كورونا والثورة الأمريكيّة




د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

إنّ حادثة قتل شخص على يد الشرطة ليست كافية  لتُحدث كل هذا القدر من الاحتجاج الواسع في مجتمع أدمن العنف، منشغل بقضايا استهلاكيّة ونمط حياة أناني، مبتعد عن المشاعر الحساسة والإنسانيّة كالمجتمع الأمريكي. كورونا والثورة 

فظاهرة العنف المتبادل بين الشرطة والمجرمين في أمريكا ظاهرة شائعة جداً ويوميّة، لكن رغبة الاحتجاج المتراكمة لأسباب أخرى (لم يتبلور وعي شعاراتي لها)  قد وجدت في تلك الحادثة العنصرية سبباً يمكنه دغدغة التراكم التاريخي للصراع الأهلي في أمريكا، وتهييج البشر الراغبين في الاحتجاج على حكوماتهم، بعد تعرّضهم لأوسع عملية احتيال وإفقار واحتجاز من قبل حكومتهم بحجّة كورونا، وهذا ما يفسّر أيضاً سبب امتداداتها العالمية الواسعة. 

فتراكم الغضب الشعبي والرغبة في الاحتجاج كان بسبب الإجراءات الاستثنائيّة الشمولية التي اتخذتها الحكومات بحجّة جائحة كورونا، والتي تعمدت الكذب والتزوير والخداع والتلاعب بمشاعر البشر وتعريضهم للخوف والترهيب، لتبرير سياسات اقتصادية طبقية تخدم المزيد من مركزة رأس المال، عبر إفلاس الطبقات الوسطى والشركات الناشئة، وتبرير سياسات شمولية وصلاحيات استثنائية للحكومات تعود للزمن الإقطاعي، وتتنكّر لجوهر الليبرالية الديموقراطية.

سبق وحذّرنا من التجاوزات الدستوريّة التي تقوم بها الحكومات، والتي تغيّر من وظيفة الدولة وفلسفتها كعقد سياسي قانوني بين بشر أحرار، وتخلّ بالتوازن الدقيق بين الحقوق الفردية وبين وظيفة حفظ السلم الاجتماعي وحماية النظام العام للدولة، فتصرفت السلطات وكأنّها تمتلك المواطن، واتّخذت قرارات التعطيل عن العمل والتسوّق ومنع التجوّل، وفرضت شروط على التنقل واللباس بشكل جماعي على الشعب، من دون إعلان حالة الطوارئ ومن دون تحمل تبعات ذلك، من قبيل التعويض لكل فرد عن خسارته وتأمين كل احتياجاته، فهذا يتجاوز قدرات الدولة بل وظيفتها ، لأنّ الدستور يكفل حقّ المواطن بالعمل والتجوّل والتنقل والتنزّه والتسوّق وزيارة الأهل، كذلك حقّه في رفض العلاج والإجراءات الصحيّة الوقائيّة، وحقّه في الخصوصيّة، كل ذلك انتهك بحجة الصالح العام، مما فتح باباً دستورياً جديداً لوظيفة الدولة يسير بها بعيداً باتجاه الشموليّة، هذا الخلل هو الذي ولد رغبة الاحتجاج الذي اتّخذت طابع العداء للسلطة سياسياً، وحملت أيضا طابعاً طبقياً اقتصادياً بالغ الدلالة عندما اكتشف المواطن أنّه بحجّة كورونا قد أصبح أكثر فقراً وأقلّ حرية، بعد أن تبين حجم المبالغة والكذب الذي مارسته الحكومة ومؤسساتها، (وها هو اليوم، يتمّ التخلّي كلياً عن كل اجراءات العزل والتباعد الاجتماعي، جملة وتفصيلاً، ومن قبل المسؤولين ذاتهم).   

سبق وحذّرنا الحكومات من التجاوز على الحقوق الدستورية للفرد، ومن خطر اندلاع فوضى أمنية قد تكون أخطر بكثير من كورونا بسبب التضييق الاجتماعي والسجن المنزلي والتداعيات الاقتصادية المترتبة على المبالغة غير المبررة بخطورة المرض، ومن اعتماد سياسات تضخمية هائلة ومروّعة، ومن التلاعب بالأرقام والدراسات والإحصائيّات (التي تبيّن اليوم حجم التزييف الذي مورس بسببها وتحت عنوانها) من قبل كل المؤسسات السياسيّة والطبيّة والعلميّة والإعلاميّة التي تناغمت معاً وعالمياً، وترافقت بحظر كل صوت عقلاني سياسي وطبي وعلمي مضاد، واتهامه بتعريض حياة البشر للخطر، وهكذا سرعان ما تراجع سلطان الخوف، وطغى غضب الشعور بالخديعة والغدر والسرقة، وتبيّن حجم الخسائر السياسية والاقتصادية الهائلة التي طالت حياة كل فرد.

قلنا إنّ الخطط المبيتة لإخراج الرأسمالية من أزمتها، التي نجمت عن انسداد باب التوسّع الأفقي، وتراكم التوسّع العامودي إلى درجات خطيرة من الديون والعجز والتضخّم وطغيان الاقتصاد الوهمي، لا يمكن أن تحلّ بالعودة لمفاهيم العصر الإقطاعي الشموليّة، ولا بالنظم الشمولية الشيوعيّة، بل تتطلّب إصلاح بنية النظام الاقتصادي الحر ذاتها، أيّ التخلّي عن المفهوم الرأسمالي للإنتاج القائم على مبدأ الربح وربا رأس المال والذي يشترط التوسع الدائم مالياً واستهلاكياً، لاقتصاد جديد حر هو الآخر لكن يقوم على مبدأ إنتاج الحاجات، فهدف النشاط الاقتصادي لا يجب أن يكون ربح رأس المال، بل إنتاج الحاجات، ودورة الحياة الاقتصادية لا تبدأ برأس المال، وتنتهي بزيادته وتراكمه (ربا)، بل تبدأ بحاجات البشر وتنتهي بتلبيتها، وهذا ليس دعوة للنظام الاشتراكي، الذي ألغى آلية السوق الحرّ والتنافس وديناميكية العرض والطلب، وحول الدولة لمالك منتج احتكاري مقيت وفاشل، بل هو إصلاح لآلية السوق الحر، وتغيّر في مبدأ عمله من الرأسمالية التي تهدف للربح، إلى الحاجات التي تتطلّب الإشباع (أي من اقتصاد ربوي، لاقتصاد إنتاجي) محكوم بقانون السوق الحر، والتنافس المشروع، المشروط بضوابط لضمان أخلاقيات التعامل تحرسها الدولة والقانون (منع الغش والاحتكار والاحتيال والتهرب من الالتزامات العقدية).

الصراع الذي بدأ اليوم في أمريكا، والمرشح للامتداد لكل العالم الرأسمالي، قائم بين احتكارات مالية كبرى تبحث عن طريقة لاستمرارها عبر التحكم الشمولي بالبشر عبر التحكّم بالنظم السياسية التي أصبحت مجرد واجهات لها، وبين شعوب ومنتجين يرفضون الخنوع لوحش الربح الرأسمالي الجشع الذي يخرب البيئة ويستنزف موارد الطبيعة ويرعى نظام استهلاك بذخي نخبوي مجنون يفوق إمكانيات كوكب الأرض، ويستعبد البشر ويثير ويرعى نزاعات عالمية كبرى، ويتجاهل كلياً مسائل أخلاقية معيارية، منها العنصرية والاحتلال والقمع ورعاية نظم الاستبداد والفساد. كورونا والثورة 

إنّ الخواء الأخلاقي للنظام العالمي الجديد المحكوم بالقوة والغطرسة والجشع الرأسمالي، والذي كشفت عورته الحرب في سورية، هو الذي تفجّر اليوم كثورة في عقر دار الدول التي ترعاه، إنّها دماء الأبرياء السوريين (وليست فقط روح جورج فلويد التي زهقت) هي من تغير العالم، بمساعدة وتدليس من فيروس كورونا الذي أرسله الله حكمة منه وتقديراً، ولعنة على الظالمين. 



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.