يثب

تقييم لأداء المنسحبين من الائتلاف

د .كمال اللبواني
Kamalكانت الأمور تتجه قبل جنيف نحو فرز حقيقي لقوى الثورة عن قوى العطالة الملتصقة بها التي ظهر عجزها وبان فشلها وتفريطها، وبدت لحظة جنيف لحظة فاصلة في المواجهة بين التيارين، وارتفع مستوى التوقعات بظهور الجبهات الأربع وبموقفها المتماسك الموحد تجاه النظام وداعش، والذي تناغم مع الموقف الصلب لكتلة المنسحبين الـ 44 من الائتلاف ذلك الموقف المتعلق برفض جنيف أو التحاور مع القتلة، والمتعلق أيضا بالفساد والفشل الإداري المستشري في مؤسسات المعارضة. مما شكل تيارا إصلاحيا عريضا كاد أن ينتصر خاصة بعد قرار انسحاب المجلس الوطني أيضا من عضوية الائتلاف.
ولكن الذي حدث أن تدخلت الدول الراعية (أمريكا وساندتها السعودية) بعد أن اجتمعت في باريس على عجل.. ومارست سياسة تعتيم إعلامي كامل على معارضي جنيف، ثم أجبرت تركيا وقطر على التضييق عليهم أيضا، ودعوتهم للتهدئة ومنعت مثلا عقد المؤتمر الصحفي للمنسحبين، ثم مارست الضغط على المنسحبين للعودة، فعاد سريعا المجلس الوطني المهلهل والمحكوم من جماعة الإخوان والفاقد للمصداقية منذ زمن طويل. وأعلنت الحرب الضروس على معارضي جنيف المتمردين عبر محورين، واحد عبر قطع الدعم عن الجبهات الإسلامية، ومعها كل القوى التابعة للأركان التي لم توافق على جنيف تلميحا آو تصريحا، وفي سياق ذلك تأتي إقالة الجنرال سليم ومحاولة القفز فوق المجالس العسكرية المتبقية وقادتها والجبهات الخمس .. ثم تصنيف بعض القوى الإسلامية ضمن منظمات الإرهاب، والمحور الثاني عبر كبح جماع المنسحبين ومنعهم من السير باتجاه تشكيل جسد قيادي (عسكري -سياسي مشترك) جديد للثورة، وإغلاق مسار إنضاج حالة فرز سياسي واضح ونهائي بين المعارضة الحقيقة وبين الوكلاء والطفيليات والمتسلقين على جسدها..
والسبب الرئيس لفشل هذا المسعى وعودة الخلط بين الخبيث والطيب وتعويم الأمور من جديد، ليس فقط الضغوط الخارجية التي لا يجب أن تؤثر على القرار الوطني، بل لأن هؤلاء المنسحبين ليسوا (إلى تلك الدرجة) منتمين للداخل ومنقطعين عن الخارج، بل هم ما يزالون يحترمون كثيرا قرار الدول الداعمة، وما تزال علاقتهم بالداخل هي علاقة تأمين الدعم، وهذا ما يناقض الدور الذي كان عليهم أن يلعبوه لإنقاذ الثورة والحفاظ على وطنية قرارها.. صحيح أن بعض الدول لم تصرح بدعم مثل هذه الخطوة الانقسامية خوفا من غضب أمريكا التي هددت وتوعدت، لكنها كانت ستقوم بذلك لو نجح هؤلاء بالاستمرار وفرضوا أنفسهم كحالة راسخة وأمر واقع، خاصة مع تعزيز ارتباطهم بقوى الثورة على الأرض .. لكن المنسحبين ولنقص الخبرة القيادية الثورية عندهم، القادرة على التقاط اللحظة التاريخية والقفز السياسي السليم فوق التناقضات والمواقف المختلفة، ولنقص روح الثورة التي لا تنتظر موافقة أحد ولا تشترطها، ضاعت الفرصة من أيديهم وضاعت معهم قوى الأرض التي أملت بهم وساندتهم وكادت تسلمهم الراية..
ولو حصل وساروا نحو جسد سياسي مستقل، لم يكن الدعم لينقطع عنهم كما توهموا وصدقوا، ولكان هذا الجسد سيستمد شرعيته المتزايدة من فشل الائتلاف المتراكم، ومن خيباته وممارساته الخاطئة التي توجت بتسمية جمعة تدعوا لإسقاطه بكامل رموزه، ولكان الجسد الجديد قد انتزع الشرعية كاملة من الائتلاف بمجرد فشل جنيف الذي كان مؤكدا وحتميا .. مما سيجعلهم المعنيين بقيادة الثورة واقعا وفعلا، مما سيجبر كل الدول على التعامل معهم كقادة حقيقيين، ولكانت الثورة قد حققت قفزة نوعية في ردم الهوة مع الداخل والحفاظ على ثوابتها واستعادة استقلال قرارها الوطني. كل تلك الفرصة ضيعناها معا بسبب انتظار التعليمات من الدول التي لا تملك قدرات الثوار ولا حريتهم، والتي لا يجوز تحميلها مسؤولية قيادة هذه الثورة أصلا، نيابة عن الشعب السوري وممثليه الأصيلين.
في السابق عندما هددت ذات المجموعة تقريبا بالانسحاب من الائتلاف لأسباب أخرى، أدركت أنهم لن يفعلوا فنصحتهم بأكل البطيخ، لأنني مدرك أنهم سوف يجدون عملية التخلي عن الكراسي عملية صعبة… ليس لأنهم سوريون لديهم ولع هائل بها فقط، بل لأن أغلبهم لا يمتلك موقعا ثابتا في مؤسسة سياسية راسخة، وقد لا يمتلك التاريخ السياسي الكبير الذي يجعله واثقا من خطواته ومكانته .. لذلك تمكن منهم أيضا شيطان الكراسي، ودخل بهم من باب لحق حالك بالعودة قبل أن تصبح خارج اللعبة، وإمكانية العمل من الداخل، وإرادة المجتمع الدولي، ولا يوجد بديل، ولن يعترفوا بغيره، .. ومن هذا القبيل .. وتناسوا أنهم ليسوا وكلاء ولا مستخدمين عند أحد… بل يفترض أنهم قادة شعب ثائر يقررون ما يناسبهم ويعبر عنهم ويسيرون أمام الجميع مسيرة القائد الذي لا يتردد إن عزم وتوكل على الله.
واليوم.. وبعد أن عادوا، لن يقبل منهم أن ينتقدوا الائتلاف مرة أخرى، ولا التنصل من مسؤوليتهم عن خيباته وما أكثرها، فقد ضيعوا الفرصة التي سنحت أمامهم لتبرئة أنفسهم من تاريخه المعيب، وأيضا الفرصة لتشكيل جسد قيادي جديد للثورة، وأخروها لمسافة طويلة بسبب ترددهم، وبدلا عن ذلك استمد تيار جنيف بسبب عودتهم زخما جديدا، سيقدم بعده تنازلات أكبر بكل سهولة بعد فشل معارضيه وعودتهم لبيت الطاعة، المترافق مع تراجع الأداء العسكري المقصود والمخطط له دوليا، وفوق ذلك تكرست بعودتهم المستجدية زعامة جهة معينة وصائية على المعارضة السورية والتي تحتفل بإمساكها وحدها للملف واستعادة الهيمنة على قرار الثورة عبر وكلائها المطيعين لها فقط، والذين سيستمرون باحتكار القرار بالحسنى والعسرى لا فرق عندهم، فهم وكلاء أجهزة مخابرات في دول غير ديمقراطية لا يعنيهم مفهوم الديمقراطية ولا الشرعية وارادة الشعب ولا الشفافية والنزاهة فهي كلها مفاهيم خارج ثقافتهم وممارساتهم …
كل تلك الخسائر حدثت وتثبتت بمجرد قبول هؤلاء الـ 44 بالعودة (حتى من دون ماء الوجه)، الذين لم يدركوا أهمية ورمزية موقفهم، فلا حاسبوا ولا حاكموا ولا فتشوا بل دخلوا من فور عودتهم ببزارات تقاسم المقاعد وكأن شيئا لم يكن، ولن تغير نواياهم شيئا من تلك الحقيقة المرة … فحصتهم في الهيئة السياسية لم تزد عن الخُمس، وبالتالي حصتهم في القرار محدودة جدا هذا اذا احتكم للتوافق، وهو ما لن يحصل بالمسائل المهمة التي شاهدنا كيف يتم من أجلها استعمال المال والأيدي والقفز فوق كل شيء لتمريرها. ولن يفيد أيضا حتى لو استلم أحدهم زعامة الائتلاف كما وعد سرا، لأن تغيير الزعيم لن يغير بنية ولا دور المؤسسة بل سيتحولون هم أيضا إلى رواد جدد للفساد والفشل كما حدث بسابقيهم، الذين جاؤوا بنية الإصلاح المزعوم فوقعوا في مطب التكريس، لعيب تكويني دائم في بنية هذه الهيئة، وفي نظامها ودورها ومعايير تأسيسها وإدارتها، وهو شيء لا يقدر قيمته إلا السياسيين الذين يدركون فن بناء المؤسسات وإدارتها.
المصيبة أن كلا فريقي الائتلاف يشعر بنشوة النصر في وقت الهزيمة الحقيقية، فجماعة جنيف عادوا منتصرين فرحين وبعد أن غطوا على كل الكوارث التي تحصل في الداخل بمسعى سلام كاذب، وحولوا النظام المجرم إلى شريك في عملية السلام ! والمنسحبون أيضا يشعرون بالنصر بالعودة وهم من انسحب بإرادته وعن قناعة… فماذا حصل؟؟ هل حصّلت جنيف وعدا واحدا مما وعد به جماعتها بضماناتهم الأكيدة!! .. وهل حققت عودة المنسحبين بندا واحدا من أسباب انسحابهم التي أعلنوها !!… كيف انتصروا إذن !؟ .. نعم انتصروا كما انتصر البعث يوم حرب 5حزيران 67 بالبقاء على الكرسي وهو والله النصر المبين. فالخسارة الوحيدة بنظر أعضاء الائتلاف هي خسارة الكرسي …
أي بؤس وأي انحطاط سياسي؟
وبالتالي وبعد كل ذلك لا نستطيع إلا أن نقول (سلام على الائتلاف بكل من فيه .. بصالحه وطالحه) .. لأنه: لا هو يمثل الشعب، ولا هو قائد للثورة، ولأنه فاشل كمؤسسة قرار، ولم يميز بين الخبيث والطيب ولا بين الحلال والحرام، ولأن الثورة والشعب المعذب لن يستطيعا الاستمرار وراء قيادة مفروضة عليهم من قبل السفير والأمير وقرارها مصادر لصالح جهات وصائية لم تثبت إخلاصها للثورة ولا قدرتها على إنقاذ الشعب السوري أو تقديم إغاثة جدية له والذي (مع وجود الدعم العربي) ضاع بين محاصر ومشرد ومشوه وشهيد.
وبعد سنة ونصف من التجربة مع هذا الجسد القيادي المعطوب وما تفرع عنه من كيانات مشوهة مشلولة، نحن مقتنعون أن مسيرة الفشل وتراكم الأخطاء سوف تستمر وبسرعة أكبر.. وسوف يغرق المركب المخروق الأخرق ويغرقون معه جميعا، ويغرق معهم من يرعاهم ويديرهم من مسؤولين عن هذا الملف..
ولن تفيد في هذا الجسد المعطوب الجراحات التصنيعية: حتى لو وسّعوا وضموا إليه هيئة التنسيق والتصفيق وما يسمى بمعارضة الداخل كما هو مقرر من تحت الطاولة بالاتفاق الضمني مع الجامعة العربية وروسيا قبل جنيف 3، ولا ننسى إيران التي فجأة صارت صديقة لدول الخليج، لأن ذلك المسعى لن ينجح، فالباطل يفرق ولا يجمع وستشتد النزاعات بينهم جميعا، فقط من شأن ذلك المسعى الابتعاد أكثر عن الشعب والثورة، والتحضير أسرع لإعلان استسلامها (المنتظر من العدو والصديق) … والذي لن يحدث بإذن الله، وبهمة شباب ومجاهدي الثورة وصبر الشعب الذي يتحمل ما تعجز عنه الجبال. ولن يقبل مها طال الزمن وكبرت التضحيات ببقاء نظام الإجرام والله على ما نقول شهيد.
نقول ذلك من دون أسف على يوسف … بعد أن ضيعت الصيف اللبن… وضُرب عرض الحائط بكل المبادئ والقيم التي تجعل الحق حقا نتبعه فننتصر به على الباطل بمشيئة الله ووعده. لذلك نرى أن شعبنا وثورتنا ستدير ظهرها لكل هؤلاء و تتجه في مسار آخر نحو النصر بإذن الله ..
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا الإسراء (81) –
ونرى في النهاية أن تجربة المنسحبين الـ 44 ينطبق عليها عبرة الآية الكريمة:
هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ محمد (38)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.