يثب

أمريكا … وغباء سياسة الاستنزاف

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

اعتمدت الإدارة الأمريكية الراهنة سياسة عدم الاكتراث في التعامل مع الأزمة السورية … وفقا لوجهة نظرها  البديل عن النظام الحالي غير واضح ، و الحرب الدائرة هي حرب بين الأعداء المتطرفين في المنطقة … فالصراع في سوريا هو بين القاعدة وحزب الله كما يصفه السعداء المسترخون في البيت الأبيض ، ولذلك لا مانع عندهم  في اطالة أمده لسنوات وسنوات لإضعاف خصومهم واستنزافهم .

هم يناموا على قناعة أن النظام لن ينتصر ولن يحكم ، و أن الحرب التي يخوضها لن تسهم في تثبيته بل في منع الاسلاميين من السيطرة ، فما يفعله النظام وحلفاءه يصب في صالحهم أيضا كما يتوهمون … لكنهم يفغلوا أن الاحتلال الروسي والإيراني بدأ يحل مكان النظام المنهار الفاقد للشرعية : الروس في الساحل ، وايران في الوسط والجنوب … كما أن التشدد والتطرف بفعل تلك الحرب قد نما واستفحل ، والحركات الإرهابية زاد انتشارها واشتداد عودها … والتورط الإيراني والروسي الجديد لن يكون قادرا على هزيمة (الإرهاب ) لأنه يعتبر الشعب كله ارهابيا ويمارس ضده إرهابا آخر أشد وأقسى ، يهون أمامه ارهاب القاعدة … التي تصبح تلقائيا  المدافع الوحيد عن المسلمين … أي في النتيجة هذه السياسة الأمريكية  لن تضعف حزب الله ولا القاعدة … بل تضعف المجتمع وكل قوى الاعتدال … وتتسبب بتدمير سوريا وتهجير شعبها ، ودخول المحتل الروسي والإيراني لمناطق يفترض أنها تابعة لنفوذ الغرب .

الخطير في هذه السياسة أن الجماعات الاسلامية السنية المتشددة تنحصر في الشمال والشرق، وايران في الجنوب و روسيا في الغرب ، وهناك احتمال جدي لتصالحهم وتقاسمهم سوريا ، وفرض حدود تقسيمية كأمر واقع بينهم … فكل منهم يعرف أنه لا قبل له بهزيمة الآخر ، كما أنه لا يريد أن يدفع ثمن معارك قاسية معه … وبالتالي يصبح التقاسم هو الحل المناسب للطرفين المنهكين ، وتكون النتيجة أن تنتهي سياسة الاستنزاف الأمريكية  بسيادة التطرف بنوعيه وتحكمه في المنطقة وتعايشه  وربما تعاونه . وهي النتيجة التي أصبحت قريبة من التحقيق … في غفلة من صانع السياسة الأمريكية المشغول بمناكفاته مع خصومه السياسيين هناك .

ما فات عبقري السياسة الأمريكية هو ما قاله عبقري السياسة السورية بلكنته الخاصة (من يريد أن يعذل ثوريه يعذل نفثه ) … وبالقياس عليه (من يريد استنزاف التطرف يستنزف نفسه ) … فالذي حصل هو سقوط كل قوى الاعتدال بيد المتطرفين الذين صاروا يهيمنون على كل شيء في طرفي الصراع ، ولا يجدون غضاضة في تقاسم المنطقة والغنائم وتبادل الشرعية وربما الاعتراف المتبادل ، لكي يتفرغوا لحرب عدوهم الحقيقي وهو الاعتدال والحضارة والانسانية …

فبدل اضعاف النظام الإيراني تمت تقويته على شعبه ، وحزب الله ازداد خبرة وتسلحا وامتدادا ، أم داعش والقاعدة فحدث ولا حرج ، هي اليوم تنتشر في كل دول العربان والدول الإسلامية وتحكم مساحات واسعة من الأرض … وبذلك يكون أوباما قد استنزف نفسه وخسر حلفاءه ومصالحه، نتيجة قصر نظره وتطبيقه الأوتوماتيكي لمفاهيم لا تصلح لكل ظرف . فإذا نجحت سياسة الاحتواء المزدوج في حرب العراق وايران واستنزفت الدولتين ( العدوتين ) وسهلت احتلال العراق فيما بعد . فإن سياسة الاحتواء التي تمارسها في سوريا تسمح باشتداد عود التنظيمات المتشددة وتحولها لمنظمات عسكرية راسخة ، و تؤمن لها الأرض والحاضنة وكل مقومات الدولة ، ومع ذلك يسميها أغبياء السياسة الأمريكية  استنزافا …

غدا ، وعندما تتغير الإدارة ويوجد فيها عقل آخر سيكتشف أن أمريكا والغرب  قد فقدت مصالحها وفقدت حلفاءها وصار لزاما عليها أن تذهب بنفسها لاسترجاعها ، لتكتشف وجود الروسي الذي سبقها لحماية مصالحه وأخذ حصته ، وعندها عليها أن تقر بخروجها النهائي ، أو أن تقاتل الجميع في المنطقة … تلك هي نتيجة سياسة النأي بالنفس والتردد واستخدام الآخر ، التي دفعنا ثمنها باهظا كشعب سوري ، ولا نمانع لو دفع الآخرين ثمن أفعالهم … فإذا كان الخيار بين الاحتلال الإيراني والروسي وبين هيمنة التطرف ، فأهلا وسهلا بالتطرف حاميا ومدافعا عن وجودنا …. هذا هو حال شعوب المنطقة في العراق وسوريا ولبنان وغدا في غيرها … وسيبقى هذا الحال بانتظار مواجهة عالمية في المنطقة تعيد الدول لصوابها ، وتعلمها أن التغاضي عن القيم من أجل المصالح يطيح بالإثنين معا .

هناك خلف الأكمة عقل أوروبي موروث من الحروب الصليبية يراهن على صراع سني شيعي يدمر الطرفين معا ويقوض الاسلام ، وهذا العقل واهم أيضا ، لأن الحرب الحالية في أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا واليمن لم تندلع بسبب اختلاف المذاهب لوحده . بل لأسباب سياسية واقتصادية استخدم فيها التمذهب وسيس الدين … وعليه فإن المتطرفين الشيعة هم مشكلة للشيعة ذاتهم ، وكذا متطرفي السنة … وهي حرب على الأرض والثروة والسلطة والمصالح  يجري تسعيرها بطرح الخلاف المذهبي لجعلها حربا مقدسة ودينية ( الدفاع عن السيدة زينب وعدم السماح بسبيها مرة أخرى بعد أن ماتت وشبعت موتا منذ فقط 1400 سنة فكيف تسبى وهي رميم  يا حسن العظيم ؟؟؟ ) ومعروف أن هكذا خرافات لا تدفع الناس للحرب إلا المرتزقة ذوي الرواتب العالية الذين يريدون تجميل اسمهم وصفاتهم … وبالتالي لا يمكن المراهنة على هذا الصراع كصراع جماهيري لأن نظام الملالي لا يمثل الشيعة وإن جرهم للحرب مع كل العالم ، ولا القاعدة تمثل السنة وإن جرتهم لمحاربة العالم …

هذه الأيديولوجيات المنغلقة والمجنونة التي توظف في السياسة خدمة للحرب ، ستطردها السياسة ذاتها عندما تصبح مناقضة لغاياتها ، وستخمد هذه الآيديولوجيات تدريجيا عندما يدرك المجتمع الثمن الباهظ الذي سيدفعه بسببها ، لذلك من المنطقي جدا توقع ارتفاع صوت التعقل وصوت الاعتدال ، والتصالح بين مذاهب المسلمين مع الزمن ، وكل من يراهن على تسعير وتخليد الصراعات المذهبية سيتحول لخاسر ، لأنه بنتيجة هذه الصراعات لن نخسر كمسلمين سوى مشاكلنا وموروثنا المتخلف وسنتجاوز الماضي نحو حداثة مختلفة …

والمنطقة التي يتدمر استقرارها وتتدمر دولها ستبقى لأهلها الذين سيجدون صيغا أخرى للاجتماع السياسي وللتوظيف الديني ، ومثالنا أوروبا التي عاشت صراعا مذهبيا رهيبا ثم تجاوزته ، وعاشت صراعا قوميا عنيفا جدا ثم تجاوزته أيضا ، فدفن القديم المعيق يتم عبر انخراطه بمثل هكذا صراعات عبثية ، والاسلام بكل مذاهبه قادر دوما على الخروج أقوى وأفضل وهذا ما أثبته التاريخ … الذي يذكرنا أن الغزو الأوروبي سبق له وحمل شعارات مسيحية ، والغزو التتري سبق وحمل شعارات شيعية عندما اجتاح سوريا بقيادة تيمورلنك . في حين دخل الترك والسلاجقة البلاد وحكموها مئات السنين لأنهم لم يدخلوها كغزاة بل حملة مشروع للاستقرار .

أما الروس فهم لا يتصفون بالغباء ، بل بالحماقة لأنهم يزجون بأنفسهم بموقفهم الأرعن من النظام السوري والإيراني في سياق صراع مع العالم الاسلامي السني  كله ، تحت ذريعة الحرب على الارهاب فيساهموا في نموه واشتداد عوده وتجذره ، وبالتالي في عودته التي يخشونها لبلادهم محررا لإخوته هناك  …

فإن ماتت الدول المستبدة المصطنعة التي سجنت شعوبها ، فإن شرق أوسط جديد سيبنى مكانها فوق ركام المتخلف و المصطنع … والغباء السياسي للإدارة الأمريكية يضاف اليه غباء تاريخي في فهم التاريخ والمجتمعات والديانات ، وويزيد عليه حماقة روسية متفاقمة  … وهكذا  وبالرغم من كل مآسينا فهم في طريق الانحطاط ونحن في طريق النهضة …. لكن الطريق أمامنا سيكون شاقا وصعبا ومتعرجا …

نعود لنقول أنه لا يمكن حل مشكلة سوريا إلا بالبدء من مناطق محددة آمنة محررة تقام عليها سلطات ونظم متكاملة تقوم على قيم ومعايير تتناسب مع شعوبها وهويتها ومصالحها والحضارة العالمية معا وجميعا … وتصبح منطلقا للتوسع لبقية المناطق … أي لا بد من جهد فاعل واعي ملتزم مكلف  وصبور … أما البحث عن الحلول السهلة والرخيصة والتذاكي الذي يبرر التحلل من المسؤوليات ، وسياسات الاحتلال والهيمنة والانتداب ، فهي سياسة صبيانية وغباء لن ينتج عنه إلا المزيد من الخراب والصراع الذي سيطال الجميع بفعل عولمة المنافع ، وعولمة الكوارث والحروب والإرهاب أيضا بذات القدر…

هل تتخيل ايران أن مليون شيعي في لبنان وسوريا قادرين على حكمها هذا لو أيدوها كلهم . وهل تتخيل روسيا أن مليون علوي سيكونون قادرين على حماية مصالحها هذا لو وافقوا كلهم على احتلالها … ومتى كان الروسي أقرب للشيعي والعلوي والكردي من أخيه السوري … لولا حماقة السياسيين وإجرام النظام … وأي حماقة وأي غباء وأي بؤس في عالم افتقد للسياسيين العقلاء وتحكم به الصبية والمشوهون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.