يثب

قطار السلطة

عادة ما يجمع الناس ليس المصالح والمنافع الخاصة المتنافسة والمتناقضة، بل طريقة تحقيقها ونظام اجتماعهم الذي يرتقي ليصبح نظاما سياسيا.. ولكل إنسان أن يطمح في زيادة حصته من الثروة والسلطة داخل مجتمعه، لكن هذا الطموح مشروط بالنظام الذي يحكم آلية الصعود في هرمه، فإذا كنت في نظام حافظ الأسد مثلا فالطريق الوحيدة لكي تزداد غنى هي أن تعمل بالأسود (مضاربة غش احتيال تهريب وساطة رشوة اختلاس صرف نفوذ…) فكل ذلك مشروع ومباح ومحروس من قبل النظام وأجهزته، كأجر مغرٍ للموالين له الذين يتحولون بذلك إلى شبيحة، أخص بالذكر هنا كمثال مهنة الدعارة التي حظيت بالاهتمام الأكبر في زمن الأب والابن ومخابراتهم، خاصة السياسية والعسكرية التي كانت تتقاسم الإشراف على هذه الثروة الوطنية السياحية (أقصد عشرات آلاف الداعرات وبيوتاتهم في مدينة دمشق وحدها)، واللاتي يشكلن اليوم جيشا من المنحبكجية، لأن حبهن للقائد الرمز مرتبط ليس بمتعتهن به كبطة، بل بأجرهن نحلة …ولا ننسى الفساد والرشوة والاختلاس الذي عم وطغى حتى صار هو النظام الفعلي، وهو مصدر الدخل الأساسي بالمقارنة مع الراتب الذي لا يكفي ثمن سجائر.
أما الارتفاع في سلّم سلطة حافظ وبشار فهذا يتطلب المشاركة في حلقات الرقص والدبكة في الاحتفالات والبيعات والمسيرات والمضافات، ثم الارتقاء في سلّم الاستزلام والتجسس والتآمر وخيانة الأصدقاء وكتابة التقارير والوشاية بهم، ثم الاشتراك مع عصابات النهب والتشبيح والتورط معهم في الجرائم لضمان الولاء غير القابل للعكس، وبعدها قد تتحقق شروط العضوية في جوقة تمسيح الجوخ والتبجيل وتأليه الفرد الصمد القائد الأبد الوالد وما ولد، على حساب كل كرامة وشرف وعقيدة، لتحصيل الثروة والسطوة والشرك في الله وعبادة الطاغوت بأوضح صورها.. والعياذ بالله.
هكذا كان البعض يسرعون لركوب قطار السلطة والثروة الأسدي هذا، ويتقدمون محطة محطة في طريقهم نحو المجد الأجوف، بينما يتدعّم النظام بروافده الكثيرة وبطوابير المنتظرين الطويلة على أبواب فروعه وقصوره… وهكذا كان النظام على الدوام يرفع السافلين والحثالة من بين الناس، ويخفض من بينهم صاحب الشرف والكرامة والإخلاص والذوق، ويعمم الفساد والوضاعة القيمية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، ويهدم مجتمع التواصي بالحق والأمر بالمعروف والتراحم، ويبني لنفسه فوق ذلك مملكة الخوف والخسة والغدر، التي اهتزت بعنف مع بداية الثورة الشعبية العفوية على نظام الأب والابن والمخابرات ومن معهم من شبيحة ومأجورين الذين استمروا مخلصين لأسيادهم وأولياء نعمتهم، بعد أن أشركوهم في الجريمة والكفر والمتعة معهم في إدارة دولة الزوال والخراب الذي سيعم الجميع بشكل لا مفر منه.
مع اندلاع الثورة التي كانت لا بد آتية، ومع بداية تحرير المناطق نشأت الحاجة لإدارة وسلطة جديدة لملء الفراغ، وككل سلطة كما أسلفنا لها نظامها وشروطها وقطارها، وسرعان ما بدأت بالتكون ملامح السلطات الديمقراطية الثورية الأولى التي تشكلت من توافقات أو انتخابات سطحية وسريعة، لكنها انهارت تباعا لعدم توفر مقومات بقائها واستدامتها كسلطة، وهي السلم والحماية، ومن ثم وجود المؤسسة الأمنية القضائية الفعالة التي تطبق القانون وتحمي حقوق الناس والدولة، ومعها أيضا وجود الاقتصاد القادر، أو توفر التمويل الكافي لإدامتها كمؤسسة، و الكفاءة الخدمية والادارية اللازمة لنجاحها… خاصة مع تدمير البنية التحتية و تهجير أغلب السكان بسبب استمرار حالة الحرب والدمار، وبدل إدامة هذه السلطات الوليدة الناشئة ورعايتها وتطويرها ذهبت السلطة والولاء الشكلي لوكلاء بوابات التمويل الذين توزعوا حول مصادر الدعم المالي الخارجي، وبدل أن تضع الثورة ومؤسساتها يدها على هذه المصادر وعلى موارد الدولة المتبقية، اختطف السلطة وكلاء هذه المصادر ومرتزقتهم من المتسلقين والتافهين والنصابين والمحتالين من سقط الناشطين وأصحاب السوابق، ووضعوا أيديهم على قرار أغلب القوى العسكرية وعلى المجالس المحلية وموارد الدولة والمواطنين، وعاثوا فسادا وتخريبا، وبنوا إماراتهم التي لا تختلف عن مزارع المرجوم وولده المأفون وأتباعهما، ونشبت صراعات وتنافسات فيما بينهم فاقت صراعهم مع النظام وشوهت العمل الثوري وروح الجماعة وشتت قوى الثورة وبددت فعاليتها … نعم ما شهدناه من دويلات وإمارات وزعامات مصطنعة تؤكد أن صورة أخرى من نظام الفساد والافساد والتخريب والتشبيح والإجرام قد ترعرعت بعد الثورة في الداخل، وأكثر منه في الخارج حيث عملت مؤسسات المعارضة الخارجية بطريقة منحطة قيميا ومؤسسيا، حتى عن مستوى نظام البعث الآبق، فدرجة الفوضى والتناحر وانعدام المؤسساتية أكبر، ومستوى الفساد أعلى وأخطر، والانحطاط الخلقي عن أفرادها أشد وأدهى، لأنها تحمل وتطبق ثقافة فساد (متحررة من سطوة الديكتاتور الذي لا يملك سوى الجزرة في الخارج، ولا يملك في المنفى العصا للهش بها على غنمه).
أصبح ركوب قطار السلطة والثروة (المعارض) يتطلب هو الآخر التذلل والاستزلام لمصادر التمويل البدوية النفطية المعروفة، والتي لا أحمّلها المسؤولية وحدها لأنها مارست طبيعتها وتكوينها ربما عن حسن نية، بينما مارس وكلاؤها السوريون ثقافتهم المستمدة من (سلطة المزارع والاستزلام)، وكل أنواع الغطرسة والإذلال على أتباعهم من حملة المناشف وطلاب السلطة من حثالة أصحاب البزنس والسياسة، ومن وجيعان المال والشهرة حتى لو كانت من حرام أو على خازوق. وكل ذلك مغطى ومشرعن بدماء الشهداء وبتضحيات شعب عظيم.
لم يعنِ ركوب قطار سلطة المعارضة أي معنى من معاني الثورة وقيمها ومبرراتها، لا التضحية ولا التقشف ولا الموقف الثابت ولا العطاء ولا النزاهة ولا الاستقلال ولا بناء المؤسسة ولا احترام الصالح العام، بل كان خسة ونفاقا واستزلاما لأشخاص تافهين هزيلين متسلقين احتكروا بوابات التمويل ثم أطاعوا من بعدها كل سفير وأمير … وانتهى بهم ذلك للإخلاف بكل تعهداتهم وبثوابت الثورة والوطن… وسط ترحيب المجتمع الدولي بوجود (أجراء جدد مطواعين) يمثلون سوريا ويبيعونها بشجاعة تعبر عن مقدار قلة ضميرهم ووطنيتهم .. بل إن رموز سوريا ورجالها المفترضين قد سقطوا أخلاقيا وسلوكيا عندما ركبوا قطار هذه السلطة، ونافسوا نظام الأسد خيانة وتذللا وفسادا ووضاعة وخسة .. أستغفر الله.
وبالفعل تمايز لدى المجتمع حالة رفض لكلا الحالتين المتشابهتين، كوجهين لعملة واحدة، وظن المجتمع أن السبب هو في علمانية الدولة الحديثة المفتقدة للقيم، كونها أيديولوجيا جامعة بينهما، لذلك فكر سواد المجتمع بعدم ركوب قطار الدولة المدنية العلمانية الفاسقة المنقطعة عن القيم، كما خبروها في كلا الحالتين: كدولة فساد و استزلام وخيانة واجرام، وفضلوا بدلا عنها ركوب قطار الدولة الإسلامية التي تكرس قيم الإسلام، بما يحمله من صور مثالية عن النزاهة والعصمة والشرف والحق والعدل، و بما يقدمه التاريخ من صور عن الصحابة رضوان الله عليهم…
وهكذا زادت شعبية الدولة الإسلامية، لكن سرعان ما راوحت مكانها، بعد أن تنطح لقيادة قطارها على طريق السلف الصالح، من لم يكونوا في الممارسة سوى نسخة أخرى من نسخ نظام البعث ذاته بأشكال وأقنعة مختلفة، فكرروا ضمنا ثقافة ومنهج البعث وممارساته، لكن بواجهة وقناع إسلامي: يعبر عنه شكلا فقط: لون العلم، والذقن والقميص، وحجاب المرأة وإلغاء دورها، وقطع الأيدي، وفرض الجزية، وفيما عدا ذلك هم يبنون دولة المزرعة والعصابة والاستبداد والفساد والقهر والإرهاب والتكفير، حتى أن ذات منافقي محافظ الرقة السابقين تحولوا في يوم وليلة بعد رخي ذقونهم لمتزلفي أميرها الداعشي الجديد، وكذا الحال في البقية الذين لم يرتقوا ولم يقدموا الصورة المطلوبة للدولة والسلطة الإسلامية، ولم يقاتلوا النظام كما يجب، بل تاجروا بالنصوص والسير، لكن من دون مضمون، فكان القرآن على لسانهم فقط بينما ممارساتهم بعيدة عن الدين القويم حتى بشكله السياسي القانوني القديم، وقدموا شكلا متخلفا عن الإسلام والدين لدرجة منفرة ومقززة أحيانا، ليستخدمها النظام في سبيل إعادة تجميع أنصاره في وجه الهمجية الجديدة التي طغت على سطح المعارضة بكل أسف، وليستغلها الغرب كذريعة للتنصل من كل التزاماته ووعوده. فشعر المجتمع المرهق أن لا فائدة، ولا أمل في إحداث التغيير المأمول لا في شكل السلطة الحداثي ولا التراثي .. ودخل في حالة من الإحباط وصار يفكر جديا بالمصالحة مع النظام القائم الذي لم يمكن تغييره، ليس لقوة الأسد كما يظن، بل لانعدام الأمل والبديل الواقعي الذي يختلف عنه.
لقد (فشلت حتى الآن) ثورة الحرية والكرامة والنزاهة والشرف، في إسقاط النظام ليس بسبب ضعف المجتمع الذي أراد وضع حد للفساد والاستبداد والتشبيح، والذي قدم أغلى ما لديه في سبيل حريته وكرامته، بل بسبب السياسيين الذين تنطحوا لإدارة شؤونه السياسية، والذين جاؤوا من مشارب مختلفة، لكن بما يحملونه من ثقافة المزرعة والتسلط والشخصنة والتنافس الخبيث والتآمر والاحتكار والاستبعاد، وبما بنوه من زعامات ووجاهات ومناصب وثروات تعيد وتكرر صور النظام بشكل أدهى وأمر..
لنتذكر في هذا المقام قوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فالثورة ليست دبابات وسلاحا نوعيا ولا تمويلا وعضوية مجالس صورية فقط، فالثورة تغيير شامل يعبر عنه تغيير النظام السياسي والثقافي. ومن دون تغيير حقيقي في أنفسنا وفي بنية وشخوص مؤسسات المعارضة السياسية، وإعادة بناء نظامها على الحق والعدل والنزاهة والكرامة والمحاسبة والشفافية، وتشجيع الناس على الركوب في قطار هذا النظام الأخلاقي لن تكون ثورة ولن ننجح في تجاوز محنتنا … لا سمح الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.