الحوار الروسي – السعودي مقابل التقارب الأميركي – الإيراني

سبحان الذي يغير ولا يتغير خاصة في الشرق الأوسط منطقة الغرائب والعجائب، ومسرح الصراعات في الحرب الباردة، كما في مرحلة «الفوضى الاستراتيجية» الراهنة.

«الشيطان الأكبر» الولايات المتحدة الأميركية (حسب أدبيات ثورة الخميني)، وزعيمة محور الشر إيران (حسب إدارة بوش الابن) تتقاربان بعد مسلسل طويل ترك بصماته على الخليج وما يتعداه، وفي المقابل يتكثف الحوار بين موسكو والرياض بعدما كانت القطيعة طويلة بين «رمز الإلحاد الشيوعي» سابقا و«بلاد موئل الإسلام».

نحن إذن أمام مشهد إقليمي متغيّر يحمل في طياته الألغاز والمفاجآت، علماً أنه مهما كان زخم التبادل الروسي- السعودي، فإنه لن يرقى إلى مصاف التداعيات المحتملة لشراكة عمل أميركية- إيرانية، وما سيترتب عليها من خلط للأوراق وإعادة لنسج التحالفات.

يعدّ الاتحاد السوفياتي السابق أول دولة في العالم اعترفت باستقلال المملكة العربية السعودية في فبراير 1926 حينما كانت تسمى «مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها»، وأقامت معها علاقات دبلوماسية. وكان ذلك قبل اتفاقية كوينسي (فبراير 1945) بين الرئيس تيودور روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود، التي أرست علاقة خاصة بين البلدين.

وقبل دخول شبه الجزيرة العربية عصر الطاقة، سجّل التاريخ أن أول حمولة نفط نُقلت إلى السعودية جاءت من الاتحاد السوفياتي، وكانت محملة بالكيروسين. وكان ذلك قبل زمن آرامكو وتحول السعودية إلى صاحبة القرار القيادي في سوق الطاقة، في ما يتلاءم غالبا مع المصالح الأميركية.

بالطبع لا يمكن أن تتمّ المقارنة بين “علاقة الأمن والطاقة” الأميركية- السعودية، والعلاقة المتقطعة بين موسكو والرياض، إذ لم تصمد في المرحلة الأولى إلا تسعة أعوام بين 1926 و1935 وتخللتها زيارة الأمير الشاب فيصل بن عبدالعزيز، وزير الخارجية حينها، إلى روسيا في عام 1932. نتيجة الشروط القاسية حول منح قرض روسي إلى المملكة، ونتيجة الخلاف حول الأوقاف والحجيج، وعلى خلفية تناقض النظرة حيال الدين بين البلاشفة الروس والقيادة السعودية، حصلت القطيعة ولم تنته عمليا إلا مع سقوط الاتحاد السوفياتي.

إبان كل ذلك الوقت كانت الرياض إلى جانب واشنطن في الحرب الباردة، وخاصة في أفغانستان التي كانت «فيتنام موسكو»، وإشارة بدء تداعي الإمبراطورية الحمراء. وكانت حرب الشيشان عاملاً آخر للتباعد بين المملكة العربية السعودية وجمهورية روسيا الاتحادية.

بيد أن وقفة موسكو إلى جانب التحالف الدولي لتحرير الكويت كانت بداية التطبيع، وبعدها كانت الحرب الأميركية على العراق في عام 2003 المفتاح لإعادة الوصل السعودي- الروسي، ومن باب المصادفة يبدو أن أحداث العراق الأخيرة شكّلت أيضا المناسبة لإعادة ترتيب العلاقة التي عصفت بها الأزمة السورية منذ 2011.

ويبدو أن يفغيني بريماكوف المستشرق ووزير الخارجية الأسبق (1996 – 1999) صاحب الدراسة المعنونة «دول الجزيرة العربية والاستعمار» عام 1956، كان أبرز دعاة تعزيز الصلة الروسية- السعودية، ومن الجانب السعودي اقتنع خادم الحرمين الشريفين بهذا التوجه، إذ شهد العام 2003 زيارة أعلى مسؤول سعودي إلى موسكو ممثلا في شخص الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي حينها، وتلتها في 2007 زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى المملكة.

وهذا يقودنا للتأكيد على أنّ هذه العلاقة لم تكن يوما تاريخية وراسخة، بل اتجهت لتكون براغماتية قائمة على تبادل مصالح محددة في ميدان الاستثمار وسوق النفط والغاز، والأهم كان الدور السعودي في حل قضية الشيشان وإرساء تفاهمات لمكافحة الإرهاب. ولكن الرياض لم تنظر يوما إلى موسكو كبديل عن واشنطن، بل كانت تعتبرها إحدى ركائز تنويع العلاقات.

بيد أن تفاقم الأزمة السورية أعاد عقارب الساعة إلى الوراء. لكن تردد إدارة باراك أوباما دفع بالرياض من جديد إلى التفتيش عن تفاهم مع موسكو حول الملف، عوض استمرار الحرب التدميرية.

وتم تكليف الأمير بندر بن سلطان بالمهمة، وهو من لعب الأدوار البارزة والصعبة عندما كان سفير السعوديّة السابق في واشنطن وأول من أبرم صفقة شراء صواريخ من الصين. واتضح أن التناقض عميق بين الطرفين، رغم سعي الرياض إلى إغراء موسكو بعلاقة استراتيجية مع مصر (معطوفة على صفقة أسلحة بأكثر من أربعة مليارات دولار) مقابل الاندفاع الأميركي لمغازلة طهران.

اعتقد الكثيرون أن صفحة المحاولة السعودية طويت، وأن القيصر الجديد لا يأبه لترتيبات جديدة. لكن تداعيات الأزمة الأوكرانية، واقتراب عقد الصفقة الأميركية-الإيرانية، دفع بالطرفين لاستئناف الحوار من خلال زيارة الأمير سعود الفيصل إلى سوتشي ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين في بدايات يونيو الفائت، ومن خلال زيارة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف إلى جدة، الأسبوع الماضي، واجتماعه بولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبدالعزيز.

وهذا الحوار المكثّف على وقع الاشتباك الإقليمي في العراق وسوريا، والمخاطر حول أمن الخليج، يبدو أنه في الطريق الصحيح إن من ناحية إيجاد حل سياسي في سوريا ورفض أفكار التقسيم، أو بالنسبة للتعاون في سوق الطاقة.

لم تتسرب الكثير من التفاصيل عن الأفكار المتبادلة، لكن السيناريو الذي جرى تطبيقه في اليمن تسعى الرياض لإقناع موسكو بشبيه له في سوريا.

والأهم بين الطرفين إيجاد قواسم مشتركة حول سوق الطاقة، إذ في مقابل قيادة السعودية لمنظمة أوبك، تعتبر روسيا ثاني دولة منتجة للنفط، وأول منتج للغاز ولذا يعتبر التنسيق بين الطرفين ضروريا لضبط معدلات الأسعار.

منذ شهر ونيف كشفت صحيفة «برافدا الروسية» أن الرئيس الأميركي بارك أوباما طلب من ملك السعودية تدمير الاقتصاد الروسي عبر «تخفيض أسعار النفط مما يؤدي إلى تكبد روسيا خسائر مالية تقدر بـ «40 مليار دولار»، حسبما ذكر الخبراء الروس. حسب الرواية الروسية لم توافق السعودية على هذا الإجراء، بعد أن أصبحت سياستها مستقلة إلى حد ما عن واشنطن، لكن السبب الفعلي ربما يكمن في التقارب الأميركي- الإيراني الذي تعتبره الرياض مسّا بالتوازن الإستراتيجي، ونكث أميركي بالعهود.

إنها الواقعية السياسية في تبدل التحالفات والصداقات، في وقت تهتم فيه الرياض بمنطقة شرق آسيا حيث تصدر نصف إنتاجها النفطي في منطقة تتمتع فيها موسكو بنفوذ كبير، كما تهتم فيه موسكو بأخذ حصة كبيرة من تركة واشنطن في الخليج والشرق الأوسط.

أستاذ العلوم السياسية – د. خطار أبودياب 

المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.