متى تنتهي الحروب الصليبية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لا يغيب عن أي مراقب أن الدول الغربية تطبق فكرة صراع الحضارات التي طرحها صموئيل هنغنتون مع نهاية الألفية الثانية ، و تتعامل مع المنطقة بعقلية الحروب الصليبية التي بدأت قبل عشرة قرون تقريبا عندما استنجدت بيزنطة ببلاد الغال بعد انتصار السلاجقة عليها ، ولا يخفى عن قارئ التاريخ الأهداف العسكرية الاقتصادية التي تختبئ وراء الشعار الديني المعلن ، و لا كونها هي ذات الأهداف التي تختبئ اليوم وراء شعارات أخرى إنسانية ليس فيها للصليب حصة ( نشر الديموقراطية ، حقوق الأقليات ، محاربة الارهاب ) لأنها  هي نفس أهداف الماضي العسكرية الاقتصادية التي تتلخص في تمزيق واخضاع الشرق وفرض الخنوع عليه وسلب الخيرات بالقوة العسكرية منه  … لذلك نرى  أن ما يجري في سوريا هو استمرار لتلك الحروب الصليبية ، بغض النظر عن اسمها المزعوم . وبغض النظر عن أهدافها المعلنة وشعاراتها والتي هي ليست أكثر من تمويه  وتورية وخداع ينطلي فقط على المغفل ، أو من يريد أن يستفيد من هذا الخداع والتضليل الذي يتخذ الدين وسيلة لتقديس الحرب والغزو والتسلط  .

فالحروب الصليبية رغم اسمها لم تكن حروبا دينية أو بين ديانتين حتى لو رعاها البابا ، فالحملة الصليبية الأولى قد استهدفت المسيحيين من أبناء المنطقة والمسلمين على السواء ، ودمرت القسطنينية ذاتها عاصمة البيزنطيين ، و أغلب المسلمين  قد عقدوا مع الصليبيين  الصفقات والتحالفات ودفعوا لهم الجزية ، بينما استمروا في قتال بعضهم البعض ، بمن فيهم العباسيين والأيوبيين و الفاطميين والمماليك والمغول والفرس وغيرهم … فالشعار الديني المرفوع في تلك الحروب لم يك أكثر من علم يخفي وراءه تداخل وتشابك المصالح بين الحكام المحليين وبين الفرسان الغزاة الباحثين عن السلطة والمال التي حرموا منها في بلادهم … وأن الدين كان آخر همهم ، و مرضاة الرب مفصلة على قدر كنوزهم .

أي أن ما يسمى صراع ديانات أو طوائف أو هويات ( أو صراع حضارات ) ، ليس إلا خدعة وكذبة كبيرة يستخدمها الحاكم لجر شعبه للموت من أجل سلطته ، لأن الصراع الفعلي هو صراع سلطات ومصالح تمت صياغتها بشكل ديني عنصري عسكري ... ومع ذلك تطغى اليوم في الشرق الأوسط هذه الشعارات الدينية من جديد ، وترسم خريطة الجبهات الدينية والطائفية التقسيمية فيه ، والتي تبدو للمحلل الاستراتيجي أنها وهمية ومضللة وذات مضمون  لا علاقة له بالهوية ولا بالدين ، رغم أنها تحاول استعادة ماضي مات ولن يعود إلا بشكل مصطنع وأخرق . فلا أوروبا ولا روسيا مسيحية أو تهتم لشأن بيت المقدس بقدر عقود النفط ، ولا إيران يعنيها الانتصار للحسين بقدر سلب وتعفيش أموال السنة ، ولا الأقليات أمم قومية مكتملة التكوين ، ذات استمرار تاريخي سياسي سلب منها لكي تستعيده ، ولا المسلمون موحدون في مذهب أو وراء خلافة ، ولم يتحولوا بسبب صراعاتهم لدول فاشلة،  وأمارات حرب متنازعة ومتقاتلة ، أو سلطنات قوة وقهر لا تختلف عن غيرها ، أو اسلاميين يقاتلون بعضهم أكثر بكثير مما يقاتلون الكفار …

أوروبا المسيحية بما فيها روسيا التي دخلت أزمتها الدائمة بعد تحرير المستعمرات بنتيجة حربها العالمية الثانية ، تتوهم أنها تنتصر وتخرج من أزمتها بتفكيك وتدمير البلدان العربية والاسلامية ( تبعا لأهداف الحروب الصليبية ) ، لكنها عمليا تزيد وتفاقم من مشاكلها وتفقد حلفاءها وتقوض اقتصادها بتلك الحرب ، وتغفل أنها تعاني من أمراض اقتصادية ذاتية قاتلة لن تستطيع تجاوزها من دون تغييرات جذرية في بنيتها وسياساتها ، ومن دون شراكة حقيقية مع رافعات من بقية الشعوب الفتية الصاعدة الموجودة في الجنوب والشرق، الذي لم يعد مجرد مستعمرات مستباحة للنهب بل أصبح مشكلات تحتاج لموازنات وسياسات فاعلة لتجنب خطرها ،  وأزمات سرعان ما تنتقل لعقر بلدانهم ذاتها إذا لم يحلوها ، بل أصبح تطوير الجنوب وتحسين شروط العيش فيه هو المنقذ الوحيد لأوروبا من هجرات وهجمات وانزياحات سكانية هائلة تطيح بتركيبتها السكانية … بحملات معاكسة في الجهة للحملات الصليبية  تستخدم أسلحة مختلفة  لا قبل لأوروبا بها ، ففشل الاتحاد الأوربي الوشيك وانهيار اقتصاداته لن يحله تخريب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولا تقسيم العراق وسوريا وتركيا والسعودية والسودان وليبيا واليمن ، ينقذه فقط أن يستهلكوا على قدر ما ينتجوا وينتهوا من كذبة مجتمع الرفاهية الذي عاشوه على حساب غيرهم .

وإيران السكرى بخمرة الانتصارات العسكرية على العرب والسنة ، الزاحفة وراء جيوش الغزو الغربي والهمجية الصليبية ، تستعيد ذكريات حلفها التاريخي معهم  ، لكنها لا تدرك أن مجتمعاتها  لم تعد تحتمل المزيد من الخسائر البشرية ، وتتوهم أن الشيعة موحدين ومتماسكين خلفها ، وأن شعورهم الديني هو الذي يحركهم وأنهم ما يزالوا راغبين في الثأر لمقتل الحسين بن علي ، عبر خوض حروب عبثية مدمرة ليس لها أي هدف منطقي ، وتنسى أن أغلبهم  يتعامل مع الدين بطريقة براغماتية جدا فيطوعه على قدر مصالحه ، وأن عينهم على نموذج الحياة العصري الاستهلاكي … وأن النظام في ايران سيخسر دعمهم بسبب تضارب مشاريعه مع مصالحهم . وتنكر إيران ومرجعياتها أن المهدي (على فرض ظهوره ) سيكون عدوا لها لأنها تمهد لقدومه المزعوم بتخريب العالم وارتكاب المجازر ضد الانسانية في العراق والشام واليمن .

والكرد أيضا المندفعين بتحريض غربي يشبه تحريض العرب على الانقلاب على الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ، والذين يعيشون نشوة الشعور القومي التي أصابتهم متأخرة جدا ، سيكتشفوا أن العملة القومية قد فقدت قيمتها في زمن العولمة الذي تجاوزها ، وأنها لا تستحق كل تلك الحروب والعداوات ، وأنهم لن يكونوا قادرين على تشكيل دولة موحدة ذات نظام عادل، بل مجموعة دول وامارات متنازعة ، بسبب نقص التكوين القومي التاريخي لكل قوميات المنطقة المتداخلة . وأن وعود الغرب لهم لن تكون أفضل من وعوده للعرب، وأن تعامله معهم ليس إلا باعتبارهم مجرد أدوات .

صحيح أنه في هذه الحرب لا يستطيع العرب ومعهم السنة الآن تشكيل قوة عسكرية موحدة تقاوم الغزو الصليبي كما كانوا يفعلون في التاريخ ، لكنهم ببساطة شديدة أثبتوا  قدرتهم على التماسك الأصولي والانغلاق على الذات والمقاومة ، بل نقل الحرب لأرض العدو بواسطة المنظمات الجهادية المتشددة ( التي اعتبرها الغرب إرهابا ) والتي تستطيع حماية الهوية وتعميم الخراب ، وجعل الحرب على الاسلام خسارة للجميع ، فهي السلاح الذي عوض التخلف العسكري الهائل ، لذلك يهتم الغرب كل الغرب في القضاء عليه منذ عقود دون فائدة ، ومشكلتهم فيه أنه عقيدة وآيديولوجيا قادرة على الانتعاش والظهور في كل وقت وكل مكان وبحسب الظرف والحاجة ، حيث يستعمل الترهيب كسلاح بيد الضعيف في مواجهة غطرسة القوي . وحيث تغطرس القوي بحق الاسلام ظهر هذا الفكر وهذه المنظمات التي أصبحت أقوى من الجيوش وأشد أثرا ، والتي صارت موجودة كالجمر تحت الرماد في طول العالم وعرضه ، تضرب مزاجيا وحيث شاءت من دون قيادة أو تحكم ، ودخلت أفكارها كجزء مكون للثقافة التي تتناقل عبر الأجيال .

فبسبب حجم العرب والسنة الهائل وبسبب ثقافتهم ، وبسبب دينهم الذي أباح لهم استخدام العنف ذاتيا في الدفاع ، وشجعهم على الاستشهاد ، و وعدهم بحياة أخرى ، لا يمكن التفكير بهزيمتهم كأمة دينية أو كدين ، هزيمة لا تقوم لهم قائمة بعدها  من دون ابادتهم ، فمهما كانت وأينما كانت حدود الجبهات ، سرعان ما سيتكيف هذا الكم مع الواقع الجديد ويستنزفه ويهزمه بفعل كتلته الضخمة ذاتها وآليات الهضم والقضم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية … فأي نصر عسكري على الاسلام  هو نصر مؤقت بل زائل ، والمسألة ليست الفلوجة ولا حلب أو الدولة المفيدة أو شريط من الدويلات الأقلوية ، المسألة تشمل عالما واسعا ممتدا من أندونيسيا حتى مراكش ناهيك عن الجاليات الاسلامية في كل مكان ، الاسلام يزداد شعوره بذاته ووعيه لها، ويسعى لاستعادة دوره جمعا كأمة في عصر العولمة ، الاسلام ليس فقط طموح لشخص أردوغان أو خادم الحرمين ( حتى العلمانيين والشيوعيين اليوم يقرّون أن هوان وضعف وتفكك دول العالم الاسلامي ودخولها مرحلة الانحطاط والفشل والهوان ، لم يكن ليحدث لو استمر نظام الخلافة الاسلامي، وأنه لا مخرج لهذه الدول إلا باستعادة نظام اتحادي اسلامي ما ، تمهيدا لدخولهم كهوية في عصر العولمة ومشاركتهم الفاعلة في نظامها الجديد الغير أحادي ) … لذلك نرى أن أي حرب وجود مع الحضارة الاسلامية التي تشكل ربع العالم هي حرب عبثية وخاسرة ( بعد طلب الإذن من السيد ترامب ونظيره بوتين ) …

إذن نتائج الحروب الصليبية الجديدة ، وهزيمة الاسلام السنة التي نشهدها في الشرق الأوسط : أقصد العراق وسوريا ولبنان  ليست دائمة وليست نهائية … فبعد عشرة قرون من الصراع ، وتسع حملات صليبية ، و حربين عالميتين تتعرض المنطقة من جديد للحملة الصليبية الثانية عشر بقيادة الرفيق بوتين ، ودعم ودعم أوروبي مستور ، من دون أن يتعظوا من إحدى عشر فشلا سبقها … فالاسلام قد أصبح أقوى وأوسع انتشارا ، ومجتمعاته تزداد حيوية وتقدما ونموا ، والثقافة الاسلامية يعاد تنظيمها وانتاجها ، وبسبب الحروب عليهم أصبح لهم جاليات هامة في كل دول العالم سيكون لها دور كبير في تغييره ، والاسلام بعكس معظم الديانات في مرحلة صعود وحيوية .

وعليه لا يجب أن ننخدع بتسمية الحروب ، أو ننجر لتبني شعاراتها الدينية ، و لو تعامل السنة مع الاستفزاز الطائفي الشيعي بقليل من البرود ، ومع النفخ القومي الكردي أيضا ، لفقد الغرب الصليبي معظم أدواته التي يحركها ، وانقلب الكرد على قادتهم الموتورين والشيعة على نظامهم اللئيم … وأسقط بيد الغرب الذي يستخدمهم كأدوات والذي صار يتخوف من الدخول بجنوده للمنطقة بعد درس أفغانستان والعراق … ولو قدم المسلمون السنة أنفسهم بطريقة أخرى ، مختلفة عن طريقة التطرف والتعصب ، عندها نعتقد أن الوضع سيكون مختلفا جدا . فالتطرف لا يجب أن يكون صورة الاسلام ، وإن كان ظفره الرادع الذي لا يستخدم إلا للضرورة في الظروف الاستثنائية .

العولمة قد أوجدت أرضية جديدة مختلفة لقيام الدول ، ليس للهوية و لا الدين فيها إلا دور شكلي . وتغير العوامل الاقتصادية الحاصل هو كبير لدرجة قادرة على نقل سوية الصراع وتجاوز الأزمة التي ما تزال تراوح في منطق ومفاهيم القرون الوسطى ، وقليل من الانجازات المعرفية والتقنية الجديدة ستكون كفيلة بمحو ما تبقى من حدود  بكل أشكالها السياسية والتجارية والثقافية ، عندها تنتهي كل انتصارات الصليبيين والفرس وغيرهم في المنطقة إلى لا شيء ، ويبقى عليهم التعامل مع مليار ونصف مسلم يشكلون أكبر أمة دينية وربع العالم ويمتدون على مساحة جغرافية واسعة جدا ويتمسكون بهويتهم ودينهم . بينما تفقد المسيحية دورها في الحياة وتنزوي في المتاحف وقرب المقابر ، وتفقد الحضارة الغربية قدرتها على التفوق ، وتتراجع بسرعة أمام الشرق والجنوب الصاعد ، وهكذا فالحاضنة الاجتماعية المفترضة للحملات الصليبية ، والعقيدة المسيحية التي يفترض أنها تقوم عليها تزداد ضعفا وتآكلا ،  وهو السبب الحقيقي لتوقع نهاية الحروب الصليبية التي هي حروب استعمارية كما أسلفنا ولا مبرر ديني لها … في حين نلحظ عودة طاغية للهوية الاسلامية في وجه الهيمنة الأحادية الغربية … وما هي إلا عقود حتى ترى جيوش المسلمين تلعب دورا هاما في حفظ نظام العالم الذي يفتقد للقيم والقوة المطبقة لها . لكننا يجب أن نستمر في خشية التعرض لحروب مغولية جديدة إذا لم يتم احتواء تقدم الصين الذي يقوض حضارة الغرب ، وفي هذا وعليه سيكون المسلمون والمسيحيون حلفا واحدا ضد هيمنة أحادية جديدة صاعدة في أرض يأجوج ومأجوج التي لا تحمل مشروعا انسانيا غير السيطرة والعنف . والسياسي الغربي الذكي هو من يدرك حيوية التحالف مع العالم الاسلامي وليس الحرب عليه .

إذن هذا الصراع العبثي الراهن الدائر في الشرق الأوسط ليس صراع ديني ولا صراع حضارات ، بل هو صراع عصبيات لا طائل منه ، قائم بين أصوليات صليبية وعنصرية قومية تقابلها نظيرتها العربية والاسلامية ، تحركه أنظمة غبية حاقدة لا تفكر بعقل حضاري حديث ، ونتيجته ستكون كارثية على الجميع ، وسينتهي بسقوط هذه الأنظمة الغربية والمحلية والاسلامية المتعصبة ، بعدها … ستكتشف الأجيال القادمة طريقة تفكير أخرى لا تعود لعشرة قرون في الماضي بل تنطلق من حقائق الواقع الراهن ، وسيعرف المسلمون كيف يثبتون وجودهم ودورهم التاريخي الحضاري في العالم …  فمهما اشتدت الحملات الصليبية والصفوية على الشرق الأوسط ، فإن الاتحاد الأوروبي آيل للتفكك والنظام الإيراني أيل للسقوط ونظام بوتين وأوباما وبكين وناتانياهو أيضا الذين يحملون عقل وذهنية الحروب الصليبية ، ويشكلون الوجه الآخر للبغدادي والجولاني ، وسيبقى العراق والشام منارة العالم الاسلامي وقلب العروبة الحامل الثقافي للاسلام  الذي لا يعرف نفسه كعدو للمسيحية …

وإننا لعائدون .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.