضحى أكثر سهولة مع اغتيال الزرقاوي، وتولي (أبو حمزة المهاجر) زمام الأمور في قاعدة العراق، بايع المهاجر البغدادي الأول كأمير للدولة على مضض من القاعدة، ومع إعلان الدولة وحاجتها للقوة والتمدد دخلت كتائب عديدة فيها ما سمح لشخصيات لها علاقة بالمخابرات العربية أو البعث العراقي بالدخول فيها، زاد من الأمر محاولة الدولة فرض سلطتها ما أدى مع عوامل عديدة إلى ظهور الصحوات، “والصحوات هو اسْم جامع لكل من حاربنا، مسلما كان أو كافرا، مع أننا كنا نُعامِلْهُمْ ككفار فنستبيح دماءهم ومالهم ونقتل من حولهم تترساً ..غفر الله لنا” كما يقول أبو أحمد العراقي صاحب هذه الشهادة.
ساعد على هذه الاختراقات طبيعة التواصل ما بين المجاميع السرية، حيث لا تتواصل القيادات مباشرة، ما يسمح بتغيب البنية الحقيقية عن العناصر أو القيادات غير المطلعين، وما يسمح بالاختراق من قبل المتنفذين، وأدى هذا فيما أدى إلى مقتل البغدادي والمهاجر وعدد من الصف الأول للقيادات معاً، في عملية أمريكية أدت إليها تسريبات من داخل الدولة.
من هو أبو بكر البغدادي وكيف تولى الإمارة؟
ينتمي إبراهيم بن عواد البدري إلى عشيرة البو بدري في سامراء، والتي ليس هناك اتفاق حول انتمائها لأهل البيت، ما يعني أن أبا بكر البغدادي القرشي كما دأبت بيانات الدولة أن تقول، ليس بغدادياً ولا قرشياً.
عند احتلال العراق عام 2003 خرج البغدادي إلى سوريا ليقيم في السيدة زينب حتى عام 2006م، ليعود بعد مقتل الزرقاوي ويعمل ضمن فصيل “أنصار التوحيد” التابع لجيش المجاهدين، والذي كان بايع قسم منه الدولة، وكان البغدادي فيمن بايع، واعتقل بعد فترة وجيزة ليسجن أربع سنوات في سجون الاحتلال الأمريكي، وهناك التقى واحتك بالسجناء الأكثر تشدّداً والذين أثروا في توجهه الفكري، والذين كان بينهم سجناء من ضباط المخابرات العراقية السابقة.
عمل البغدادي بعد الإفراج عنه في مركز بريد للدولة، مهمته استلام وتسليم التقارير والرسائل السرية، في تلك الفترة خرج من السجن العميد الركن محمد الندى الجبوري المعروف بالراعي والذي استلم قيادة أركان الدولة بتكليف المهاجر، وليعين العميد الركن سمير عبد محمد المعروف بـ (حجي بكر) نائباً له، والذي أصبح بعد أشهر قائد أركان الدولة بعد مقتل الراعي.
ويعود مقتل المهاجر وأبي عمر البغدادي، إلى اعتقال أحد مراسلي البريد ممن كان يعرف بيت الشخص الوحيد الذي يعرف مقر إقامتهما، وعدم قبول أبي بكر البغدادي تبليغ هذاالشخص وبقية المراسلين بالحذر و تغيير مقراتهم، ما أدى إلى معرفة المقرات السرية ومقتل عدد من القيادات، كان بينهم أمير الدولة ونائبه، ليكون حجي بكر المتحكم شبه الوحيد.
تعود تولية (أبي بكر البغدادي) إلى حيلة قام بها حجي بكر، بمراسلة القيادات والأمراء كلاً على حدة وإخباره بأن البغدادي شرعي قديم للزرقاوي وأنه قرشي حسيني بغدادي وأن باقي القيادات وافقوا على توليته، ما انتهى بموافقة الأغلبية على تولية البغدادي دون أن يكون من القيادات المعروفة أو ذات التاريخ الجهادي.
بعد تولي البغدادي وحجي بكر للدولة، ازداد عدد من يسلم مناصب قيادية في الدولة ممن يفرج عنهم من الضباط البعثيين، ولا تخلو العلاقة بين هؤلاء البعثيين من تنافس على المناصب القيادية في الدولة، وقد وفر تمدد الدولة إلى سوريا فرصة لتوزيع أوسع لهذه القيادات، بينما كانت ردود الفعل بين الجيل الأول من الجهاديين داخل الدولة تزداد احتقاناً على التغول البعثي داخل الدولة، ولكن طبيعة التواصل السري أتاحت قدراً أكبر من تغطية الشخصيات الحقيقية، و من تنفيذ عمليات اغتيال أو استبعاد دون اطلاع العناصر.
من أهم الضباط البعثيين الذين تولوا مناصب قيادية في الدولة: العميد أبو مهند السويداوي الذي كان القائد العسكري للنتظيم لفترة بديلاً عن حجي بكر، العقيد أبومسلم التركماني وهو المشرف العام على التنظيم ويدير معاركه في العراق، عبدالرحيم التركماني وكان الأمير الفعلي للتنظيم في ديرالزور ولقبه عبدالناصر، علي أسود الجبوري والذي كان يعمل مخبراً لدى المخابرات العراقية والمعروف الآن بـ (أبو أيمن العراقي) والذي كان والي الدولة في الساحل والمتهم بالكثير من جرائم الإعدام الميداني، المقدم أبوعبد الرحمن البيلاوي وهو القائد العسكري للتنظيم، المقدم أبوعمر النعيمي والي الرمادي، المقدم أبو أحمد العلواني والي ديالى، المقدم أبو عقيل موصل والي الموصل، أبوعلي الأنباري النائب الأول للبغدادي ومسؤول اللجنتين الشرعية والأمنية.
البنية المالية: مافيا سوداء
تضيء التسريبات مساحة مهمة عن ميزانية تنظيم الدولة، وطرق تحصيل الأموال التي اتبعتها، حيث كان من المعروف أن التنظيم كان يعتمد في العراق على الإتاوات التي يفرضها على أصحاب المصانع والشركات الكبرى وعلى الشخصيات السياسية والاقتصادية المهمة، مقابل عدم القيام بعمليات انتحارية أو اغتيالات ضدهم.
ولكن سوريا قدمت فرصة اقتصادية استثنائية للتنظيم، بالموارد المتعددة والضخمة الممكنة، ما يفسر تفانيه في حفظ مناطق سيطرته فيها، تقدر إيرادات النتظيم خلال سنة من قيامه بحوالي 700 مليون دولار، اعتمد في تحصيلها على موارد رئيسية تركز معظمها في المنطقة الشرقية، وهي:
1. النفط: استولى التنظيم على عدة حقول للنفط والغاز في الرقة والحسكة وديرالزور، باع كثيراً من إنتاجها للنظام نفسه، عدا عما بيع داخل السوق المحلية أو إلى تركيا، أسوة ببقية تجار النفط في المنطقة الشرقية، عدا عن بيع معدات شركات النفط داخل الشدادي والجفرة وحفارات الألماس.
2. الحبوب والأقطان: استولى التنظيم على صوامع الحبوب في الحسكة، وعلى مبيعات مكتب الخدمات في الهيئة الشرعية بحلب، وعلى مبيعات القطن في ديرالزور التي استولت عليها من جبهة النصرة.
3. المعامل: استولى التنظيم على عدد كبير من المعامل في منطقة الشيخ نجار بحلب، وباعها مفككة للمافيا التركية، عدا عن استثماره في بعضها.
4. الفديات: اعتقل التنظيم عشرات الصحفيين السوريين والأجانب ممن كان حضورهم لافتاً في الثورة السورية، بحجة اعتبارهم جواسيس للمخابرات الأجنبية، ولكن كثيراً ما جرت عمليات إفراج عن هؤلاء الصحفيين الأجانب مقابل فدية مالية، عدا عن الفديات الأصغر التي تؤخذ من السوريين.
5. الذهب: استولى التنظيم على 250 كغ من الذهب في عملية الحمراء شرقي حماة، واستثمرت في التنقيب فيها.
6. الآثار: حيث سرق التنظيم تماثيل أثرية من متحف النبك، وباعها إلى المافيا التركية.
خاتمة
تظهر هذه المعلومات بنية التنظيم الأمنية الحالية، ولكنه يظهر كذلك حجم الاختراق الممكن داخل التيارات الجهادية، والقابلية السهلة لكسب شرعية الحشد والتعبئة فيها، بسبب تنامي النزعات العدمية والتكفيرية، والمعادية للآخر، والأكثر قابلية للإنشاء والتداول بسبب سهولتها وبساطتها ومباشرتها، وعدم حاجتها إلى تأسيس فقهي قوي، أو إلى قدر مقنع من العقلانية والواقعية، ما تشجع عليه ظروف الحرب الطائفية الإقليمية، التي تشجع على تصدر الخطابات الأكثر راديكالية وأقل عقلانية بين العناصر، دون نفي ذكاء القيادات وتخطيطها المدروس، والذي تتداخل فيه الخبرات الميدانية-المخابراتية و الاختراقات الدولية والنزعات العدمية المتطرفة.
كما وفر تمدد التنظيم إلى سوريا نبعاً اقتصاديا ضخماً وخصباً، ما مثل إحياء حقيقياً له عدا عن المساحة الآمنة التي كانت مفقودة في العراق، خاصة مع تجنب الفصائل المختلفة مواجهة التنظيم، ومع استقراره في المدن على عكس الفصائل الأخرى التي تستنزفها الحرب مع النظام، يمكن القول هنا إن سوريا كانت اليوتوبيا التي بحث عنها التنظيم طويلاً.
ومع استمرار الصدام وتحوله إلى حرب وجود من كلا الطرفين، يتوقع استمرار حرب التسريبات، وتأثير الأسرار المخابراتية التي يمتلكها كل طرف عن الآخر على سيرورة الحرب الميدانية بينهما، مع وصول هذا الصدام إلى قلب الشبكات الإعلامية الجهادية التي تعد مستودع معلومات بحد ذاتها، ولا يستبعد إمكانية التسريب السري لمعلومات قد تؤدي إلى اغتيالات تقوم بها المخابرات الدولية لشخصيات قيادية، في حرب يبدو أنها مفتوحة على أقصى الاحتمالات.
زمان الوصل 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.