مسببات هدنة الزبداني وتبعاتها

د. كمال اللبواني

22

11

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يفترض أن تبدأ اليوم عملية إخراج الجرحى ، لكن بعد هذه العملية الانسانية ستتابع عمليات أخرى بعيدة كل البعد عن الموضوع الإنساني،

الذي استخدم على ما يبدو للتغطية على جريمة حرب ، بل ما يرقى لمستوى جريمة ضد الانسانية ترتكب بحق المدنيين ، ترتكب باسم الثورة وتشترك فيها دول اقليمية بل الأمم المتحدة ذاتها …

من المهم قبل الدخول في هذا الموضوع تبيان حصول تبلور لمنظومة مصالح سلطوية أصبحت تحرك قيادات المنظمات العسكرية خاصة الايديولوجية الجهادية وتحولهم تدريجيا وبشكل عام لأمراء حرب ، ومعروف أن هكذا منظومات مصالح سلطوية تختلف كثيرا عن ايمان وقناعات معظم مقاتليها، الذين لا يستطيعون شق عصا الطاعة لظروف تزداد صعوبة مع تبلور هذه المصالح عند عصبة تجمع بيدها وسائل الضبط والسيطرة (من مال وعتاد ومؤسسات مراقبة واجبار وترهيب ) .

وبنتيجة هذا التبلور للمصالح السلطوية العصبوية،  ظهر للعلن نوع جديد من الهدن مختلف عن النوع السابق الذي لجأ إليه النظام في ريف دمشق والذي كان نوعا من القضم التدريجي للمقاومة يستخدم سياسة الحصار والتضييق والتهجير بدل الاقتحام الذي أصبح مكلِفا جدا على نظام متداعي منهك .

هذا التطور الذي بدأ نموذجه في التفاوض على تسليم حمص حيث شارك الإيراني بشكل غير مباشر فيها ، مع بعض قيادات الحراك العسكري ، وتطور وتبلور أكثر في مفاوضات الزبداني – الفوعة ،  حيث جرى التفاوض المباشر بين قيادات من أحرار الشام وايران ( وليس كل أحرار الشام ، ولا جيش الفتح كما يزعم ، لأن أغلب المقاتلين لا يجدون مبررا لهذا التفاوض بعد أن قدموا في هذه الحرب ما قدموه من شهداء وتضحيات ، ولأن جبهة النصرة ترفض من حيث المبدأ هذا التفاوض، كما أن أهالي الزبداني لم يفوضوا أحدا بالتفاوض نيابة عنهم بل من قام بذلك هم حفنة من المقاتلين المؤدلجين الذين لم يحصلوا على تفويض شعبي )

بعكس الهدن السابقة ، لا يعكس ما جرى على طاولة المفاوضات حالة انهاك عند الطرفين ، بل يعكس حالة قوة وتفوق يشعر بها كلا الطرفين ، لكن في منطقتين مختلفتين … فالأحرار أقوياء في الفوعة وقادرين على اقتحامها وتكبيد العدو خسائر كبيرة فيها ، كما أن حزب الله قوي في الزبداني وقد أنجز عمليا معظم عملية احتلالها وحشر المقاتلين في بقعة صغيرة، ولكنه يتأخر في اقتحامها أملا في مبادلتهم مع مقاتليه المحاصرين بالفوعه والذين لا أمل لهم بالخروج ، فالطرفين لا يخشون الخسائر المترتبة على الاقتحام ، حيث خسائر المدافع المحاصر ستفوق كثيرا خسائر المهاجم ، لكنهم ينظرون من نافذة غرفة التفاوض للمكاسب المزدوجة المترتبة على الاتفاق بينهم ، فكل منهم سيحقق النصر المزدوج من دون قتال، عبر تبادل تسليم الجبهات (الفوعة مقابل الزبداني ) …. وبهذا يكون الطرفان قد انتقلا فعلا من حالة الحرب لحالة التفاهم وتقاسم المغانم ( الكعكة ) … وفي حال نجحوا غدا في تبادل الفوعة مع الزبداني ، فسيجري التفاوض على مضايا ثم الوادي ثم دمشق كلها ، لتصبح ملكا للمليشيات الشيعية الحليفة لإيران بينما يصبح الشمال ملكا للمنظمات الجهادية الحليفة لتركيا .

في المضمون هذه التسويات والهدن تعكس تمايز مصالح قيادات الميليشيات الجهادية عن المصالح الوطنية بشكل كبير وجلي، بعد أن تخلت بقية مؤسسات وقيادات المعارضة عنها هي أيضا ، و تكرس عمليا الرغبة في تقاسم البلاد، وليس التقاتل فيما بينهم بحسب آيديولوجياتهم ، فكلا الطرفين لديه مشروعه الخاص البعيد عن آيديولوجيته المعلنة ، ويهتم في الاحتفاظ بالسلطة في مناطقه وبقوة الذاتية التي تحولت لغاية وليس وسيلة ، وهذه السياسة الانتهازية المليشيوية ظهرت مع داعش التي تحركت فقط في المناطق الرخوة وتوجهت فقط نحو الثروات والغنائم ، ثم انتقلت هذه الظاهرة تدريجيا لبقية قادة المنظمات الاسلامية التي صارت تفكر وتتصرف بشكل مستقل وكأنها تتزعم دويلات مملوكة ملكية خاصة تأتمر بعصبة متمايزة المصالح .

وأكثر من ذلك … فالتفاوض أظهر عدم الرغبة لدى كلا الطرفين في خوض غمار حرب ضروس ضد بعضهما  تكون على حساب مصالح سلطتهما في حدودهما التي يميلان للاكتفاء فيها ، فالتفكير الوطني غائب عن سلوكهم ، وهذا كان واضحا وجليا في إمارة الغوطة الشرقية … بينما يجري تسليم الريف الغربي للمحتل تحت ذريعة انقاذ المحاصرين ( الأمراء )… فالمفاوضين باسم الأحرار عينهم كما بدى بنتيجة التفاوض ليست على سوريا، التي ضاعت بين داعش وايران وروسيا وبقية الفصائل الكردية والعربية والسنية .. بل عمليا عينهم بشكل خاص على حصتهم من الكعكة وهي إمارتهم  في ادلب ، ويهتمون كثيرا في اكتساب شرعيتهم الدولية … لذلك فالمكاسب التي يحققونها من تسلم الفوعة تفوق ما يخسرونه في تسليم الزبداني ، وخروج مقاتلي الزبداني لإدلب سيزيد من قوتهم، كما أن خروج مقاتلي الفوعة وزويهم للزبداني سيزيد من قوة حزب الله فيها … وكل ذلك يعتبر امعانا في قتل المشروع الوطني وتقويضا له .

هذا التطور يحظى بالمباركة والتبجيل من قبل جيش كامل من المتحمسين بطريقة ديماغوجية ، الذين يعملون كمطبلين عند أمراء الحرب الذين يسيطرون أكثر وأكثر على المال والثروة ويستخدمون القوة من أجلها، ثم يوظفونها بكسب المزيد من الولاء والنفوذ ، هو بحد ذاته أمر خطير نوعيا ، لأنه يشكل من حيث المبدأ تغييبا فعليا للوطنية السورية وللمشروع الوطني السوري (نظاما ومعارضة معا )، فالقبول بمبدأ التفاوض مع ايران كمحتل يجري بحجة أنه يعري الهيمنة الإيرانية ، مع أنها عارية أصلا، لكنه في الواقع يكرس ايران شريكا في تحديد مصير السوريين شيعة وسنة وأقليات، كما يخدم المصالح القومية التركية على حساب المشروع الوطني السوري ، ويعطي المشروعية لقادة منظمات عسكرية طائفية آيديولوجية ويصورهم كقادة دول ، ويجعل منهم مالكا حقيقيا للقرار السياسي للشعب السوري الثائر بكل مكوناته وطبقاته وتياراته السياسية ، مما يعكس بشكل صريح وواضح تغليب المصالح السلطوية الفردية ومصالح الدول الاقليمية على المصالح الوطنية ، تماما وبطريقة مشابهة لواقع الائتلاف الذي هو وكيل لمصالح الغير وليس السوريين …

من حيث الشكل ما يجري من تقويض للمشروع الوطني هو العنصر الخطير الأول في هذه الهدن ، التي ستديم وتطيل حالة الحرب ، وتعيد رسم جبهاتها ، ولا تصنع الحلول الوطنية الجذرية التي تحقق أهداف الثورة .

فشن معركة الفوعة نصرة للزبداني قد إنتهى عمليا لانتصار أمراء معينين في ادلب ، على حساب أهالي الزبداني ومضايا وريف دمشق الغربي ، التي ستكون تحت نير الاحتلال وسيف التهجير وتفقد شبابها وأرضها … ، والرابح منه أساسا هو دويلة وإمارة حزب الله ، ودويلة وإمارة الفتح التي تريد قيادتها اعترافا دوليا بسيادتها على ادلب ، لأن تسليم الريف الغربي لدمشق والمنطقة الحدودية مع لبنان لإيران سينتهي بقيام دولة احتلال ، في محاذاة لبنان ويهدد مصير دمشق عاصمة سوريا .. ومع ذلك لم يجد مفاوضي الحركة غضاضة في ذلك ، بل عمدوا على تزيين صفقتهم بخروج مقاتليهم  سالمين ، والذين يفترض أنهم نذروا حياتهم للدفاع عن أرضهم ووطنهم ، وليس العكس أي التضحية بوطنهم وأرضهم مقابل سلامتهم الشخصية .

ثم زادوا من تزيين فعلتهم بخديعة خروج المعتقلين … لأنه يمكن للنظام اعتقال وإعدام الأعداد التي يريدها بدلا عنهم في أي وقت ، خاصة وأن المعتقلين المتبقين على قيد الحياة هم ممن لا مبرر لاعتقالهم وليسوا من الثورة أصلا ، فأي معتقل له علاقة ولو من بعيد بالثورة يقتل تحت التعذيب من دون تردد … فالنظام قد يخرج معتقلين ليعتقل غيرهم مساء ذات اليوم ، وبذلك يخرج كل مقاتليه المحاصرين من دون ثمن فعلي … طالما أن عددا كبيرا من العرب السنة ما يزالون تحت رحمة النظام ، لذلك ولكي لا تكون قضية المعتقلين خديعة وديماغوجيا كان يتوجب أن يكون التفاوض على وقف الاعتقال، واخراج المعتقلين ، وكذلك وبنفس الطريقة  على وقف تهجير السكان ، وليس السماح به … وكل هذا لم يكن مهما للمفاوض ولم نلمسه في نتيجة التفاوض (حتى ولو تجميلا )، فلم تتم الإشارة مثلا لمصير أو عودة سكان الزبداني لمنازلهم بعد هيمنة النظام . بل أغفل ذلك تماما … رغم أنه لا توجد ضمانات لأي وعد  بعد ترحيل الشباب المسلح الذي هو مكلف بالدفاع عن المدنيين نظريا ، وكما تعهدوا عندما رفضوا هدنات سابقة ، بل قاموا بتصفية من تفاوض عليها بتهمة الخيانة ، التي لم تعد خيانة لو جرت على أيديهم …

باختصار ما يجري خسارة وطنية كبيرة يجري تمريرها باسم الثورة والجهاد ، وهي منافية للشرع الذي يأمر بالوفاء بالعهد ، وفيها تكريس للإحتلال وتمكين له وهو ما يناقض فريضة جهاد الدفع ، وتحتوي على التبادل الديموغرافي الخطير الذي يخدم التقسيم ، وهو أيضا منافي للدين ورص الصفوف ، وبنفس الوقت فيها تنمية وترسيخ لمشروع الإمارة الانقسامي المخالف أيضا لمفهوم دولة الاسلام ، ناهيك أنها تمر عبر أسهل الطرق ، وهو التقاسم مع المحتل على حساب الوطن والمواطنين ، فالمحتل يأخذ حصته من نصرة النظام ،  والمليشيات تأخذ حصتها من نصرة الشعب ، بينما الوطن يضيع والمواطن يتشرد … ( و الحديث الشريف يقول : خيركم خيركم لأهله ) فأي خير جلبوه لأهالي المنطقة في عملهم هذا … ؟؟؟؟

سنشهد بعد أيام الاحتفالات في النصر ، وستكبل يد الثوار حيث سيكون ذويهم محاصرين في مضايا وغيرها تحت البراميل ونيران القناصة … وستفرغ الفوعة من النساء والأطفال والشيوخ ، وتصبح قادرة على متابعة القتال بوجود الدعم الجوي ، هذا لو أمكن تجنب الضغوطات الاقليمية وفتح المعركة من جديد .

لا أستطيع أن أجد في هذه التسويات سوى افتراق جدي وخطير بين مسار المشروع الجهادي الاسلامي وبين مقاصد الشرع ، وأرى فيه تعبير عن ظاهرة خطيرة ستنتهي بانفصال قادة الجهاديين عن قواعدهم وعن الثورة والحاضنة الشعبية ، وتمايز مصالحهم عنها وتحولهم لطغاة جدد ، مما يمهد لاقتتال بينهم  ، و يسهل في المستقبل القضاء عليهم عن طريق الصحوات  التي يخطط ويحضر لها …  لذلك سعت أجهزة مخابرات دولية عديدة لانجاح هذه الصفقة ورعتها وسوقت لها واهتم بها اعلام مشبوه يدعي الانتساب الثورة ، وهم ذاتهم من عمل على حصر التمويل والدعم بأشخاص محددين ، بهدف تحويلهم لأمراء حرب، ثم قاموا بتصفية من يعترض خططهم … أما شبابنا الطيبين الصادقين وشعبنا البسيط المعذب فقد شربوا المقلب وتفاخروا بالانتصار المزين بالأكاذيب … والذي لا يحمل سوى معنى الهزيمة للوطن والمواطنة ، الذي كان هدف الثورة ، وتحويل سوريا لبقرة ذبيحة تتكاثر عليها السكاكين .

أخطر عامل فيما يجري  هو المشاركة الاقليمية والغربية والرعاية من الأمم المتحدة التي أعطت سوريا استقلالها كدولة ذات سيادة عام 1947 ، وهي تستطيع شرعنة تقسيمها أيضا ، والمجتمع الدولي وديمستورا سعيدون بهذا التطور لأنه يسجل لهم كإنجاز في التهدئة ووقف القتال … مع أنه مشاركة في جريمة تهجير تصنف كجريمة ضد الانسانية وفقا لمعاهدة جنيف الرابعة . كما أن الدول الاقليمية تجد في هذه الطريقة وسيلة لتجنب الصدام  فيما بينها ، وتتيح لها التفرغ للقضاء على خصومها المحليين وتنفيذ مشاريعها في الأراض السورية كل في المنطقة التي تهمه .

ما يجري هو امعان في قتل سوريا كدولة عربية معترف بها وعضو في جامعة الدول العربية التي تقف متفرجة ، بينما الذي يتحمل مسؤولية هذا الخلل الكبير هو فقط الائتلاف الذي غاب عن مهمته في تمثيل المشروع الوطني السوري وقيادته بعد أن حظي باعتراف دولي كبير  كبديل عن النظام الذي تسقطه ثورة الشعب ، وآثر لعب دور الانتهازي الفاشل الذي استبعد نفسه بنفسه بفساده وسخافته … فضاع وضيع الوطن و معه تضحيات الشعب الذي قرر أن ينتقل بسرعة للعيش في ألمانيا…

وبناء عليه فنحن كأبناء الزبداني من الطبيعي أن نتوجه بكل الشكر والامتنان  لجيش الفتح الذي ((نصرنا )) مشكورا ، والشكر موصول طبعا لألمانيا (ما بعد النازية والستالينية)  كونها انتصرت أيضا لشبابنا وأطفالنا وأراملنا وايتامنا الذين لم يعد لهم وطن بسبب ذلك النصر ، والذين تأمل ألمانيا منهم أن يجددوا شباب مجتمعها الهرم ، وأن يملؤوا  أسواق العمل فيها باليد العاملة الرخيصة … ومن هذا الوقت وحتى يخرج شبيحة حسن من المنطقة تكون الزبداني قد انتقلت جغرافيا من ضواحي دمشق لبوتسدام في ضواحي برلين …

هذا هو نصرنا المبين في الزبداني الذي يشبه نصر أمتنا العظيم في حزيران 67 . ومع ذلك هناك من يسمون رأينا مزاودة ويصدرون البيانات بإسمنا أيضا .. فتأمل يا رعاك الله .

مقال ذا صلة :

المفاوضات على الزبداني … ومشروع حزب الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.