مملكة إسرائيل ومملكة الأسد في مواجهة عالميهما الثالثين

يتعذر على السوريين أكثر من غيرهم أودون غيرهم تجنب المقارنة بين الحرب الإسرائيلية على غزة و40 شهرا من الحرب الأسدية في سوريا.
أول ما يجمع إسرائيل ونظام الأسديين هو التفوق المطلق في سلاح الجو. كانت إسرائيل متفوقة دوما في هذا المجال على الدول العربية. ومنذ انتهت حروب الدول ضدها قبل أكثر من ثلاثين عاما، دانت لها سيادة جوية تامة. فإذا كانت مساحة إسرائيل الأرضية أقل من مساحة فلسطين التاريخية، فمساحتها الجوية تعادل مساحة العالم العربي كله، ومعلوم أن طيرانها الحربي ضرب ما بين بغداد وتونس في عقود سابقة. بالمقابل، حتى حين كان يقال إن ثائرين سوريين يسيطرون على نحو ثلثي مساحة البلاد، كان النظام يسيطر على كامل مساحة البلد الجوية، ويحقق تفوقا حاسما في هذا المجال.
في امتلاك السماء ما يتجاوز ميزة حربية تكتيكية مهمة، إلى حيازة القدرة على القتل المتعالي، القتل المجرد من أعلى ومن بعيد. ربما يمكن قتل أعداد أكبر بصواريخ بعيدة المدى أو بسلاح كيماوي، على ما فعل النظام الأسدي، لكن القصف بالطيران الحربي، حيث العلو والسرعة والبعد، يحمل علامة هيمنة وتفوق مالكي هذا السلاح على أعدائهم، وانكشاف الأخيرين وشللهم أمام الموت القادم من السماء. قد يمكن للطرف الأضعف ان يملك أسلحة فردية، وربما مدافع ودبابات، لكن لم يعرف عن حركة مقاومة أو ثورة أن امتكلت سلاح طيران. الطيران الحربي سلاح الدول، تقتل من تستعمرهم، سواء كان الاستعمار داخليا أم خارجيا.
الطيران الحربي سلاح قتل طبقي لا يتقدم عليه في ذلك غير السلاح النووي. وهو يحيل إلى ما يتجاوز السلاح وموازين القوى العسكرية من موازين قوى اجتماعية وسياسية. فما يجمع إسرائيل حيال الفلسطينيين والنظام الأسدي حيال عموم السوريين، بمن فيهم موالون له، هو هذا الانفصال بين عالمين. إسرائيل هي العالم الأول القوي والمحصن في مواجهة العالم الثالث الفلسطيني الذي لا تكف عن إبادته سياسيا، وتبيده فيزيائيا حين يتجاسر على مواجهتها، على ما يحصل اليوم. ويشكل النظام الأسدي العالم الأول الداخلي في سوريا، ويحمي عالم السوريين البيض في مواجهة السوريين السود والعالم الثالث الداخلي.
ولعل في هذا التماثل البنيوي ما يفسر الموقف المتجاذب لقوى العالم الأول الحقيقية حيال النظام الأسدي، فهم يشمئزون من وحشيته، لكنهم قليلو التعاطف مع العالم الثالث الداخلي الذي يطاله التدمير والموت على يديه. لديهم عوالمهم الثالثة الخاصة (مهاجرون، لاجئون) التي يحاذرون منها، يزيدهم حذرا أن من ثالثييهم من ينضم إلى ثالثيي السوريين ضد العالم الأول المحلي والدولي.
لكن هذا لا يعني بحال أنهم يعتبرون النظام الأسدي من العالم الأول، إنه أول على برابرته المحليين، يُحتقر، لكنه مفيد. نسبة طيران إسرائيل الأمريكي إلى طيران النظام السوري مثل نسبة هذا الطيران الأخير إلى الأحياء السورية التي يقصفها. الواقع أن أسلحة النظام الأسدي كلها لا تصلح لغير مواجهة قوى أضعف منه بكثير من سوريين وفلسطينيين ولبنانيين. السلاح لم يستورد منذ أربعين عاما لغاية وطنية عامة.
وبالطبع لا تتساوى قيمة الحياة بين العالمين. حياة الفلسطيني لا يمكن أن تعادل حياة يهودي إسرائيلي، وحياة عموم السوريين لا يمكن أن تقارن بحياة الأسديين. قبل 34 عاما من اليوم قتل رفعت الأسد بين 500 و1000 من السجناء الإسلاميين بعد محاولة فاشلة لاغتيال أخيه حافظ. ومقابل مئات من طرف النظام سقط في الحرب الأسدية الأولى (1979-1982) عشرات الألوف. اليوم، في الحرب الأسدية الثانية، انكسر احتكار السلاح، وخسر النظام أكثر، لكن إن دانت له السيطرة فسيقتل أضعاف ما قتل حتى اليوم، كي يعيد رفع الحاجز العنصري بين السادة والعبيد. لكن بينما كان الحاجز في سنوات الحرب الأسدية الأولى أمنيا: «جدار الخوف»، نرجح له أن يرتفع هذه المرة ليكن جدار فصل عنصري بين عالمين. فإن فاز النظام بمحصلة الحرب الأسدية الثانية، ربما نرى استيلاء أوسع بما لا يقاس على الأملاك والأراضي والموارد الخاصة، يضاف إلى الاستئثار بالموارد العامة. مخططات «إعادة الإعمار» ربما تكون فرصة لإرساء نظام فصل عنصري، يعزل الأفقر بين السكان في مناطق مكشوفة ومراقبة. نريد أن النظام الأسدي، إن فاز بالجولة الراهنة، سيتطور باتجاه إسرائيلي.
وتنال إسرائيل حماية دبلوماسية وعسكرية من الولايات التحدة، القوى الغربية عموما، نال ما يشبهها النظام الأسدي أثناء الثورة من روسيا والصين، اللتين مارستا حق النقض لمصلحته 4 مرات خلال 3 أعوام. ليست العلاقة الغربية الإسرائيلية مثل العلاقة الروسية الأسدية. محرك الأخيرة يتصل بالسلطة ونظام السيطرة الإقليمي والدولي، فيما للعلاقة الغربية الإسرائيلية بعد ثقافي وتاريخي أعمق. لكن علاقة الحكومة الروسي بعموم السوريين لا تغاير في شيء علاقة الإدارة الأمريكية بعموم الفلسطينيين: «آخرون»، لا قيمة لحياتهم.
في المحصلة يبدو لنا أن النظام الأسدي اليوم أشبه بنيويا بإسرائيل، وقبلها بنظام جنوب أفريقيا العنصري، مما هو بنظام استبدادي عادي. إنه من نوع الأنظمة الطبقية العنصرية التي ترفع الفرق بينها وبين محكيومها إلى مرتبة الفرق بين عنصرين أو مرتبتين من مراتب القيمة البشرية.
على أن هناك فرقا بين موقع القضيتين الفلسطينية والسورية في عالم الكفاح التحرري العالمي. عبر تاريخ من الصراع عمره يقارب 7 عقود، استطاع الفلسطينيون صنع قضيتهم وجعلها قضية عالمية، وهذا حتى في بلدان الغرب. هناك ضرب من الهيمنة الفرعية للقضية الفلسطينية في أوساط يسارية وليبرالية عالمية، ليست بقوة ما تناله إسرائيل من ولاء وانحياز سياسي وأساسي، لكنها قوية بقدر معقول. إسرائيل في عين أوساط واسعة في الغربذاته قوة استعمارية معتدية، واحتلالها هو مصدر العنف المستمر في فلسطين/ إسرائيل.
الأمر بعيد بخصوص السوريين. نحن نبدأ بالكاد من حيث بدأ الفلسطينيون، وليس من حيث انتهوا. سلتزم جهود كبيرة من أجل صنع قضية سورية عادلة تنال تعاطفا قويا في العالم. وبخاصة توضيح طبيعة الصراع السوري والنظام السوري. فإذا كانت الحرب الأسدية الأولى أسست للنقلة نحو نظام ملوكي استعبادي، فإن الحرب الأسدية الثانية ستؤسس لنقلة أكبر نحو نظام عنصري أكثر إجراما.
في مواجهة هذا التطور المرجح، يلزم التفكير في قضيتنا والعمل من أجلها بمنطق إنساني وتحرري عام، لا بمنطق ديني أو منطق طائفي. في الخبرة الفلسطينية غير قليل مما يسعفنا في هذا المجال.

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.