سوريا الإيرانية: حدود من دم

بين نظام الأسد وإمكانية إستعادة الحكم على سوريا إستحالاتان، باتتا تمثلان حقائق صلبة على أرض الواقع. وشيئا فشيئاً، يجري التكيف مع مقتضيات هذه الحالة، وتنظيم الجهود وبلورة الموارد، خارج نطاق تلك الإستحالتين.

الإستحالة الاولى: تتمثل بعدم القدرة على الضبط الإقليمي للأراضي السورية كاملة، هذا الأمر صار أكبر من قدرة وإمكانيات ما تبقى من قوات لدى نظام بشار الأسد، وهذه الحالة لن تتوفر لسوريا في المدى المنظور، أو أقله طوال فترة بقاء بشار الأسد في السلطة. ذلك أن النظام يعرف تماماً مقدار الاعطال التي اوجدها على طول وعرض الخريطة السورية، وبخاصة لجهة الحدود الخارجية وحالة السيولة التي نتجت عن تلك الاعطال والتي تقصدها النظام، مرة بهدف خلق متاعب للجوار الإقليمي تبعده عن تأييد الثورة السورية، ومرة اخرى بهدف حرف الثورة السورية، عبر إستدخال عناصر خارجية متطرفة، تدخل عبر الحدود الإقليمية لسورية، وتتوطن هناك، بحيث يكون دورها تخريبياً على الثورة ودعائياً للنظام، كما حصل لداعش الآتية من العراق، والمقيمة في المحافظات الشرقية الحدودية.

الإستحالة الثانية: تتمثل بتدمير بنى السيطرة والتحكم التي أسسها نظام الأسدين منذ عام 1970، في أغلب المناطق السورية، مثل قواعد حزب البعث والنقابات التابعة له، وكذا مجموعات المخبرين وفروع الأجهزة الامنية ومعسكرات الجيش. كل هذه البنى كانت تمنحه قدرة هائلة على التغلغل في المجتمع السوري، وإخضاعه بالترهيب والترغيب، وتوريط أفراده بالعمل لصالحه، نتيجة تحكمه بالقطاع العام والموارد الوظيفية في البلد، وقد شكلت هذه البنى أحد الروافد الأساسية التي إستطاع نظام الأسدين من خلالها إدامة حكمه للسوريين عقوداً طويلة. هذه البنى تفككت في مرحلة الثورة، ويستحيل إعادة تشغيلها بالوتيرة السابقة، ومعها يستحيل إستعادة حكم الأسد لسورية بالشكل السابق، أقله في مناطق سورية كثيرة. فمن دون تلك البنى سيحتاج نظام الأسد إلى قوة عسكرية ومخابراتية بديلة. وهذا الأمر لا طاقة لنظام الأسد على توفيره، ولو بعد سنين طويلة.

نظام الأسد بات على علم بهذه الحقيقة، ذلك أنه يدرك أن كثيراً من خياراته السياسية التي تضمنتها إستراتيجيته المواجهة للثورة، سيكون لها بالقطع مثل هذا النمط الإفرازي، فخيار بقائه نظاماً حاكماً في دمشق، وماسكاً قبضته على بعض المدن الرئيسية، لم يكن ممكنا نجاحه لو لم يقابلها خيار الإنسحاب بالمقابل من بعض المناطق الأخرى، كما ان إستراتيجيته في تخريب الثورة دفعته أيضاً إلى إيجاد مساحات من الأرض السورية، تتيح له إبراز حالة الفوضى والخراب للمناطق الخارجة عن سيطرته، والتي يديرها الثوار. وكل هذه الخيارات جرى بناؤها على تقديرات من واقع الحدث وإستشراف مبكر لمآلاته، وحساب الفرص والمخاطر، وكذا حساب الإمكانيات والأثمان المقابلة، ضمن إطار يتعدى قصر المهاجرين، بمعنى انها تقديرات وحسابات مربوطة بإستراتيجية إقليمية تقودها إيران، وينفذها بشار الأسد وحزب الله والحكومة العراقية، بكتائبها العديدة المقاتلة على الأرض السورية.

البديل عن ذلك، يتمثل بإيجاد سوريا مختصرة ومفيدة، تبدو أكثر تماسكاً في خضوعها لنظام الأسد المتفرع عن النظام الإيراني، نوع من دولة وظيفية، مهمتها تحقيق وظائف معينة لصالح قوى خارجية داعمة لنظام بشار الاسد. بالأصل فإن هذا النظام فقد تماما إستقلاليته على مختلف الصعد وتكيفت معظم أجزائه على العمل ضمن منظومة إقليمية أكبر، وقد إنخرطت جميع قطاعاته وبناه ضمن هذا المتغير، وبحكم الضرورة المتمثلة في إبقائه على قيد الحياة وإمكانية ضخ مصادر القوة في شرايين حياته، جرى فتح جميع منظوماته العسكرية والأمنية والإدارية والمالية امام التدخل الإيراني والإنكشاف عليه. بل تذهب التقديرات أبعد من ذلك، بأن إيران أعادت تركيب وهيكلة تلك المنظومات ضمن إطار جديد، بحيث يسهل عليها إدارتها وضبطها، وهو الأمر الذي جعل مراكز القوة في سوريا تصبح تحت السيطرة الإيرانية بالكامل، لدرجة تحكم إيران بقنوات التواصل بين تلك المراكز.

بناءً على هذا التحول الحاصل على الأرض السورية، يجري صناعة جغرافيا مناسبة ومتطابقة مع هذا الواقع، على حيز أرضي يمتد من دمشق إلى الساحل، ومن سلسلة جبال لبنان الشرقية إلى الطريق الواصل بين بغداد ودمشق، وإهمال المناطق الحدودية مع الأردن والجولان في الجنوب، وتركيا في الشمال. الدور الوظيفي لهذه الجغرافيا يتجلى في تأمينها لتواصل جغرافي وديمغرافي للمشروع الإيراني في الشرق الأوسط. ومن أجل ذلك، جرت عمليات إبادة وتطهير قاسية على طول مسار خطوط هذا المشروع، من الرمادي في العراق، إلى القلمون وحوض العاصي، وصولاً إلى صيدا في جنوب لبنان، ذلك المشروع الذي يحول إيران إلى قوة إقليمية عظمى، ولعل هذا ما يفسر حجم الإستثمار الهائل والتكلفة الإيرانية الكبيرة في هذا المشروع، وقدى جرى هندسته فوق بحر الدم السوري وأحيان كثيرة بأدوات سورية!

المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.