يثب

بين الصداقة والعمالة ( المعنى بين السطور )

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تستطيع أي جهة (نافذة وطويلة اليد في المنطقة) أن تصمم وتركب أو تجدد نظاما سياسيا عميلا لها ، في دولة هزيلة من نوع الدول القائمة حاليا في الشرق الأوسط ، مستخدمة في ذلك الامكانات والموارد الضخمة المتاحة لها ، عبر امتلاك المعلومة واستعمالها المدروس ، وعبر  التحكم  في المال الموظف سياسيا ، والتحكم في الاعلام الموجه ، والتحكم في الحراك الديبلوماسي ، ثم عبر شبكة العلاقات الواسعة الدولية المتعاونة ، وشبكة العملاء والمأجورين المزروعين سابقا ، وقد تضطر للقليل من العنف والمؤامرات لإزاحة بعض العقبات ، وفي النتيجة فإن الفريق الأكثر تنظيما وادارة ، والأوسع حقلا ومواردا  .. هو من يقود اللعبة ويزيح الفرق الأخرى التي تتخبط بالفشل وتنهار . فتنتهي المنافسة لصالحه ، ويصبح هو المسيطر على السلطة والقرار  في الدولة المستهدفة ، خاصة في غياب الآليات الديمقراطية الصحيحة والحياة السياسية الناضجة عند شعوب المنطقة ..

نعم يتم ذلك  بسهولة ويسر أيضا ، بسبب توفر الاستعداد للعمالة عند أغلب ناشطي وسياسيي المجتمعات الفاشلة (في انضاج حياة سياسية فعلية ومعبرة عن المجتمع وملتصقة بقضاياه ) ، والتي تقع بسبب ذلك في نزاعات وصراعات مدمرة لبعضها، وتشجع على  الاستقواء بالغرباء لهزيمة الخصوم المحليين .. مما يسهل على الغرباء عملية الهيمنة والسيطرة عبر فرقهم التي تجد فرصة أفضل للتفوق واحتكار القرار وطرد المنافسين.. في النهاية نخسر الوطنية لصالح العمالة … ويظهر الغريب وكأنه إله مسيطر متحكم ، لا راد لمشيئته … من خلال تحكمه بالقرار السياسي في كل الدول ، و تحكمه بالنظم السياسية المرتبطة به ، وبذلك يستطيع أن يسخر كل موارد المنطقة لخدمة مشاريعه ، ويظهر بحالة متضخمة القوة والنفوذ ، مما يدعم نظرية المؤامرة والعدو المتربص بصورها المختلفة ..  وهي كلها تعابير ليس عن قوة الغريب الموهومة / بل عن فشل وضعف ذاتي ، وعوز  للديمقراطية الحقيقية التي تسمح للشعب بأن يختار ويحاسب من يحكمه .

أي أن مسألة الديمقراطية هي الحلقة الأهم في قضية التحرر والوطنية والاستقلال والندية، ومن دون تحقيقها سيتغير لون الحاكم فقط ، لكن ارتباطه وتبعيته للغريب ستبقى كما هي، وسلوكه الأناني وموقعه على نقيض مجتمعه سيبقى ، وسينتهي إلى ذات النتيجة، وبشكل خاص عندما يفشل المشروع الوطني ويتحول السياسيون لمجرد باحثين عن وظيفة ومنصب ووكالة بغير حق ولا مؤهلات ولا تفويض ، كحالنا الراهن …

في المقابل لا يجب أن تتوقع هذه الجهات النافذة أن يحقق لها النظام الوكيل  شيئا كثيرا في صعيد الاستقرار والتنمية  ، فهذه الأنواع من النظم امكاناتها في البناء محدودة جدا ، بعكس قدرتها على التخريب، وهو ما تعبر عنه بدعمها السري للجماعات المتطرفة ومنظمات الارهاب ، وللفوضى والجريمة في المنطقة ، كشرط لاستمرار وجودها .

ولا يجب انتظار من النظم العميلة ما يفوق امكاناتها  وقدراتها ، التي لا تكون كبيرة الا بطغيان الطابع القمعي على نظامها ، فالديكتاتورية هي شرط  قوة واستقرار النظام العميل الوكيل لمصالح الغير ..  والعكس بالعكس .. لكن هذه الديكتاتورية الواجبة  ، هي التي تتسبب بمشاكل كثيرة أهمها مشكلتين مزدوجتين هما : ارتفاع مستوى العنف والتطرف ونشوء ظاهرة الارهاب ، وازدياد وتفاقم الأزمات والتخلف الذي يولد الثورات ويحول الدول  لدول فاشلة ، وهذا  ما يطغى على أحداث المنطقة بسبب اعتماد الوكيل والعميل المستبد وجوبا .

لا يريد الطرف الفاعل الذي أدار اللعبة سياسيا أن يعترف بقصر نظره ، واضراره بكل مقومات الحضارة الانسانية، بعد أن حول المنطقة إلى ساحة جريمة وعنف وتخلف ، بنزعته للهيمنة ، وبإعاقته للتطور الطبيعي ، واستعاضته عنه بالتطور المصطنع بإدارة مأجورين وكلاء ، لا علاقة تربطهم بأوطانهم، بل فقط بالمناصب التي حصلوها بعمالتهم ..  و الذين هم في مواجهة دائمة ومستمرة مع مجتمعاتهم ، التي تعجز عن تكوين تشكيلاتها المتحضرة  بسببهم ، والتي إذا قمعت استبدلت نفسها بالتطرف والارهاب، الذي يحدد شكل ردة الفعل المهيمنة والطاغية في مناخ من اليأس والتخلف الشامل ..

هنا على هذه الجهات أن تدرك أن محاربة التطرف والتخلف هو بالديمقراطية ، والديمقراطية تبنى فقط بالاستقلال والسيادة والحرية .. وأن الباطل لا يدوم والتخريب لا بد أن يعم ، وأن القيم والأخلاق ليست ترفا بل هي قادرة دوما على الدفاع عن نفسها .. والانتقام ممن يتغاضى عنها ، وأن المنتصر الحقيق هو من يربط مصالحه بالقيم ثم ينصر هذه القيم .. فالقوة بالحق ، وكل قوة تخالفه محددة لذاتها ومدمرة لما تبنيه … وهي سنة الوجود المجتمعي الانساني ، تحقيقا لقوله تعالى  ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )

طبعا نحن نقترح على هذه الجهات أن تفكر بطريقة مختلفة ، لتواجه ما تسببت به من كوارث ، لا تعرف كيف تتعامل معها ، طالما هي تستمر بالتفكير  من داخل منطقها ومنهجها العدواني التخريبي اللاأخلاقي ، بالتأكيد كل الأوساط السياسية والاستراتيجية الغربية تقع الآن في حيرة، لأنها أسيرة التفكير داخل صندوق الاستعمار والهيمنة ، ولم تفكر حتى الآن خارج هذا الصندوق أي بمنطق آخر هو منطق الحرية والكرامة واحترام الآخر والبناء علي المشترك معه ، وليس استغلاله وسحقه وتخريب عيشه والتحكم بمصيره وقراره ..  نطلب منها أن تغير قبل أن تجد نفسها مجبرة على ذلك ، لكن بعد التسبب في كوارث كبرى في المنطقة لن تكون هي بمنأى عنها ….

فالإنسان  اما أن يعي بالعقل والتفكر وبعد النظر والقياس والاستنتاج  كمبصر ، أو يتعلم من السقوط والاصطدام بطريقة الأعمى بالتعلم.. فبناء الصداقة والمصالح المشتركة القائمة على حل المشكلات وليس تأزيمها … هو البديل الصحيح عن الوكلاء والعملاء المنشغلين في مصالحهم الخاصة والعاجزين عن حل مشاكل شعبهم ، بل المتسببين في معاناته وبالتالي خراب المنطقة ، فالشعوب المضطربة لن تتخلى عن التخريب والارهاب قبل أن تضمن حياة حرة كريمة ( لأنها هي ذاتها عند ذلك ستتضرر من التطرف والعنف ) .. ومهما قمنا بإدانة التطرف والجهل ، فلن يفيد .. طالما أن الظروف الموجدة والمحفزة  له ما تزال قوية بل قادرة ، وأهمها استبداد الوكلاء والعملاء وفسادهم وفشلهم ، وتدني شروط حياة البشر التي تتسبب في تدني عقولهم وقيمهم و مستوى ردود فعلهم الذي وصل درجة الوحشية . لكن ليس لعيب تكويني ثابت ، إنما تكيفا مع ظروف قاهره فرضها عليهم الغريب والمهيمن الذي توهم النصر ، فعمت الهزيمة ، حيث لن يستطيع أحد ادعاء النصر في هذه المعركة الهمجية التي يتبارى فيها الأطراف أيهم أحقر وأبشع وأكثر شناعة ..

إنه الدرس الذي نريد من الغرب أن يتعلمه من اندلاع الثورات العربية ، التي يجب أن تغير كلا طرفي المعادلة الشعوب والمتحكمين بها .. والتي مهما حاولوا قمعها فهي تملك كل المبررات للاشتعال من جديد ، وهي ان تراخت لفترة فلن تنام .. لأن الشعوب لا تنام على ضيم وكل جيل سيبدأ حياته بطموح متناغم مع أقرانه في المجتمعات الأخرى … وعندما يحبط  فهو سيتمرد  لا محال …

بالأمس توحدت  فرق الوكلاء المختلفة في قيادة الثورة السورية ، فقد تحالف هؤلاء الوكلاء معا ضد أصحاب الرأي والمواقف والألوان الأيديولوجية وطردوهم جميعا من الملعب ، وصار قرار الثورة السورية تماما حسب التعليمات والتوجيهات وعلى قدرها ، فالانسجام بين رموز المعارضة وقوى الثورة لم يتحقق مع الحرية بل فقط مع العمالة والوكالة للغريب ، وهذا ما يحول المؤسسات التمثيلية لمؤسسات تنفيذية مأمورة ، أي أن ما تحقق بالأمس هو وضع سوريا تحت الوصاية ، ومصادرة قرارها  بانتصار وكيل الأجنبي وتابع تمويله وتشغيله ، وهنا نسأل هل سيتحمل هذا المعلم مسؤولية ما يصنع وكلاءه  الذين تسلموا سلطة القرار نيابة عن الشعب ؟؟  وهل سيعترف بما تصنع يديه ؟؟

ليس مجهولا  من يدير هذه اللعبة ومن يربط خيوطها ويوظفها ، منذ تشكيل نظام الوكالة والعمالة الأسدي ، وصولا لتشكيل قيادات الثورة المضادة له والعميلة أيضا ، حيث تتشابه الصفات والمعايير والوسائل والشخصيات ، لدرجة مذهلة ..      هل نعتبر هذا مقدمة لإنتاج اندماج بين كل الوكلاء المتخاصمين : أي هل ينجح بالوصول للحل السياسي الهادف لتكريس الهيمنة ، ويوقف الحرب بين أشكال الوكالة المتصارعة  ؟ ….

في هذه الظروف المحددة للخيارات ، لا شيء يوحي بإمكانية تحقيق ذلك عمليا .. مع أنه نظريا من السهل قيادة المأجورين لتنفيذ ما يطلب منهم ، لكن الشروط الموضوعية لأي مسؤول تحدد خياراته أكثر بكثير من ارادته . وعليه نقول أن المشكلة التي سيواجهونها ،  أن هؤلاء الوكلاء هزيلون هزالة النظام الذي ثار عليه الشعب ، وخياراتهم محدودة جدا وامكاناتهم بسبب الثروة أقل كثيرا مما ينتظر منهم …   وعليه فإنه من شأن هذا فقط أن يزيد عنف وقوة المتطرفين ، وأن يتجه المجتمع أكثر فأكثر للسير وراء التطرف . وليس وراء الوكلاء الذين لن يقدموا أي حل . ولن يستطيعوا التحكم بالمجتمع لخراب مؤسسات القمع واستهلاكها بفعل الثورة ، التي لن تتوقف ، فالسلاح و القدرة على العنف أصبحا أهم من الخبز ، و المجتمع  تفكك وتحول لعصابات مسلحة …

ما البديل إذن … البديل الثالث الذي يقوض الاجرام ويلغي طرفيه ( النظام والتطرف ) يجب أن يكون حقيقي وأصيل ومنتمي للشعب ، وليس وكيل هزلي سخيف وتافه ، لذلك يجب  الانخراط مع الشعب وتحقيق ارادته في الحرية والكرامة ، والثقة به ، بدل اعتماد الوكيل والأجير الفاسد والمستبد وجوبا ، لأن ذلك سيدفع بالشعب  لحضن التطرف والتمرد ..

مرة أخرى نطرح على الجهات النافذة والمتحكمة في أنظمة المنطقة وأحداثها  منذ اسقاط الخلافة العثمانية وقيام نظام سايكس وبيكو  ، و الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي ( العربي سابقا ) .  أن تسير مع الثورة والشعوب وليس ضدها ، وأن  تحترم القيم الانسانية والأخلاقية التي هي فقط قوانين الوجود المجتمعي الانساني ، و التي من دونها لن نحصد سوى الوحشية والتطرف والارهاب . مع العلم أننا  لا نؤيد ردة الفعل هذه ، لكنها بالتأكيد ستجد من يؤيدها ويرعاها ضمن هذه الظروف ..  والمخرج المشرف هو في بناء الصداقة الحقيقية وتشارك الطموحات والهموم ، وليس في السيطرة والتحكم والقهر وحرمان الشعوب من حريتها واهانة كرامتها وتنصيب التافه والممسوخ وليا لأمرها …

لا يقدّر لفريق الوكلاء أن ينجح ، لأنه لن يقود نظاما له مؤسسات مستقرة ومطيعة ، بل عليه أن يقود  ثورة تستمر بتحطيم كل نظام … حتى تحصل على نظامها هي ، والمهمات المطروحة عليه هي مهمات يستحيل تنفيذها من غير قادة حقيقيين مبدعين وصبورين ولهم مصداقية وكاريزما .. قادرين على سحب البساط من تحت أمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع القائمة .. فالمتاح فقط من مهمات لهذا الفريق من الوكلاء هو السيطرة على توجيه الدعم المقدم ، واختطاف تمثيل الشعب في المحافل الدولية ، والدخول في صفقات الحل السياسي التي تفتقد لكل امكانية في الواقع،  نظرا لتباعد المسافة بين النظام والمعارضة ، لدرجة التناقض الوجودي التام .. الذي يلغي أحدهما الآخر في أي حل .

فالوكالة والعمالة ليست بديلا عن الصداقة التي لها ثمن غالي بقدر فائدتها ، وطريقها طويل ومكلف بقدر عظمتها وديمومتها .. طريق أوله احترام القيم والأخلاق التي لا تبنى علاقات انسانية من دونها . وستثبت الأيام أنه لا يحق الا الحق ولا يدوم الا ما ينفع الناس ، فتعالوا أيها النافذون وادخلوا البيوت من أبوابها ، واتركوا الأمر للأصيل  و للحقيقي … طريق الصداقة المتوازنة مفتوح ومشرع .. ولا داعي للشطارة بزرع الوكلاء والمستخدمين في زعامة كاذبة .. لأنها  لن تثمن ولا تغني عن جوع . ولا يوجد طريق مختصر وسهل للحرية والسلام والاستقرار والتقدم . علينا جميعا أن ندفع الثمن لبناء مستقبل مختلف ، فالماضي لن يعود … وتكرار واستنساخه غير مفيد وغير قابل للحياة . ولا يمكن استبدال بشار ببشار آخر له نفس الرقبة .. فقد ولى زمن الاذعان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.