يثب

حكاية براغماتية جدا

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

قضى سجين (كان معنا في المهجع) ليله وهو يتصل بزوجته (رغم صعوبة الحصول على هاتف ) ، والتي لم تجيبه حتى الخامسة فجرا ، فانفجر في وجهها غاضبا متوعدا ناعتا إيها بأبشع الصفات،  ثم ما لبث أن هدأ وأنهى حديثه بالطلب منها أن تحضر له مالا في الزيارة القادمة…  وهكذا فالبراغماتية تتطلب منه تقدير ظرفه : فهو في السجن وهي تستطيع أن تفعل ما يحلوا لها، وهو يحتاج للمال بشكل ملح كزوجته. فلماذا يخسر المال أيضا إذا كان سيخسر شرفه حتما ، وبحكم الظروف التي وضع نفسها فيها …

هذه البراغماتية أيضا اعتمدها المجتمعون في الرياض : فإذا كان النظام باق فلماذا لا نستفيد من الفرصة المتاحة للتفاوض معه وكسب رضا الدول وأخذ حصة في مركبه، وإذا كانت الدول تريد وقف الثورة وقتال داعش بواسطة جيش الأسد، وهي من يدعم المسلحين المعارضين فلماذا لا يقبلون عرضها ويستمرون في القتال إلى جانبها مع جيش الأسد فيحافظوا على وجودهم وتمويلهم ويشاركونه السلطة رغما عنه… وإذا كانت أي عاصمة تستطيع أن تجمع من تريد من السوريين وتسميهم معارضة، في حالة من التغييب الكامل لإرادة الشعب السوري وللمؤسسات التي تتيح له التعبير عن نفسه، فلماذا لا تكون الرياض هي الداعي، ونكون نحن من يُدعى باسم هذا الشعب ونحصل على المعلوم … والمستور ، من صاحب الكرم والجود بدل أن يفعل غيرنا ونخرج من المولد بغير حمص ولا ملبس بلوز … لنكن براغماتيين قليلا ، فالسياسة ليست شعارات بل هي فن الممكن.

في حلب يسمون الرشوة رزقه فيقولون رزقناه أي رشوناه ، وأعطيناه رزقته أي حصته من الرشوة، وهي أيضا براغماتية تجعل من الرشوة رزقا حلالا فقط بتغيير اسمها … وسرعان ما اكتشفت الرياض أن سر توحيد المعارضة بتوحيد مصدر الرزق واليد الرازقة حسب التسمية الحلبية، وهكذا استطاعت بالرزق أن توحد من فرقهم الرزاقون، فإذا غيرنا اسم ويافطة الاجتماع وأعلنا أن الرشوة رزق وكرم وجهد طيب في سبيل توحيد المعارضة والفصائل في مواجهة النظام، (وليس لسرقة قرار الثورة وإنهائها واعلان انتصار النظام عليها بالضربة القاضية) … حسب مدول المصطلح وكما هو متوقع ومعلن من مسار فيينا… عندها سيصدقنا الناس ونصدق أنفسنا ونكون برغماتيين جدا، ويكون اجتماعنا هناك ناجحا بكل معنى كلمات مثل ( الكذب والخداع والتدليس والتآمر …)

الرياض لم تجد وسيلة لتوحيد المعارضة البراغماتية سوى استعمال البرغماتية ذاتها … أي براغماتية دفع المعلوم … المعلوم ذاته الذي جعل الزوج السجين يهدأ ويشرب سيكارة وفنجان قهوة عند الخامسة فجرا ، ويقتنع بانتصاره على التشدد والتطرف والارهاب في ذاته، وتسويد المعايير الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والتشاركية والتسامح مع الآخر وحرية الرأي والجسد وحقوق المرأة والمجتمع المدني …

وفي الرياض تقاسمت المعارضة السورية البراغماتية الرزق والغنائم والمنافع والأدوار والتصريحات ، وحصلت على تسهيلات سياحية غير محدودة للتنقل والإقامة والنفقات والترفيهات والأضواء الاعلامية والتمجيد الديبلوماسي … وأصبح زعيمها من دون منازع من كلفته السعودية ب (تدبير أمور الشباب) ، وصار قرار الشعب السوري بيده وحده يفعل به ما يفعله الباغي في بغيته التي تأخذ أجرها نحلة قبل أن يجف عرقها، طبعا بعد إذن معلمه أو في غفلة منه وانشغال … ( ومع قول:  سم يا طويل العمر .  وهات دولار وخود قرار . خوش معارضة والله) .

طبعا هذا النوع من التفكير الذي يسمي نفسه بالبراغماتي، يستخدم المصطلحات والمفاهيم كما يريد ويهوى، لأن تمثيل الشعب لا يحدده الآخرون، بل هذا هو سبب وعنوان الثورة، فهي ثورة حرية، فكيف يسمح قادة الحرية أن تحدد الدول (بل أشخاص انتهازيين نافذين عندها ) من يمثل شعبهم ، وتدعوا من تريد وتستبعد من تريد،  كذلك يبدو أن قيادة العسكريين والمجاهدين هم أيضا في غمرة حب الزعامة قد نسوا أنهم يقاتلون دفاعا ضد عدوان وليس حبا بالقتال، وأنهم ليسوا مرتزقة، وأن دماء المجاهدين لا يجب أن تراق إلا في سبيل الله وضمن حدود صارمة. (فكيف يتركوا قاتلهم حصينا آمنا ويقاتلوا معه)… هل نحن في ثورة وجهاد أم  مجرد ارتزاق وبندقية للإيجار.

فإذا كانت هذه البراغماتية هي منهج المعارضة السياسي ، فلماذا ثار الشعب وتسبب بتدمير بلده وقتل مليون من من خيرة مواطنيه وتهجير عشرة ملايين … كان من الممكن أن يترك البشار ليقرر عنه ويفعل به، بدل أن يستبدله بالبشير والأجير … ولماذا تعترض من تبيع جسدها على اسم زبونها طالما هو يرزقها ، أليس في ذلك مخالفة لقواعد البراغماتية التجارية ، واستخدام  للمعايير المزدوجة؟ .

ما نخشاه ونحذر منه بطرق ووسائل مختلفة (و قد يتسبب في زعل الكثيرين ممن لا نتعمد زعلهم)  أن يكون جهلنا بالنظام وعيوبه وحصرها بشخوص محددة دون دراية بالآلية التي صنعتهم وجاءت بهم للسلطة ، ولا التكوين الذي جعلهم على عداء سافر مع شعوبهم وحولهم لقتلة مجرمين ، هو سبب في تجديد هذا النظام وصناعة شخوص مشابهة … وتكرار المأساة والمصيبة … نظرا لتغييب المبادئ والقيم بحجة البراغماتية المزعومة ، بدل أن تحترم ولا يتم التنازل عنها . فالمطلوب اليوم هو وقف الدم ، والطريقة البراغماتية الوحيدة هي تطمين القاتل والسفاح بأنه باق في السلطة ولديه حصانة مسبقة عن كل أفعاله ، وبالتالي هو ليس مضطرا للقتل إذا كان سيحصل على ما يريد بالتفاوض.

المشكلة في هذا النوع من البراغماتية أنها تأتي بالرزق المعلوم ، وكل طرف فيها يشعر أنه ربح، لكنهم في الواقع يخسرون جمعا وقصرا بسببها،  لأنها تضيع قيم الصدق والشرف ذاتها، وتمحي الفارق بين الزوج والقواد … والثورة والزعرنة، والنصر والاستسلام، والأمانة والخيانة، والنظام والمعارضة ….  وتضيع كل أسس للاجتماع الانساني وتعيده لعصر القطيع والوحشية.

نعود من المعارضة السياسية لصاحبنا السجين الذي طال وطال سجنه بسبب براغماتيته ذاتها، فقد اكتشفت زوجته الديمقراطية الشعبية الليبرالية المدنية العلمانية التعددية أنه ليس من مصلحتها أن يخرج قوادها من السجن، فخصصت حصة من وقتها الثمين وكسبها الحلال لرزقة القاضي كي يبقيه أطول فترة ممكنة داخل القضبان … فالعدالة أيضا براغماتية ، والقاضي أكثر براغماتية من الجميع …  وكفاكم الله شر العدالة الانتقالية ، فهي أيضا تقيم المحاكم لكنها تشترط إعفاء الجاني من العقاب مسبقا. فكيف إذا كان قاضيها براغماتيا أيضا … عندها ستكون النتيجة :

سلطة انتقالية مدنية علمانية براغماتية مشتركة بين النظام والمعارضة تحارب التطرف والإرهاب. وخلينا بالسجن … وخِلْصت الحكاية ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.