جنيف 3 ،2 ، 1 ، … و مسار الضياع

 د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

إمتدت صور الأطفال الذين سقطوا ضحية وحشية النظام باتجاه مدخل مقر الأمم المتحدة في جنيف ، أملا في أن تنقل ما يجري في سوريا للمجتمع الدولي المهتم في ايجاد حل كما يدعي …. لكن بالرغم من شناعة الجريمة ومنظرها الصارخ، بدا أنها قد ضاعت بدورها في دهاليز السياسة والمصالح الدولية المتخشبة، والتي أصبحت تشكل ثقبا أسود يبتلع كل حق وقيم وضمير وعقل، ويقود العالم نحو مواجهة كونية جديدة…

وها أنذا أعود من مطار جنيف إلى غير وطني الذي تحول لحلم، فوطني الذي هجرته نحو دار التشرد لم أكن فيه أكثر من سجين يتعفن في النسيان أو مشروع قتيل برصاص قناص أو برميل ، ها أنذا أغادر جنيف نازلا من حلمي نحو محنة الجرح القديم وتفاصيل البلاد والعباد …  بعد أسابيع من التيه والتشرد في شوارع وعواصم أوروبا، محاولا أن أجسد وطني ومأساته في خيمة حالمة ضربتها في ساحة الأمم، بجانب نصب الكرسي الذي فقد أحد أرجله، معبرا عن النظام العالمي المعاصر ومبشرا بقرب السقوط، لقد كانت صورة كل طفل بريء تشكل وصمة عار على جميع السوريين، وعلى كل انسان يدعي أنه جزء من هذه الحضارة التي ضيعت قيمها وعقلها وضميرها…

ثم بعد قدوم الوفود تحولت لمتطفل على فنادق المعارضات الفاخرة وما حولها من مطاعم عربية وتركية وايرانية التي تقدم الطعام الفاسد لكن بأسعار الساعات الفارهة … فجنيف باختصار هي عاصمة المال والضياع، تضيع فيها عن موقعك فيدلك النت على غير مكان و غير اتجاه، فيها لا تستطيع تغيير الحجز أو إلغائه، فكل شيء نهائي ومسبق الدفع وغير قابل للعودة كساعاتها… جنيف مقبرة المال والقضايا كأعماق بحيرتها الباردة… وليس آخر الغارقين فيها قضية الشعب السوري وأموال الفاسدين وجرائم الطغاة …

وقد حضرت لمدينة الضياع عدة وفود أملا في إيجاد الحل، أحدها باسم النظام مع أنه يمثل الهمجية وعصابات التشبيح والذبح والتعفيش، والآخر هو وفد ايران الذي تمثله المعارضة الداخلية التي دعيت على عجل من قبل ايران وبالتنسيق مع الحكومة السويسرية دون علم دي مستورا، وهي معروفة الولاء لأجهزة الأمن والسفارة الإيرانية، والثالث هو معارضة موسكو التي تمثل العدوان الروسي الهمجي والدعارة العالمية معا ومتحدين، والتي دعيت تحت مسمى استشاري للتمويه لكن باسم المعارضة أيضا، وكذلك حضرت بعد تمنع ودلال معارضة الرياض التي تشكل وفدها من رجالات النظام السابقين المنشقين ، و بعض المندسين من قبله أيضا، حالهم كحال هيئة التنسيق وما لف لفها، والتي تمثلت بكل الوفود ما شاء الله، حتى تقلصت حصة المعارضة الحقيقية في التمثيل لأقل من الربع. وبالكاد تمكن وفد الرياض ادعاء تمثيل الثورة السورية عبر إضافة بعض ممثلي الفصائل والجيش الحر، الذين تكيفوا بسرعة مع وسط الإفساد وتحولوا بمجرد وصولهم لمعارضة سياحية على الطريقة الائتلافية، وأضيف لكل هذه التركيبة وبذات الفنادق، وفود نسائية مختلفة الألوان والأطوال ومقاس الخصر، من الناشطات (السوريات افتراضا) اللاتي تسلقن على جسد الثورة وأدمنّ على الدعوات والمؤتمرات باسمها وهن منها براء… وحشرهم ديمستورا في ساحة التمثيل والسياحة السياسية الثورية ، كمستشارين وممثلين للمجتمع المدني ووو … بسبب ولعه بالمجتمع الأنثوي الذي هو عنوان الحضارة الاسكندنافية، مقارنة بالمجتمع الذكوري الذي هو عنوان الحضارة العربية الاسلامية … فهو لا يسير الا ضمن حشد من النسوة ولا يتحرك الا بوجودهن ولا يعترف بسلطة غير جمالهن وأنوثتهن المنفتحة والمدلوقة على كل ذكر بشرط أن يكون هزيلا عنينا ، ليمثلن حالة نموذجية من الليبرالية الديمقراطية المعاصرة، التي يعيشونها عنوسة وتطفلا وعطالة وهجرا تبشر كلها بالفناء والانقراض . كل هذا قد جرى وسط حشد من العهر الديبلوماسي العالمي الذي جاء للشماتة والتشفي وتدبيج الأكاذيب، وحشد مواز من الاعلام الحزبي المنحاز للمال الذي قدم هو الآخر لتدبيج التقارير وتلفيق الأخبار وتلميع الأحذية السياسية المختلفة المدعوة لتقرير مستقبل سوريا في جنيف …

تكوّن وفد معارضة الرياض من شخصيات متنافرة ومتباينة تعبر عن ما يسمى بالمكونات .. فهو أشبه بمجلس وطني يمثل التنوع وليس الثورة الموحدة على هدف واحد، لا جامع بينها سوى دعوة الرياض الاعتباطية … ولا توافق بينها على أي شيء سوى طاعة أوامر الأمير ومرافقه الخفير، وقد انشغلت في تفاصيل الحجوزات ومواعيد ونوعية الوجبات ، وكذلك زاد من انشغالها لقاءات السفراء الذين أغرقوهم بالاجتماعات المنفردة التافهة، واشغلوهم أيضا في الاعلام الذي حضر بكثافة وشرذمهم أكثر وأكثر ، حتى أن اجتماعاتهم لم تكن أكثر من مجموعة وقفات في الصالونات هنا وهناك مع هذه وتلك، و عدة دردشات مشتتة مع نسوة المعارضات السوريات ومرافقات الديبلوماسيين والصحفيات الذين أضفوا مناخا لطيفا احتفاليا على هذا المشهد السياسي والحضور الأمني، وعبروا عن القضية السورية كقضية صالونات خمس نجوم، وليس مقابر وخيام وجثث على الشواطئ … وهم بمنظرهم الاستعراضي بأجمل الأزياء وزعوا الكثير من الابتسامات السعيدة هنا وهناك، التي تعبر عن متعتهم المفرطة وسعادتهم التي لا توصف بالتقاط الصور وبفخامة الاهتمام، والتي تعوضهم عن شعورهم المزمن بالاضطهاد والوضاعة والازدراء من نظام الأسد الذي جاء جلهم من خدمته و زوجته التي فضلت استخدام الغلمان المخنثين .. بينما شعر من جيء به من رحم الثورة أنه في المكان والزمان الخطأ وتلاشى بين الحضور خجلا محتارا لا يفكر الا بشيء واحد هو الانسحاب الذي يمتنع عنه كي لا يأتو بغيره إليه …

بقي الوفد غير قادر على وعي أو بناء تصور ما جماعي عما يحيط به و يدور حوله وعن سبب ونتائج وجوده،  فهم مجرد منفذين جيء بهم إلى هنا من دون تعليمات فعاشوا حالة ضياع تام، لم ينقذهم منها سوى حضور رئيس الهيئة متأخرا ومستعجلا، لكي يدخل من فوره في اجتماع مع ديمستورا يبلغه فيه نيته الانسحاب من المفاوضات … بعد أن اكتشف أن الضمانات التي قدمت له شفهيا كوعود بالدعم، ماهي إلا كلام على هاتف … فأعلن ديمستورا على عجل تعليق المفاوضات بعد أن جلس وحده يتواصل مع عدد من القوى الدولية، مؤجلا موعد إطلاق رصاصة الرحمة على الحل السياسي وعلى سوريا أيضا… وهذا هو أول موقف أخلاقي يسجل له، لذلك اتهمه وفد النظام بالتحيز وهو محق في هذا الاتهام … بينما شعر كل أعضاء الوفد بعد التعليق بالارتياح البالغ ، بعد أن تحرروا ولو مؤقتا من واجب غير قادرين على أدائه رغم تبجحهم وتنظيرهم ومحاضراتهم …

بصراحة لا يستطيع هذا الوفد بتركيبته الحالية أن يتخذ أي قرار ، فلو لجأنا للتصويت الديمقراطي الحر داخل الوفد فسيكون القرار بيد هيئة التنسيق ومشروعها حيث هي من تهيمن عمليا في الوفود الثلاثة مع ملاحظة عدم وجود جسد سياسي لها في الشارع … لكن نحمد الله أن السعودية لم تعطيهم حرية القرار … فهي قد اختارت من تمسك بزمامه، ومن اعتاد على قول نعم سيدي من المنشقين ليمثل ثورة على العبودية والاستبداد … فعيب التمثيل أصلحه هيمنة الراعي ولولا ذلك لكانت كارثة… إلا من رحم ربي من الثوريين والمتعيشين عليها في الخارج ، والذين لا يملكون سوى خيار الاستقالة.

بكل تأكيد فاجأ طرح المسألة الانسانية وحماية المدنيين واتفاقيات جنيف بخصوص حالة الحرب والاحتلال (في الشارع ثم رسميا من قبل الوفد) الجهات الراعية… فضاعت الدول هي الأخرى في التيه، بعد أن توافقت في فيينا على تمرير جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية كُلّف الروس والإيرانيون وبقية ميليشيات النظام بتنفيذها، وكانت تنتظر شرعنتها بعقد مفاوضات صورية في جنيف … حتى فضحتها صور الضحايا القادمة من القصف الروسي الهمجي في حلب موضحة بشاعة الجريمة القادمة.

حالة الضياع شاملة فحتى الدول الداعمة (مجموعة الكور)  تعيش هي الأخرى مرحلة ضياع وتتخذ قراراتها بالأقلية،  بعد أن تحصل على موافقة دولتين أو ثلاث مع امتناع الأغلبية عن الالتزام به… فلا يوجد قرار حظي بموافقة الأغلبية أو دعمها في مجموعة الكور ( أصدقاء سوريا ) ، ولا في مجموعة فيينا، ولا جامعة الدول العربية أيضا، ولا حتى في دول الخليج التي هي آخر ما تبقى من عروبة … ولا هو ممكن في وفد المعارضة لو ترك له الأمر .

هكذا يسود الضياع كل الأوساط … وفد الرياض المفكك الحائر تاه أخيرا وهو يبحث عمن يحجز له بطاقات العودة فلا يجده، ووفد المعارضات الأخرى يستمر في الفنادق التي حجزت له بانتظار انتهاء الحجز وأغلبهم يفكر بالبقاء في أوروبا والتشرد فيها مستفيدا من الفيزا التي منحت له، أما وفد النظام فهو أيضا في حالة احباط وشعور بانعدام الأمل، وقسم كبير منه يفكر في الهروب وطلب اللجوء، ولا يمنعه سوى من تركهم وراءه في سوريا من أهله الذين هم بمثابة رهائن … ويشترك معهم في الضياع الديبلوماسيون الدوليون المحبطون أيضا، والاعلاميون الذي سارعوا للمغادرة متذمرين، بعد انتظار أيام تحت المطر والثلج من دون جدوى .

السوريون  أيضا ضائعون ومفككون (يحبون وطنهم ويكرهون بعضهم البعض). يعجزون عن التفاهم على أبسط القضايا حتى ضمن الحلقة الضيقة، لا يجمع السوريين اليوم  سوى صور القتل والدماء والتشرد وآل الأسد (سلبا وايجابا ) وهو ما يقسمهم أيضا… والأدهى من ذلك أن اجتماعهم يعيد التذكير بصور ورائحة وخطابات النظام وسجونه وقمعه ولم يستطيعوا الخروج من سجنها …

نعم لقد عدت للسجن وعشت ذكريات سوريا القمع الأسدي عندما اجتمعت مع ممثلي المعارضة بصورهم وأجواءهم ولهجتهم وعباراتهم وتصريحاتهم، وبكل صراحة أقول أن من تمثل في جنيف هو النظام وفقط النظام … فالنظام قد بقي فيهم ولم يغادرهم … ولا يهم بعد ذلك من سيحكم سوريا، لأن النظام الذي أعرفه فيهم شكلا وثقافة باق بالأسد أو بغيره … والشيء الوحيد الذي قد يسقط هذا النظام هو استبدالهم جميعا بسلطة وصاية وانتداب أجنبية.

فبعد أن أثبت السوريون أنهم عاجزون عن تشكيل أي حالة سياسية، أصبحت مطالبنا ليست الحرية والاستقلال والديمقراطية بل الوصاية الدولية، ثم تقلصت هذه المطالب نتيجة التخاذل والعنانة الدولية لإلزام الاحتلال الروسي باحترام اتفاقيات جنيف المخصصة لحماية المدنيين أثناء الحرب وتحت الانتداب ومنع التغيير الديموغرافي والسماح للمهجرين بالعودة، وهذا أقصى ما نستطيع أن نفاوض عليه في جنيف إذا استمرت ، وهذا شبه مستحيل كما يبدو … فالحرب والهمجية والضياع سيتمرون بانتظار تطور جامعة أخرى لكتل البشر المتوحشة التي كانت سابقا تسمى الشعب السوري …. أو اتخاذ قرار فاعل بارسال الجيوش لتحرير سوريا .

لقد ضاع السوريون وضيعوا وطنهم عندما صار ما يوحدهم هو رغبتهم العارمة في الشتم والتجريح والاتهام والقتل والاقصاء والتدمير، وهي كلها رغبات لها ما يبررها عند كل طرف … وعليه فالحال السوري يمثل حالة ضياع تام لمفهوم الوطن والشعب والدولة وسلطة الحق والقانون، وطغيان لحالة الوحشية وشريعة الغاب … ولن ينقذنا من هذه الحال لا جنيف 3،2،1، ولا جنيف 10 … ولا هكذا مفاوضات أو مفاوضين، فقد ضاعت سوريا وضيعتنا … ومثل حالنا اليوم  ( هلك سعد أنج سعيد … )

باختصار لم تشكل جنيف أي حالة جديدة مختلفة تفتح الأمل، بل بالعكس كرست الاستبداد والفساد وشرعنت الجريمة واعفت المجرمين من العقاب … مما سيعني استمرار الوحشية . وأفضل شيء فعلته هو فشلها وضياعها … ومن دون ثقافة جديدة  بقيم جديدة وشخوص جديدة، لا أمل في استعادة الوطن … بل هي الوحشية الجهنمية التي ستحكمنا …

باستمرار جنيف أو بموتها الهجوم البربري الروسي الإيراني مستمر ولن يتوقف حتى سحق كل المقاتلين !!! ، وفرض حالة إذعان عسكري طويل الأمد مترافق مع تغيير ديموغرافي هائل … ولن ينقذنا من هذا المصير سوى تدخل عسكري فاعل من الدول الشقيقة … مع أن ذلك قد يكون بوابة حرب اقليمية لا نرى مهربا من خوضها عاجلا أم آجلا. لكن خوضها عند بوابة حلب ودمشق سيكون أفضل من خوضها على أسوار الكعبة … والدول التي دأبت على رفض الخيار العسكري ها هي تحاول أخيرا فرضه بجيوشها … فلا نخدعن أنفسنا مرة أخرى ونضيع وراء سراب جديد… فالواقع يقول أنه لا مهرب من خيار الحرب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.