يثب

هشاشة الجغرافيا ولعنة التاريخ

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يكثر الحديث اليوم عن تقسيم سوريا ، بل تتسارع الخطوات التنفيذية المؤدية لفرض هذا التقسيم ، الذي لا يستند على نظرية معينة لقيام الدول (قديمة أم حديثة)، بل فقط على احتلالات أو تحالفات مع الخارج متداخلة مع تلاوين حزبية وآيديولوجية تستند لتباينات عرقية قومية ودينية طائفية … متجاهلا بقية العناصر الأكثر أهمية وهي الأرض والتاريخ والمصالح الاقتصادية المشتركة …

لم تشكل سوريا الحالية أو الطبيعية دولة مستقلة مستقرة موحدة عبر تاريخها كله … فهي بحكم كونها مجرد شريط ساحلي محاصر بالصحراء والبادية يقع عند نقطة اتصال ثلاث قارات، كانت على الدوام ممرا ومعبرا وهدفها ، جعلها عرضة لصراعات وانزياحات سكانية كبرى فرضت عليها عدم الاستقرار وأوجدت فيها التنوع، ولم تك وحدتها إلا من خلال تبعيتها لإحدى القوى الأكبر في جوارها، والتي تملك الاتساع الجغرافي السكاني الكافي لفرض الاستقرار …

مؤخرا حذرت أمريكا من تقسيم سوريا، وتقوم عمليا بدعم انفصال الكرد، وأعلنت روسيا حاجة سوريا للفيدرالية، وتقوم عمليا بدعم انفصال العلويين، وتستمر ايران في إحكام السيطرة على وسط سوريا بدءا من حمص نحو دمشق والسويداء وإحداث تغيير ديمغرافي طائفي هائل فيها … بينما تدافع تركيا بكل ما أوتيت عن الإمارة الاسلامية التي وجدت على جوارها في حلب وادلب، بينما تركت المساحة الجغرافية الأوسع بيد داعش التي لا تتعرض لأي ضغط عسكري جدي، بانتظار الانتهاء من رسم حدود التقسيم /بل التقاسم في سوريا والعراق ولبنان كبداية لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط قد تشمل تغيير شكل ايران وتركيا والسعودية في مرحلة لاحقة …

منذ بداية هذا العام تم فرض هدنة ووقف للعمليات العسكرية، بقوة ونفوذ الدول العظمى وتراخي الدول المتدخلة، تؤدي هذه الهدنة عمليا لتجنب الانجرار لحرب اقليمية، وتبريد الجبهات، وتثبيت الحدود التقسيمية الراهنة … وأجبر الطرفان المزعومان في الصراع ( النظام والمعارضة بعد أن أحكم السيطرة عليهما) على حضور حفل تفاوضي لا معنى ولا نتيجة له سوى الاتفاق المزدوج بين كلا الفريقين على استحالة الحل السياسي، الذي يحفظ وحدة واستقلال سوريا، بالشكل الذي أعلنه قرار مجلس الأمن الذي صدر باجماع الدول، لكن فقط ظاهرا لأن الدول تعمل لتنفيذ عكس مضمونه جماعة وبالتناغم فيما بينها هي ذاتها …

المنظر من داخل سوريا وحجم الدمار فيها واضطراب عموم المنطقة يوحي بحرب عالمية… والواقع يؤكد أنها حرب عالمية لكنها خرقاء، تقوم بها قوى خرقاء مهترئة ومتهالكة بدءا بالنظام السوري والإيراني، الذي يستعين بقطعان الميليشيات، وصولا لقوى المعارضة المتنازعة والمنقسمة، والدول الجارة التي تحولت تصريحاتها وتهديداتها وخطوطها الحمراء لمهزلة سياسية … فالدول لا تظهر جدية في الانخراط في الحرب أو رغبة في حسمها… بينما المتهالك الأكبر هو الشعب السوري بكل مكوناته وبنيانه ودولته … ليضيف الصراع العالمي في سوريا هشاشة اجتماعية وسياسية وثقافية تضاف لهشاشة الجغرافيا ويشكل لعنة تاريخية جديدة تكرر فصول التراجيديا التاريخية التي عاشتها سوريا الطبيعية حروبا ومجازر ومجاعات واحتلالات وتهجير وهجرات ، جعلت منها بذات الوقت مفاعلا بين القارات والثقافات ومنتجا لأهم المكتشفات والديانات والحضارات .

وكما أنه لن تنجر الدول لحرب عالمية بسبب الخلاف على سوريا الصغيرة المدمرة، كما أن التقاسم والتقسيم فيها لن يدوم ولن يرتقي ليصبح دولا بسبب تفاهته، حتى لو  سعى كل طرف لتحصيل مكسب خاص به على حساب الوحدة والاستقلال، فتقسيم سوريا يحقق هدنة مؤقتة بين الفرقاء المتدخلة لكن التقسيم والاضطراب سينتقل لبلدانهم ذاتها .… فهذا سيشكل عامل استنزاف لهم ، لأنه لن يمهد لإعادة الاستقرار، بل سيبقي على عناصر التنازع والحرب التي ستنتقل إليهم ولداخل مجمتعاتهم، فالإتفاق التركي الإيراني الأخير هو اتفاق على حفظ وحدة تركيا وايران من خلال حفظ وحدة سوريا بعد أن أدركا معا حتمية انتقال العدوى إليهما ، لكن ذلك لم يحدث حتى خرج الموضوع من أيديهما معا. فالمنطقة الهشة جغرافيا والتي تتصف بالتنوع والتداخل لا يمكن أن تستقر إلا جملة وضمن نظام يعيد توحيدها على أسس تجمّع ولا تفرق، وأولها تشارك الأرض والمصالح الاقتصادية المشتركة، حيث لا يستطيع التمايز الثقافي رسم حدوده الجغرافية التقسيمية كونه متداخل وموزع، مما يجعل من كل فيدرالية مقترحة مجرد حقل نفوذ للآخر أو فيدرالية ثقافية تتعلق بالهوية المحمولة وليس لها جغرافيا موحدة قابلة للحياة .

تتجه سوريا للتقسيم على أساس الهوية الأهلية، في حين أن الدولة الحديثة تقوم على المجتمع المدني وعقد المصالح الآخذة في التوسع، وليس على وحدة الهوية الأهلية ماقبل المدنية الآخذة بالتراجع ، وذلك تحت تأثير الحداثة والعولمة … فكل مسار انقسامي هو مسار حرب معاكس للحضارة ولحركة التاريخ وللمصالح الحقيقية لكل المكونات المتصارعة في وعلى سوريا … لكن صراع الهويات الطاغي حاليا يغطي على صراع (هذه الهويات جماعة) مع المصالح التي تتجاوزها وتتجاوز حالة الصراع ذاتها … وبمجرد نجاح نموذج اجتماعي اقتصادي في أي مدينة سورية، سيدفع ببقية المدن والفيدراليات لخلع هويتها والهرولة نحو الوحدة من جديد ، مما يعبر عن ويؤكد الدور الحاسم للاقتصاد في السياسة …  فنتيجة أي تناقض بين الهوية والمصالح والحضارة هو لغير صالح الهوية التي عليها أن تتكيف مع مصالح واحتياجات البشر الحقيقية ، وليس مع الشعارات التي تدفعهم للصراع والموت والدمار . وما مزقته السياسة والهوية سوف يعيد توحيده الاقتصاد، وأي حالة سلم (حتى لو كانت تقسيمية) تسمح بعجلة الاقتصاد بالدوران سوف تولد ديناميكيات وحدوية تقفز فوق كل ما يعيقها من حدود وتقسيمات لن تدوم الا بقدر استدامة الحرب والاحتلال ولن تعبر إلا عن استمرار التخلف والعنف، فأي تقسيم لن يعيش إلا بين الدواعش الشيعية والسنية والعلوية والمسيحية واليهودية ، والعنصريات العربية والكردية والعبرية والفارسية والتركمانية. والتي ستكون لعنة تاريخية جديدة على المنطقة والعالم…  العالم الذي يجب عليه أن يعيد الاعتبار للمعايير والقيم في نظامه وسلوكه ويتعلم من مذبحة الشعب السوري الذي تلطخت أيده فيها .

مجنون من يتحدث عن تقسيم سوريا طائفيا في زمن العلمنة، وحيث يعتبر دخول الدين في السياسة نهاية للديموقراطية فكيف بالدول الطائفية، أيضا في زمن العولمة حيث تنهار الحدود القومية وتتحد أوروبا وأمريكا وشرق آسيا وحتى أفريقيا في كيانات كبرى … ويتجه العالم كله نحو الوحدة … وما فائدة ومعنى هذا التقسيم ، وكم سيخدم قضية الانسان الذي يقطن هذه المنطقة … إنه فقط ذلك المجرم الذي يريد الهروب من جريمته بارتكاب المزيد من الجرائم… إنه النظام العالمي الذي يحتضر فعليا بعد أن احتضر أخلاقيا ( إنه عالم بوتين أوباما ) الذي عبر عن نهاية التاريخ الحضاري عندما أنهى القيم والأخلاق وتنكر للعدالة والحقوق فكانت مذبحة سوريا التي ستبقى لعنة تلاحق كل من ساهم فيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.