يثب

ماذا بعد باريس – 2

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

ضرب الارهاب في باريس- 1 بالتزامن مع جنيف 2 وضرب مجددا في باريس 2 بالتزامن مع فيينا 2 ، فباريس قدرها أن تعيش أيضا على وقع أحداث دمشق التي استعمرتها لمدة 25 عاما بعد الحرب العالمية الأولى … والذي يربط بين باريس ودمشق هو أكثر من الروابط العادية بين دول الشمال والجنوب والشرق والغرب … والحدث السوري يعاش في باريس ليس فقط على شكل موجات هجرة أو جوازات سفر ألقيت في مسرح جريمة مروعة فعلا، بل كتعبير عن تداخل العالم وتشاركه الفرح والألم. فباريس ليست في المريخ ولا يمكنها أن تغلق عيونها عما يجري … والدم المسفوح طويلا وغزيرا في شوارع دمشق لابد أن تصل رائحته ومنظره لشوارع بقية العواصم بطريقة أو أخرى، والاعلام الذي يتعمد تجاهل المأساة السورية سينوب عنه سلوك المجانين الذي يصرون على ارسال رسائل دموية ترهيبية تعبر عن مقدار الكراهية التي تزرعها فيهم سياسة التجاهل والازردراء والمعايير المزدوجة…

فإذا كان الأسد هو أفضل الخيارات المطروحة كما يقال حاليا في الأوساط الدولية، فإن الارهاب هو أيضا يصبح أفضل الخيارات التي تطرح على ضحاياه، والعالم الذي عطل القانون الدولي ومحكمة الجنايات الدولية وأمد الأسد بالحصانة والوقت والسلاح والقدرة للاستمرار في جريمته لا بد أن يتوقع أي نوع من الانتقام من بشر وصلوا حد اليأس والجنون والحقد الذي يعمي البصائر … لأن الأخلاق لا بد أن تنتقم لنفسها فهي ليست زهورا تزين مكواكب السلوك بل هي قوانين طبيعية قوية تحكم المجتمع الانساني لا يدرك قوتها إلا من يفكر في انكارها … والمجتمع الانساني لا يمكنه أن يتخلى عن أخلاقه ومسؤولياته الجماعية بهذه الطريقة دون أن تصيبه اللعنة وتجعله يدفع الثمن .

سوف تتجه المزيد من حاملات الطائرات للمنطقة وتقصف النساء والأطفال وتقتلهم، لأن الارهابي الذي يقاتلونه يعيش مع اسرته وفي بيته، فالجميع يقولون أنهم يحاربون الارهاب في سوريا، ولكنهم يتجاهلون الارهابي الأكبر … والجميع سيخرج بمظاهرات احتجاج ضد الارهاب وينسون معاناة الشعب السوري من أشد وأشرس نوع من الارهاب الرسمي الشامل…

لم تتوفر حتى الآن نظرة عقلانية للحدث والمسببات، وتفكير جدي في علاج المرض ، فالمجتمعات الغربية تعيش مرحلة تشويش عقلي وتخبط عاطفي، بالأمس فقط تحركت المظاهرات تضامنا مع المهاجرين، واليوم نشاهد نقمة عارمة ضدهم … في حين يبتسم الأسد بخبث عندما يرى هذا الغباء العاطفي المدعوم بالمصالح اللا أخلاقية التي تحكم سلوك الغرب الذي يرى ضمنا مصالحه في الابقاء عليه، فالأسد له مصلحة حقيقية في نشر الارهاب الذي يدعي الحرب عليه، وكل عمل ارهابي يصب في صالحه، والغرب له مصلحة في الابقاء على الأسد رغم أنه مصدر وسبب هذا الارهاب الذي يضربه… وهذا الخلل المنطقي سببه أن الغرب ما يزال مترددا في الاختيار بين القيم التي يدعيها وبين مصالحه الخاصة التي تعاكسها، لذلك قد يحتاج لباريس 2 ولبرلين 2 ولندن 2 وبروكسل 2 وووو لكي يصحوا ضميره، أو يقرر أن يلغيه نهائيا وينخرط في جنون الحرب العالمية الثالثة التي ستعيد صياغة العالم ونظامه اللا أخلاقي المتداعي، الذي امتنع عن التعامل مع نظام انقلب على شعبه قتلا وتدميرا ونشر الخراب والفوضى في كل مكان لسبب بسيط أن البديل عنه أيا كان ليس أفضل منه بالنسبة لمصالح الغرب، التي لا يرى غضاضة في تحقيقها حتى لو كانت على دخان جماجم الأطفال المحترقة في سوريا …

غدا بعد ذبول ورود الجنازات وإحراق عدد من المساجد، ستعود الدول للتفكير بمصالحها القريبة كعادتها… وسيستمر الصراع في سوريا وعليها، ولن تسمح هذه الدول لروسيا بتحقيق نصر عسكري يجعلها قوية على طاولة المفاوضات التي تتقاسم المنطقة، ولن تجد (كما لم يجد الشعب السوري) غير هؤلاء المتشددين يقاتلون في ساحات الوغى، لذلك ستعود لتسليح المتطرفين المتشددين الذين تسمهم بالإرهاب والذين تضربهم كلما طالت أيديهم اليها، فالارهاب لا يرتبط بنوع السلوك بل بهوية الضحية… فقتل المدنيين السوريين ليس ارهابا ومنظمات حزب الله والعباس والباسيج ليست ارهابية إذا قتلتهم … هذا هو الجنون الذي يدفع نحو مواجهة عالمية كبرى سببها ليس تناقض المصالح (فهذا عادي ومستمر)، لكن سببها هو غياب الأخلاق التي ترسم طريق تحقيق هذه المصالح بشكل لا يتناقض مع السلم والاجتماع الإنساني …

من جنيف 2 لفيينا 2 لباريس 2  العالم يتعثر ويتدحرج بسرعة نحو مواجهات عالمية كبرى، بين الارهاب الشعبي الذي تمثل القاعدة رأسه وذروته، والارهاب الرسمي الذي يمثل نظام الأسد وخامنئي رأسه وذروته، فالعولمة التي تحكم تطور العالم ليس لها وجه ايجابي واحد بل لها وجه سلبي دموي أيضا عندما تغيب وتهمل القيم الأخلاقية التي هي الضوابط الوحيدة للسلم … ولن يبكي الشعب السوري لوحده بعد الآن لأن لعنة الدم السوري البريء ستطال الجميع حتى لو على ايدي مجانين توحشوا في مسارح القتل والتشرد وقرروا الموت بالأحزمة الناسفة معلنين موت الانسانية …

لن يستقر العالم حتى يحق الحق ويزهق الباطل.  ويكف القوي عن الغطرسة ويحترم رغم قوته قواعد الخلق لكي لا يلجأ الضعيف الذي تحميه هذه الأخلاق لإرهابه…  لا يوجد اجتماع انساني من دون معايير وقيم وأخلاق انسانية هي واحدة في كل الثقافات والديانات، والعالم الذي توحده العولمة لن يشعر بالأمن والاستقرار حتى يعيد الاعتبار للقيم والخلق، وطالما أن محكمة الجنايات الدولية معطلة فالمسرح مفتوح لكل المجرمين العالميين بحق الانسانية من أمثال الخامنئي وبوتين وبشار والبغدادي، والشعوب في الرقة أو باريس أو دمشق هي من تدفع ثمن تغييب العدالة وازهاق الحق … وكما قال الشاعر :

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت             فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.