يثب

المؤامرة الصهيونية والفشل العربي

د . كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بدل أن تؤدي المنظومة العقلية  السياسية العربية التي حكمت قرابة قرن من الزمن إلى تقويض اسرائيل ورميها بالبحر كما تدعي … أدت بعكس ذلك لتقويض معظم دول المشرق العربي ورمي شعوبها بالبحر، واستمر الخطاب السياسي العربي يحضر للحرب الفاصلة مع العدو الصهيوني حتى انقلبت جيوشه العربية وميليشاته المقاومة على شعوبه قتلا وتشريدا … وبقي أغلب الشعب الفلسطيني يعاني مرارة التشرد وفقدان الأمل والحقوق، فأصبحت الثورة على النظم السياسية العربية والاسلامية التي جسدت هذه المنظومة، غير قادرة على النجاح من دون ثورة ثقافية عقلية مفهومية على نظم العقل السياسي برمتها …

وجد العقل الدوغمائي العربي تبريره المنشود المقنع في قيام دولة اسرائيل بنتيجة الحرب العالمية الثانية، فأقام منظومة عقلية متكاملة وصلت لحد الحقيقة المطلقة والمؤسطرة تتمحور على نظرية المؤامرة، حكمت هذه المنظومة العقل العربي بكافة أجنحته السياسية ، والذي استورد الفكر القومي الأوروبي المتمحور على الذات المقدسة، واستورد معه معادات السامية وكراهية اليهود أيضا، ليستكمل مع قيام دولة اسرائيل بناءه كعقل دوغمائي منغلق قائم على مبدأ واحد من مبادئ العقل وهو التناقض الضدي، يوزع الخير والشر تبعا للذات والآخر ، ويمحور الخير والحق حول الأنا الموحدة اسطوريا ورمزيا بطريقة شمولية، ويموضع الشر والاجرام في الآخر والمختلف، ويبحث عن تلخيص لهذا الشر وتمركز شياطني له في آخر مميز ومحدد ومتجسد ( الكيان الصهيوني الشيطاني) ، يستخدم كضد كلي نهائي مطلق، لا تقوم المنظمة العقلية الدوغمائية الضدية من دونه …

وهكذا استخدمت الأنظمة العربية الشمولية والفاشلة والمستبدة هذا العقل  إلى أقصى حد ، للتحلل من مسؤوليتها عن الانهيارات والكوارث التي تحدث للمجتمعات والشعوب العربية … فمنطقها يقول أنه طالما أننا لم نهزم هذا الشر المتمحور في الكيان الصهيوني كشيطان متحكم بالعالم، فنحن لا يجب أن نتوقع أي تقدم في أي مجال … وعلينا تأجيل البحث في أي قضية تنموية وديمقراطية والتفرغ للمعركة المصيرية التي تمحورت حول القضية الفلسطينية التي صارت هي القضية المركزية والتي لا شيء يعلو عليها … ولكن وبذات الوقت عملت هذه الأنظمة على اقامة علاقات سرية نشطة مع اسرائيل وقدمت لها التطمينات، بأنها لن تقوم فعليا إلا باستغلال هذه المنظومة للاستمرار في السلطة …ولن تشكل أي ضغط جدي على أمن اسرائيل، وهذا ما طبع سلوك محور الممانعة والمقاومة وما يزال … والذي تسبب في تراكم العجز والفشل والأزمات التي انفجرت أخيرا على شكل ثورات تحولت لحروب أهلية بسبب تحكم ذات العقل بطرفي الصراع، حيث عملت المنظومة العقلية الاسلامية هي أيضا على اعتبار السلطات الفاسدة كنتاج للفعل الصهيوني وليس تعبيرا عن تخلف ثقافي ومجتمعي مدني. مما كرس حالة العجز والفشل عن التصدي للهدف المعلن، وحول التمسك به لعنوان للفوضى والتفكك والهزيمة .

فالمنظومة التي تركز كل شيء حول القضاء على العدو الصهيوني متجاهلة قضايا التقدم والتحول المدني والديمقراطي ، تعمل فعليا لخدمته وحمايته وسحق شعوبها ومجتمعاتها ودفعهم للتخلف الذي لم تعد هي سببه بل اسرائيل، فكل مصيبة وكل كارثة كائنا من كان مرتكبها لا يتحمل مسؤوليتها فاعلها الذي يتمتع باستبداده وفساده، بل تلقى هذه المسؤولية على اسرائيل المدبر الذي نعطيه قدرات اسطورية تصل حد الشرك بالله ( نعدد منها في سوريا كامل جرائم النظام وحزب الله وايران وداعش وروسيا كلها تتحول لجريمة موجهة ومدارة من قبل اسرائيل ولا مسؤولية تقع على مرتكبها الذي يتمتع بالحصانة من الاتهام لكونه (مسيطر عليه ) من قبل اسرائيل ) والبرهان على ذلك بسيط فطالما أن اسرائيل عدو وجودي مطلق فمن الطبيعي أن يكون لها مصلحة في أي مكروه يصيبنا ، وهذه المصلحة تجعلها مباشرة هي الفاعل المسؤول الوحيد عن كل شر، بعد اعطائها قدرات شيطانية تفوق امكانات البشر، وتتحكم بدول العالم وبالأنظمة والشعوب العربية لدرجة تدفع منطقيا وبشكل ضمني لضرورة الاستسلام لها كوسيلة وحيدة للبقاء …

و بذلك أصبح تفكيك هذه المنظومة ضرورة من ضرورات الخروج من حالة العجز والشلل ، ولكنه يظهر وكأنه دفاع عن الشيطان، وخيانة للقضية التي هي ليست أبدا الانسان العربي والفلسطيني… بل الشعار الذي يخدم بقاء الحاكم المستبد الخائن في السلطة . تفكيكها يمر حتما عبر تفكيك منظومة الأسطرة والشيطنة التي ألصقت في اليهود ودولة اسرائيل، فيظهر وكأنه دفاع عن الشر وخيانة للواجب وتفكيك للوحدة، التي لا تقوم على عناصر الذات المنسجمة، بل على تهديد العدو الخارجي  المتربص واستهدافه الخبيث لكل الذوات التي عليها أن تتحد، ليس بسبب متطلبات حاجاتها وعناصرها الداخلية المتوافقة، بل لمقتضيات الصمود والتصدي حتى لو كان اجتماعها على خديعة وتكاذب واغفال وظلم وجهل وتعصب، سرعان ما ينعكس على كامل المجموعة تخلفا وانحطاطا وصراعات داخلية وأهلية لا تنتهي ، تنقل الصراع مع عدوها المؤسطر لصراع داخلي مرير يخدمه…

ونحن في سوريا التي دفعت وما تزال الثمن الأكبر لهذه العقلية نحتاج فعلا لاعادة التوازن المنطقي، واستعادة العقلانية للفكر السياسي الذي نستخدمه، لكي نوجد الطريق الفعلي والحقيقي الذي يخرجنا مما نحن فيه، ويسمح لنا باعادة اعمار مجتمعنا وبلدنا وانضمامه لركب الحضارة. وعليه ربما قد نجد أن التفكير بطريقة أخرى سوف يقدم فرصة ذهبية لسوريا عامة ودمشق خاصة لكي تتحول لحاضرة التجارة والعلم والثقافة في الشرق الأوسط … مستندة على مشروع سلام تاريخي مع الدولة العبرية لا يقفز فوق حقوق الأخوة الفلسطينيين التي يجب أن تجد طريقها للتحقق عبر مسار اتحادي اقليمي واسع بالتعاون مع الشعوب العربية في المنطقة، التي عانت كثيرا من ويلات الحرب والصراع والتعصب والانقسام الطائفي والديني… وحان الوقت لصياغة برنامج اتحادي يشمل الشرق الأوسط كله ويركز على الجانب الحضاري والانساني وعلى المصالح المشتركة وثمرات التعاون بدل التركيز على أيديولوجيا الكراهية والعنف والحرب الدينية والطائفية والقومية العنصرية التي استمرت عقودا من دون أن تؤدي لنتيجة غير الدمار والخراب…

نحن نتطلع فعلا لمنظومة عقلية سياسية مختلفة تسمح بإعادة اعمار سوريا وبناء الحضارة التي تليق بأهلها وشعبها والتي ستقنع كافة مكونات الشعب السوري للعودة لحضن الوحدة والتعاون وبناء السلم الأهلي من دون اكراه، وبناء السلام الخارجي الذي سيفتح طريق التعاون والاتحاد أمام كافة دول المنطقة … وهذا يتطلب تفكيك كامل المنظومة العقلية الدوغمائية التي نحملها والتي تتمحور حول المؤامرة الصهيونية…

فإذا كانت قضية الانسان والتقدم والإزدهار والحرية، هي خيانة بنظر العقل الدوغمائي العربي، فهذا يعزز قناعتنا بضرورة الثورة والتمرد عليه، حتى لو كان شكل هذه الثورة وبحسب تعريفه (خيانة للقضية) التي أصبحت على نقيض مصلحة المواطن والوطن، وأوصلتنا لحال لا يحسدنا أحد عليه …  يتبع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.