يثب

اسرائيل عدونا التاريخي ؟!

د. كمال اللبواني
ألدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما زار البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في التسعينات ، وكعادته  – لكي يقبل تراب الوطن الذي يزور –  قدموا له ترابا محمولا من أرض مجزرة قانا ، ليذكروا العالم بهذه المجزرة المروعة التي حدثت بسبب سقوط قذيفة مدفع اسرائيلية على خيمة للأمم المتحدة ، فر اليها المدنيون هربا من المعارك البرية والقصف العشوائي الذي يرافقها .  يومها كتب صحفي فرنسي معلقا : إنه تراب جلب من أرض المجزرة الوحيدة التي لم يرتكبها اللبنانيون من بين عشرات بل مئات المجازر التي ارتكبت على أراضيهم في السنوات الماضية ..

طبعا هذا الصحفي الذكي أراد تذكيرنا بمجزرة عين الرمانة واهدن وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا …. وأراد أن يذكرنا بأن من قُتل على أيدي اللبنانيين من اللبنانيين  وعلى ايدي السوريين من السوريين أنفسهم أكبر بكثير ، و يذكرنا بمن يقتل في صراعات داخل كل شعب وكل طائفة وكل قبيلة … وبصراعاتنا الداخلية المستمرة  على كل شيء .. لكي لا نحصد في النهاية الا الدمار والخراب ، ولا نتوارث الا العداوات والكراهية والضغينة ….  وما يجري اليوم على أرضنا من بشاعات وبغض النظر عن مرتكبيه هو ادانة وعار لنا جميعا بنظر الآخر  .. بل بكل المقاييس …
يقف وراء هذا التخلف في الوعي العربي تراكم كم هائل من اللامفكر فيه بسبب تغييب العقل وتعطيله ، و من الممنوع التفكير فيه  بالقمع والتحريم ، و من المستحيل التفكير فيه لغياب الأدوات المعرفية القادرة على مقاربته ، والشعوب العربية  (بخطابها الأيديولوجي الحالي ) غير موحدة إلا بعداءاتها وأحقادها وعقدها النفسية والجنسية وتطرفها وتعصبها ، بينما تعصف الخلافات السياسية  بين دولها وداخل كل دولة، و تسيطر اللاعقلانية داخل كل معتقد، والتناقض داخل كل نفس حتى أصبح الظاهر عكس الباطن ، والقول مناقض للفعل ، ومع ذلك تأخذها العزة بالتخلف .. وتهدر خطاباتها بالوحدة من المحيط إلى الخليج، وتستعدي كلاميا كل جيرانها، بل كل العالم على الطريقة النازية،  وباستعمال ذات العقل النمطي الذي انتشر أيضا عند ضحاياه من عرب ويهود وكرد وأتراك وفرس وأوروبيين…
(أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة )، عليها أن تعد الجيوش وتحارب العالم الذي يتفرغ فقط للتآمر والعدوان عليها .. فالآخر هو حتما عدو امبريالي استعماري صهيوني ، أو مشرك صليبي ماسوني : عملا برؤية حزب التحرير الاسلامي وتفريعاته  وحزب البعث القومي ومثيلاته ، لنكتشف أن من طلب التوازن الاستراتيجي مع العدو ومن أراد مقاومة الشيطان الأكبر صرف كل مخزونه من السلاح على شعبه بطريقة جعلت العدو يشمئز من قبحه مع أنه عمل كخادم  رخيص له على مدى عقود ..
عادة نحن لا نسعى  إلى ما يوحدنا فعلا وعملا وواقعا ، ونترفع عن لغة المصالح المشتركة والتعاون المؤسسي ، واحترام القانون ،  وحرية الآخر وحقه في الاختلاف ، ونركز بدلا من هذه الواقعية البسيطة على عناصر وحدة بديلة وهمية تعظيمية افتراضية اسطورية شمولية نمطية أساسها الوحدة الفولاذية واللون الواحد والمجتمع المعسكر في وجه العدو المشترك والتاريخي ، لأن العدو فقط  هو من يعطينا وحدتنا ،  كوننا مجموعة قوى متصارعة وأفراد عاجزين عن الاجتماع الحضري المستقر ، فيعطينا عدونا المشترك تعريفنا لأنفسنا كوحدة وليس كفوضى .. فالثورة موحدة فقط في وجه بشار ، لكنها تتقاتل فيما بينها ، وسوريا موحدة فقط في وجه العدو الصهيوني  لكنها تخوض حربا أهلية في منتهى القذارة .. والسنة فقط في مواجهة الشيعة ،والعلويون فقط في مواجهة السنة … وهكذا  تضيع المفاهيم  و يتحطم الوعي  بسبب تشويش التعريفات الأسطورية الرمزية .. ونفقد صلاتنا بالواقع ونستمر في مسيرة الفشل والتخلف والعنف والترهيب والقمع ، طالما أننا نعرف أنفسنا بنقيضنا كأي مفهوم ، وليس ككل مجموعة انسانية متميزة .
في مقال قرأته في موقع الجمهورية بقلم (ياسين سويحة) ، يستعرض فيه الكاتب مبادرتي لتغيير نمط التفكير السياسي والبحث عن ثقافة السلام .. ويعتبر في النهاية أنها مبادرة خطيرة من شأنها أن تغير هويتنا التاريخية .. فنحن أعداء اسرائيل..  إذا صالحناها .. ماذا سيحصل ؟  ستزول هويتنا !  ..  وهناك مقال آخر في موقع الأورينت ( للكاتب اياد شربجي ) يمتدح المبادرة  ، لكنه يعترض عليّ كشخص ويشتمني ، فقط لأنه يمارس غريزة كره الآخر مهما فعل . فالخير يأتي من الذات و الأنا ، وليس الهو الذي حتى لو قدّم ما فيه الخير علينا أن نحاربه ..
وهذا يتوافق مع نظرية الفيلسوف هوبز الذي يقول أن الإنسان ذئب الانسان ، وليس أخا الانسان ، و نحن طالما نرى في الآخر العدو والمنافس الحقيقي وليس الشريك المفترض، وطالما أن الحذر والتوجس والكراهية تسبق الحب والتسامح وتطغى عليه ، وطالما أننا نتوارث العداءات ونورثها جيلا بعد جيل كتكوين صميمي في هويتنا الثقافية التاريخية  .. فنحن لن نرى في أي آخر أو مختلف الا العدو والذئب، حتى لو كان أخونا في الرضاعة ، وبدل أن نتوارث التسامح وندفن الخلافات كما ندفن مرتكبيها وشخوصها ، وهي سنة الكون المحكوم بالتبدل والتغير والتداول .. ونتعلم من الأمم كيف تغلبت على تاريخها المؤلم وحروبها وانطلقت في ورشات تعاون فوق قومية . نقوم على عكسها بتخليد الموتى وعبادة قبورهم  وتحنيط الخلافات ، وتجديد الندب واللطم عليهم مدى الدهر ، ونمارس القمع على كل مختلف أو مغاير أو متغير يمكنه المساس بالمقدس الثابت ، المكون جله من المحرمات والعداوات .
ولأننا أمة عظيمة جدا بالإمكانات ، وفاشلة جدا في الواقع : حيث انحدرت كلها لدول فاشية فاشلة متفوقة في الوحشية على ادغال افريقيا ، ومستنقعات آسيا ، وبالاستبداد على الخمير الحمر وستالين و ماو و نجاد ، .. لذلك يجب علينا كعقل مغلق أن نبرر سبب فشلنا  بعامل خارجي ، ونجسده في عدو تاريخي أسطوري  خبيث وقوي وقادر وشيطاني ، يتآمر علينا ويسيطر على العالم ويسخره لحربنا ، ونجعله  من مظاهر الشيطان على الأرض …  ونبني فوق تلك البديهية كامل عقلنا الدوغمائي القائم على والوهم والعداوات .
وهذا يذكرني بفيلم أمريكي بطلاه مجرمان  يتخيلان أنهما مطاردان  من البوليس السري فيفران ويسرعان في الطرقات في سيارتهما ولا يكتشفا أنهما واهمان الا عندما تقفز بهما السيارة المسرعة من فوق جسر بروكلن  وهما يحلقان في الهواء قبل أن يسقطا في مياه المحيط .
نعم اسرائيل اعتدت وطردت وحاربت وانتصرت .. لكننا لا نبحث  كيف جاءت وكيف قامت ولا الظروف التي أجبرت اليهود على الهجرة ، ونصدق أنهم جاؤوا  (في هذا القرن فقط ) ليحققوا حلما عمرة 2000 عام  لم يحرك هجرة واحدة ، وننسى أن غيرهم أيضا حارب واعتدى وقتل وارتكب المجازر وهو شريكنا في الوطن والهوية والدين بل مسؤوليته حمايتنا والدفاع عنا ….  ولا نفكر أنه آن الأوان لإيجاد  نهاية لهذه العداوة أو تلك … بين السنة والشيعة مثلا .. هل سنبقى نتربص بعضنا ونقتل أطفال بعضنا ونغتصب نساءهم ثأرا للثأر ..   هل نطلب من الفلسطيني أن يبقى هو و أحفاده لاجئا  من الدرجة الثالثة  يسكن مخيمات البؤس ، جيلا بعد جيل ، متمسكا بحلمه .. وليس هناك فرصة لعودته حتى لو جثة تطمح أن تدفن في حلمها .. وننسى اندماج مجموعات عرقية كبيرة هاجرت الينا وسكنت بيننا .. وهل على العالم العربي أن يضحي بتطوره وحضارته وديمقراطيته ومستقبل أجياله ويغرق في أزمات وتطرف .. من أجل التفرغ للقضية الفلسطينية عملا بشورى القومجيين … وهل نترك قضية فلسطين شماعة لكل الفساد والاستبداد والفشل الذي يتسبب به النظام العربي   …. أم علينا أن نخطط كما تخطط إيران ومنظمات الارهاب ، لخوض حرب تدمير وابادة مع الدولة اليهودية بالسلاح النووي والكيميائي.. حتى لا يعود أحد يستطيع السكن في أرض الميعاد ..
عادة الدول تقوم وتنهار، وتتغير حدودها التي ترسمها إما الحروب والدبابات أو الاتفاقيات، وعادة تتبع السيادة على الأرض لهذه الدول المؤقتة .. ونسأل من يقولون بالحق التاريخي في الأرض وليس الشخصي.. هل علينا أن نعود نحن العرب لليمن ، هل ننسى أن ابراهيم كرمز تاريخي وثقافي لأمتنا هو  أبوا اسماعيل واسحق ، وهو جد يعقوب اسرائيل أبو العبرانيين وهم شركاؤنا التاريخيين في هذه الأرض وذلك التاريخ .. أم ان التاريخ يبدأ وينتهي من وحيث نشاء ..
عندما راسل مسيلمة الرسول محمد طالبا منه تقاسم ملكية جزيرة العرب  .. رد عليه السلام  :
(من محمد رسول الله  إلى مسيلمة الكذاب
أما بعد
إنما الأرض لله يورثها لعباده من يشاء )
هذه هي  فلسفة رسول الله  لبناء قيم الانسانية الجامعة والأخوة في الله  على الكلمة السواء .
العبرة في الحرب والسلام أن الحرب تندلع عندما يأخذ طرف بالقوة من طرف آخر ما ليس له حسب اعتقاد الآخر ، فيلجأ المعتدى عليه للحرب التي هي خسارة مزدوجة لجعل المعتدي  يخسر  (بسبب العنف الذي ابتدأه) أكثر مما استفاد من جراء فعلته المتغطرسة، فالحرب تهدف في النهاية لتسويد العدالة والقيم رغم أنها حرب ، فتنتهي حضاريا بالسلام والتسويات التي لا تستقر الا على القيم والمعايير التي على القوة أن تحترمها وتنضبط بها وهذا هو المعنى العميق للحضارة وللخروج من الوحشية للإنسانية . فكل حرب يجب أن يتلوها سلام ، وكل سلام يبقى مهددا بالحرب ، اذا انتهكت القيم ، وهي سنة الاجتماع الانساني التاريخي القائم على الوحدة والتضاد معا.
مشكلتنا في سوريا والعرب عموما ليس أشخاص ( مثل بشار  أو القذافي )، بل الثقافة والمنطق والعقل السياسي الذي أنتج هذه النظم والقيادات والذي يبدأ من الغاء الآخر والتعصب وانعدام الحرية والشمولية والفاشية والصنمية النمطية ، فينتهي بعبادة الفرد والاستبداد والفساد والوحشية والجريمة ، فذات العقل سيجدد انتاج نفس المرض فيذهب بشار ليخلفه مئة بشار (بعدد أعضاء ائتلاف قوى الثورة والمعارضة )، إذا حدث تغيير سلطة  من دون تغيير الثقافة ونمط العقل و نظامه ، وبالتالي نظام السياسة ، عملا بقوله تعالى ( إن الله لا يغير  ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ). أي ثقافتهم ونواياهم ورغباتهم . وهي الثورة الحقيقية ، وليس فقط تهديم النظام والدولة والعقد الاجتماعي ، نعم ثار الشعب على سلطة قمعية مجرمة  تمادت في جريمتها ، لكنه لم يستطع تغيير العوامل التي أنتجت نظام الجريمة هذا في طول العالم العربي الاسلامي وعرضه، فوقف في منتصف الطريق ، وانقطعت به السبل وجدد للاستبداد والعنف بكل تلويناته  التاريخية واحتمالاته الممكنة .
لذلك نرى أنه من دون تغيير نمط الثقافة ، ومن دون مساعدة خارجية ، فالمتوقع له أن يسقط في صراع أعمى لفترة طويلة من الزمن . وهو ما دفعني لتقديم رؤية جديدة بمنطق مختلف ، مع البحث عن رافعة اقليمية ودولية لها، تساعدنا على اعادة بناء مجتمعاتنا ودولنا بطريقة جديدة تتجاوز ما ثرنا عليه ، وطالما أن الجميع في الشرق الأوسط يعرف نفسه بموقعه من الصراع بين العرب واسرائيل فلنبدأ من هذا التعريف وهذا الصراع . وشكل الحل الذي سنحل به هذه القضية المعقدة سينعكس على بقايا المسائل والصراعات التاريخية فعلا وما أكثرها ..
أنا لا ألوم أحدا…  أنا نفسي عانيت كثيرا حتى تخلصت من هذا النمط العقلي المسيطر المتوارث المرفوع لدرجة التقديس والتابو ، الذي يدعوا لتخليد الصراعات وليس دفنها ، ولم أتخل عنه الا مرغما وبسبب ضغط الظروف ، ولا أدعي البطولة ، بل أدعي الواقعية التي هي ليست دائما شرفا ولا مفخرةً ، لكنها ضرورة الآن لتقديم حل ما  لشعب يعاني ويئن ، وعلينا كسياسيين أن نفكر في مخارج تخرجه  من المذبحة التي يرتكبها بيديه  هو .. وهذا لن يحصل الا بالتفكير خارج العلبة و خارج النمطية المتوارثة ، وهذا برأيي هو  الجزء الأهم من الثورة . فالتاريخ ليس الثابت المتكرر ، التاريخي هو المتغير مع تغير الأزمان والدول .. والثورة هي أقصر الطرق للتغيير وهي قطار التاريخ .
هذا اجتهادي فأروني ما عندكم من بدائل (غير مبايعة أيمن الظواهري أو اتباع وتقليد حسن نصرالله )…   لكن لا تعيشوا خارج الواقع .. واحكموا على أفعال الناس وأفكارهم ، ولا تنصبوا أنفسكم  آلهة لتحكموا على وجودهم وتكوينهم ، وحقهم في الحياة ، فلستم من خلقهم و لا من يتوفاهم و لا من يحاسبهم .
مراجع :

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.