يثب

في السنة الثالثة للثورة (سقوط الاسلام السياسي )

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدين والايمان الذي كان الحامل الأهم لشجاعة الشجعان في ساحات الوغى ، لم يكن بهذه الفعالية في ساحات السياسة والاغاثة بل بالعكس من ذلك … ففي السنة الثالثة من الثورة السورية انكشف الغطاء عن السياسيين الذين يتغطون بشعارات اسلامية ، وبانت امكاناتهم وحقيقة ما يمكنهم أن يجسدوه بعيدا عن الأحلام والتصورات الجميلة والقصص الأسطورية والحماسة الدينية، وظهرت حقيقة ومضمون أيديولوجيا الخلافة والأمارة وحكم الشرع والقضاء الشرعي والدولة الدينية و الدولة ذات المرجعية الدينية ، ودور رجال الدين في السلطة والقيادة والادارة .. و أداء الأحزاب الدينية في الادارة والسياسة والاغاثة.. ونحن اذ تأخرنا في انتقاد هؤلاء فذلك خوفا على عزيمة الذين يقاتلون عن ايمان حقيقي .. ولكن عندما تدنى أداء الجبهات الاسلامية لدرجة غير مفسرة لم يعد هناك ما نخشى عليه .

فتسييس الدين هو بالتأكيد يختلف عن الدعوة  وعن الجهاد ، حيث عملت الدعوة على تجميع الناس ، وخطب المساجد الثورية على تحريكهم ، ولعب المسجد دورا بارزا في غياب الأحزاب السياسية والتنظيمات ، كما لعبت فكرة الجهاد دورها في دفع المقاتلين نحو المعركة وتحدي المتجبرين، وكانت بعض المجموعات الجهادية هي الأشرس والأكثر خطورة في المعارك ، ومع ذلك لم يكن التنظيم والتنسيق باديا على العمل العسكري ذو الصفة الاسلامية ، وبقيت السمة السائدة هي الشجاعة الفردية ، أو عند بعض المجموعات المتفرقة، في حين كان الأداء الاداري للإسلاميين هشا وعاجزا عن توليد المؤسسة والدولة ، التي تحولت لمزرعة وعصبة وأمارة استبداد ، وتطرف وشدة ، وعجزت عن تنظيم شؤون العامة واستيعاب رغبتهم في الحرية ، وبعد ذلك عجزت عن التصدي العسكري وسلمت الجبهات تباعا ، كما تركت حاضنتها الشعبية تستسلم بعد أن فقدت أملها وقناعتها بالبديل ، وخرجت تقريبا من المعركة ، واستقالت عمليا من القيادة وتحمل المسؤولية التي طلبتها واحتكرتها باسم الدين ، ونشأ بينها ومنها تنظيمات غريبة عجيبة تفهم أن الدين قتل وتكفير واستبداد وغطرسة وسلب وتحكم  بحياة وأرواح الناس وتجبر على خالقهم .

و سقوط رموز الاسلاميين ، لم يحدث قبل سقوط رموز الليبراليين والديمقراطيين وغيرهم  في امتحان الادارة والنزاهة … مع ضرورة التوضيح أن الأسلمة السياسية تختلف عن الايمان العفوي التقليدي غير المسيس وغير الموظف في سباق السلطة والثروة ، وهذا هو الرصيد الذي يعتمد عليه (كل اسلامي : بمعنى مستخدم للدين في مسعى السياسة)،

فالدين ليس فقط حصيلة تربية وتقديس جمعي اسطوري وتقليد طقسي متوارث ومرفوع ومتعالي ، بل أيضا نتيجة قناعة فعلية واحساس حقيقي بوجود الخالق وحفظه وادامته للوجود وتحكمه الفاعل المبدع .. وهذا الايمان والحدس والحس واليقين ، هو ما يستفيد منه الاسلاميون لركوب موجة السعي نحو السلطة والثروة ، فيجعلون من أنفسهم ممثلين لإرادة هذا الخالق ، و يجعلون من القبول بسلطانهم وطاعتهم تجسيدا لطاعة الله .. فالخطاب الديني وليس الدين هو الذي أثبت فشله ، والاسلاميين وليس المؤمنين هم من سقطوا … وسقوطهم تجلى بتنكر المجتمع والملائكة لهم فلم ينصروهم ، حتى في مواجهة طاغية مثل هذا الجبار ، لأن هذا الطاغية لا يمارس طغيانه باسم الله والدين ، بينما كاد الاسلاميون أن يمارسوا كل القباحة السياسية والإدارية ، والتجبر والتسلط  باسم الدين والخالق ، فجعل الله كلمتهم هي السفلى ، وهزموا مرتين مرة أمام العدو الكافر ،  ومرة أمام الشعب الذي شاهد على أيديهم ما شاهده من النظام عدو الله .. فهم سيان ومتشابهان بل هم أسوأ لأنهم بدعون الاسلام ..  فهل سقط الاسلام بسقوط الاسلاميين ؟؟ …    لا أبدا  . وهل انتهت الثورة أيضا لا .. لأن الباطل لا يدوم ، والشعب الذي خرج وقدم كل هذه التضحيات لن يستكين .

بسقوط الاسلاميين انتصر الاسلام والمسلمين والتدين الطبيعي العفوي الفطري الحدسي ، والتعبد السلس والتقوى الهادئة الخالصة لله ، وسقطت كل تجارة الدين والتدين والاسلامية والشكليات والضحك على الناس والتباهي والتظاهر الخالي المضمون والقلب والضمير، وبانت عورة مدعي الاسلامية و جشعهم ، وكشفت السلطة والمال عيوبهم ، وظهرت كل سلطة تدعي الاسلامية على حقيقتها كسلطة دنيوية غير مقدسة يجب أن تخضع لمعايير في تشكيلها وتشغيلها، وأن تبقى دوما في مهب ريح الجماعة ، وتحت رقابتها ، فالله لم يأمر بالفساد والظلم ولا يرعى المفسدين والمتجبرين ..

فالنظام السياسي المناسب هو فقط النظام الديمقراطي المؤسساتي ، وهو التعبير الصحيح والحضاري عن الشورى  ، والنظام الاسلامي هو النظام الديمقراطي ، وهي الحقيقة التي تجعل البعض يستغرب كيف نؤيد النظام الاسلامي ثم نطالب بالديمقراطية .. ببساطة لأن الديمقراطية هي التعبير التنفيذي عن قيم ومبادئ الحكم الاسلامي الرشيد ، وفيها الخير والصلاح والحرية والدين والعدل والحقوق ، ليصبح تنطح الاسلاميين للسلطة من دون المعايير الديمقراطية  فاشل وضار بالدين والدنيا والناس وبالمتدينين الذين أفسدتهم سطوة السلطان ، والتحكم غير المنضبط بالمال ..

فالسنة الثالثة للثورة شهدت أمرين انتفاضة الشعب على الدولة الداعشية والأميرية والخلافية ، وعلى سلطة رجال الدين وهيمنتهم وتغولهم على الاغاثة والسياسة ، وسقوط الأيديولوجيا الاسلامية كأيديولوجيا سياسية وادارية  .. ثم هزيمة مشروعها الإسلاموي عسكريا .. واقتصارها على الجهاد الصافي الفردي الذي هو جزء من العقيدة ، وعلى التقوى الخالصة التي هي أساس الدين .. وهذا شيء فردي وخاص وليس سياسي وجمعي .. فهناك متقي ومتدين ومجاهد ، وهو غير الاسلامي الذي يتظاهر بذلك ليخدم مشروعه السلطوي ..

في السنة الثالثة لم يسقط النظام ، لكن الإسلاموية والاسلاميين سقطوا في الامتحان العملي ، وصار لزاما على الثورة أن تبحث عن قيادة أخرى تدير الشأن الاداري والسياسي والتنظيمي والعسكري للأمور العامة والثورة والدولة .. وهذه لن تكون قادرة وفعالة من دون معايير وضوابط جربتها واختبرتها الشعوب قبلنا وهي الديمقراطية المؤسساتية التي لا تتعارض مع الايمان والتقوى والجهاد الذي هو حق فردي لا يباع ولا يشرى بالمال والمقاعد، ولا يطلب ثمنه من الناس بل من الله سبحانه فهو من يجزى عليه .. إنه لله وفي سبيله مخلصا ، بينما لسبيل الدنيا شروطه ومطباته وعثراته التي يجب أن تلجمها المؤسسة والرقابة والتداول والمحاسبة ، ولا تسلم هكذا لكل من يدعي الدين ، وهذا درس تعلمناه جميعا وبثمن باهظ ، وقد أعطيناهم الفرصة الكاملة مخلصين صادقين ، وتعاونا معهم لكن النتيجة كانت مخيبة بالقلم والدفتر والدماء والانكسارات التي ليس آخرها كسب ، فقد بلغنا منهم العذر ، دون أن نفقدهم الاحترام والآجر . آملا بعد هذا الدرس أن لا يزداد البعض عنتا وتبجحا ، و أن ننتقل معا لتصورات أخرى لطريقة اجتماعنا وتشاركنا الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها ..

لنرقب من سيسقط في تجربة السنة الرابعة للثورة السورية المظفرة بإذن الله .  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.