يثب

أحلام الخراب (فارس العظمى )

د . كمال اللبواني

{غُلِبَتِ الرُّومُ} – الروم (2)
{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} – الروم (3)
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}
الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

في التاريخ دأبت ايران على محاولة السيطرة على الشرق الأوسط ودخلت في تنافس مع كل الامبراطوريات التي حكمته ، لكنها لم تنجح ولا مرة في فرض سيطرتها عليه ، فقد تستطيع جيوشها أن تصل لأثينا أو الاسكندرية وتحرقها وتنهبها ، لكنها سرعان ما تنكفئ وتخضع هي ذاتها للاحتلال من قبل غيرها، إيران تعيش حالة من التناقض فهي عاجزة عن العيش المستقل من جهة بسبب تنوع مجتمعها وضعف مواردها ، ومن جهة أخرى عاجزة عن السيطرة على جيرانها ، ولم يشهد الشرق الأوسط استقرارا من دون اخضاعها لنظامه الفوق قومي  ، فطبيعة الشرق الأوسط تختلف عن بقية المناطق بكونه متعدد القوميات والديانات ، ولا يصلح فيه سوى النظام الامبراطوري والتعددي ما بعد القومي ، بينما النزعات القومية تدخله في صراعات لا تنتهي، لذلك كان الحلم الفارسي عبر الدوام حلما معاديا لمصالح الآخرين، ومعاديا للاستقرار ، وبالتالي حلما مكسورا يولد تكراره ثقافة الخنوع والندم واللطم والتقية .

اليوم  يسعى النظام الايراني الفاقد للشرعية والمكروه من معظم ابناء شعبه لتصدير أزماته الداخلية، عبر ادعاء أنه يصنع دولة عظمى ويبني القوة الاستراتيجية اللازمة لها، ويعيش أحلاما مزدوجة من الشعور القومي المنتفخ  والمبالغ فيه على الطريقة الأوروبية العنصرية( مع أنه مهزوم  عبر التاريخ ) والذي يتجلى على شكل أحلام احتلال وسيطرة  على الدول الجارة ، معتمدا على وهم اعتبار أن كل شيعي هو ايراني الهوية والمصلحة، بل وهم اعتبار كل الأقليات الدينية حلفاء طبيعيين له في مواجهة السنة والعروبة العدو الراهن له ، و يعيش أيضا حلم ديني طائفي في النصر والتفوق وإذلال الخصم ( لأنه المقهور والمضطهد عبر التاريخ ) والذي يتجلى على شكل طقوس ندب وبكائية متكررة ولطم وندم تولد بدورها ارتكاب الفظائع بحق من يقع تحت سيطرتهم .. كثقافة تعويض عن شعور بالقهر والهزيمة ، تكوّن وتعبّر عن هوية ووعي أمة افتراضية تخلط بين بين مفاهيم :العرق  والمذهب والشعب ، لأن الشعب الإيراني شعب متعدد القوميات والهويات والطوائف وغير مهتم كثيرا بجذوره التاريخية ، بل يستهلكها في ميدان المصالح والصفقات فهو شعب تبادلي وتجاري بامتياز ، ومشهور بقدرته على تطويع  المبادئ والثوابت لصالح المنافع، كما أن التشيع فرقا ومذاهب ومرجعيات مختلفة وقوميات عديدة وغير متصلة جغرافيا وليست ايرانية في أصلها ومرجعياتها  ..

لم يبق أمام النظام الايراني المفلس والعاجز حتى عن الوصول لمستوى مرحلة الشاه،  سوى تحقيق النصر المعنوي والرمزي ، الذي يحاول بيعه للشعب الايراني، مقابل توريطه في حروب خارجية مستمرة ، بعد أن سرقت ثورته ضد استبداد الشاه على يد الملالي الذين قادوه  نحو الأحلام وليس الواقع …  ودفع هذا الشعب منذ ذلك الوقت باهظ الأثمان لتحقيق حلم رمزي بالانتصار  والسيطرة على الغير ( هو في الواقع خسارة واستنزاف دائم وتجارة سياسية خاسرة تكرس عجزه التاريخي وتعيده) ، و تخدم بالنتيجة الاستبداد الديني و تبعيته وخضوعه للفقيه والإمام والمرجعية الدينية الكهنوتية ، على حساب تعطيل حرية الفرد وحرية العامة  ومسؤوليتها الدينية والأخلاقية والسياسية، المصادرة لصالح نخبة مغلقة  تستبد باسم الدين والاسلام والدولة الاسلامية ومحاربة الشر وولاية الفقيه المعصوم الواجب الاتباع والتقليد ، مجددة أشكال الاستبداد الديني الاقطاعي العبودي البائد أيام سلطنات وممالك القوة والعصبية.

عندما دخل الاسكندر ايران أحدث فيها تطورا حضاريا هائلا ( الهلنستية ) ، بينما عندما دخلت جيوش الفرس أثينا أحرقتها ودمرتها ونهبتها ، وعندما دخلها الاسلام تفككت الدولة الظالمة العبودية أمامه نهائيا ، وصبغها الاسلام بصبغته واستقر فيها بحضارته وعقيدته وليس بسفك الدماء ولا تغيير الهوية . وعندما هاجمه جحافل المغول والتتار عادوا ادراجهم يحملون عقيدة الاسلام ، فالحضارة لا تهزم ولا تقاوم ..

ولكن ايران اليوم (التي تدعي نصرة آل البيت العرب والتشيع لهم) تحاول أن تسيطر عليهم باسم هذا الشعار وتتبنى من أجل حلمها بالسيطرة ذات الأساليب الفارسية الهمجية القديمة . ولا تحمل في مسعى سيطرتها أي مشروع فوق قومي ولا حضاري ولا ديني ولا أخلاقي … بل فقط تعمل على تجديد وتأجيج الصراعات الرمزية التاريخية، و على استعادة أقبح صور التاريخ وافظع مجازره وتكرارها بشكل انتقامي بشع ومذهبي مجنون على طريقة المغول والتتار والبرابرة .  وتشجع وترعى كل التنظيمات الارهابية المنفلتة المتطرفة في كلا الجانبين السني والشيعي، لأن مشروع الارهاب هو مشروعها الذي يخدمها بكلا وجهيه السني والشيعي ..

إذا كان الجهاد السني ارهابي بنظرها ونظر العالم فهل الجهاد الشيعي ليس ارهابيا ؟ ، وهل المسافة بعيدة بين متطرفي السنة ومتطرفي الشيعة ؟ ألم يتعاونوا سابقا في أكثر من مكان ، وما الفارق بين حكم الامام الشيعي والإمام السني في نظامهما الاسلامي المستبد الذي يقدس الفرد ، والذي يوظف الدين في القمع السياسي والغاء الحريات باسم الشريعة ، هل يتوقع معارضو التعصب السني من الأقليات المختلفة أن يكون التعصب الشيعي ليس مشابها ، وهل يتوقعون الحفاظ على خصوصياتهم وحرياتهم بانتصار النموذج الايراني المتطرف ؟.

تتوهم ايران أنها في عصر الهيمنة الاستعمارية بعد أن تخلى عن الاستعمار أهله طوعا ومنذ منتصف القرن الماضي ، أو أنها في عصر العصبية القومية التي تسببت في حربين عالميتين ، فتجاوزتها الحضارة والحدود المفتوحة ودخلنا مرحلة ما بعد القوميات ، وتحاول أن تبني الدولة المذهبية بولاية الإمام والفقيه بينما نحن في مرحلة الديمقراطية التمثيلية التي تجسد سلطة الدولة مستقلة عن سلطة الدين والضمير والقناعة   ..   ايران تسعى لامتلاك السلاح الاستراتيجي لتفرض ترهيبها على الآخرين وتبتز العالم ، وهي سوف تستعمله ضد شعبها كما فعل نظام آلا الأسد في سوريا .. وحيث وجدت ايران و إلى حيث امتدت أذرعها اضطرب الاستقرار ونشأت الحروب والصراعات ..  ايران تسير عكس التاريخ وعكس الحضارة والقيم ، ويدفع الشعب الايراني ثمن هذه السياسات من اقتصاده ومن ابنائه وفوق ذلك استبدادا وقهرا داخليا .. وتدفع الشعوب الأخرى الكثير الكثير من جراء السياسات التخريبية للنظام الايراني في المنطقة .

تتوهم ايران أنها إذا سيطرت على عصابة أو أقلية في دولة ما أنها قد سيطرت على كل الدولة  والشعب .. وتتوهم أنها تستطيع الانتصار على الشعوب وقهرها بدعم نظام مستبد ثار عليه شعبه فقتل منه ما قتل ، وتستطيع بالترغيب والترهيب نشر مذهبها المبرمج لنشر الخنوع ومسح الدماغ واعدام العقل وتسويد الخرافة . وتتوهم أنها تستطيع أن تستبدل شعوب وسكان مدن باستقدام عشرات  ألوف  الزعران الفاشلين في أوطانهم ممن لا يعرفون ايمانا ولا فكرا .. نعم هذا ما تتوهمه ايران وترضي به عقدها و خسارتها التاريخية المستمرة على كل صعيد . وأهمها خسارتها على الصعيد الخلقي والحضاري فلم تكن ايران بهويتها هذه سيدة الحضارة ولا مرة ولم تقدم للتاريخ سوى الصراعات ولشعبها سوى العبودية للاستبداد أو للأجنبي ، ولم يبدع الشعب الايراني إلا في سياق حضاري خارجي عنه .. فهل ايران تتوهم أنها ستحكم بلاد الشام بزعران العراق وايران ولبنان و شبيحة سوريا ..  وأنها ستسيطر على جزيرة العرب بواسطتهم وبالتعاون مع المعتوهين والمدمنين ..  وهي التي فشل فيها جميع الغزاة منذ أيام قورش وذي قار ..  التاريخ يقول أن ايران قد تستغل ثقوبا في التاريخ لترسل جيوشها بعيدا عنها ، لكنها لا تستطيع حماية دولتها ولا استقلالها أغلب الوقت .. إنها أحلام الفقراء والعاجزين الذين يستفزون الآخرين ليتلذذوا بعد ذلك بالعذاب على أيديهم، وعندما يسيرون وراء أحلامهم المنكسرة يجددوا لأنفسهم ذكريات الهزيمة التي تؤسس ثقافتهم وتعطيها خصوصيتها .. ثقافة التورط والخسارة وبعد ذلك الندم واللطم ..

فارس العظمى ليست سوى بكائية كارثية ، على حلم مهزوم ، لأنه مشروع همجي عنصري طائفي فاقد للحضارة والانسانية، أساسه النفاق والخديعة والتقية وإخفاء الحقيقة، والتنكر للحق. كيف يمكن لمن يظهر غير ما يبطن أن يبني مع الآخرين جسور الثقة ؟  إيران تعيش أوهام النصر والسيطرة الاجرامية في العراق ولبنان وسوريا ، لكنها بفعلتها تلك تستقدم الدمار لدولتها بعد أن أمعنت في تدمير غيرها  ومحيطها وتظنها نصرا . لكنها عين الهزيمة والخراب . وهكذا كان عبر التاريخ ، وهكذا سيكون إنشاء الله .

{غُلِبَتِ الرُّومُ} – الروم (2)
{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} – الروم (3)
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.