نساء سوريا والخراب المديد

في العمق، تبدو الأجهزة الدعائية – الإعلامية للنظام السوري مركونة لمخيلة تصوّر النساء السوريات وكأنهن نمطين منفصلين تماماً: إذ من جهته ثمة «نساء النظام»، حداثويات ومنفتحات الذهن، مدنيات متعلمات متبرجات ويتقن لغات أجنبية. وبالمقابل ثمة النساء السوريات، اللواتي يظهرن شبيهات بالعوام المهشم، محافظات، خجولات، ريفيات ومكسورات الإرادة.

إن كان ذلك التصدير البصري مخالفا للوقائع المجتمعية السورية عموما، إذ يستقصد تهميش صورة النساء في قاع القاعدة الاجتماعية المؤيدة للنظام. نساء تلك البيئة اللواتي يشبهن باقي السوريات، أمهات وأخوات وزوجات القتلى «الريفيين» «البسطاء» الذين يدفعهم النظام السوري للقتل بالآلاف. هؤلاء الأقرب بالسيمياء لصورة لملايين السوريات المهشمات، جراء العنف المحض، الذي يمارسه النظام السوري منذ بدء الثورة السورية، ريفيات خجولات مكسورات الإرادة ..إلخ.

لكن أشياء كثيرة من تلك الصورة تبدو (مع الأسف) حقيقية، فالنساء السوريات طوال نصف قرن من حُكم العائلة الأسدية، عانين من أشكال عميقة ومركبة من التعنيف القانوني والاقتصادي والثقافي والتعليمي والمجتمعي. حدث ذلك كنتيجة وانعكاس مباشر لسياسة نظام استبدادي لا يتوخى سوى المزيد وفقط المزيد من الاستمرارية في سدة الحُكم. من دون أن يبالي بما سوف تنعكس به سياساته وممارساته الإستبدادية تلك على القاعدة المجتمعية الأوسع، وبالذات على المكون الأكثر هشاشة، النساء.

يكفي تقصّي المعطيات والأرقام أو النتائج المنشورة عبر التقرير الشامل الذي أصدره «برنامج المعرفة» التابع لمنظمة هيفوس الهولندية عن «الحالة النسائية» في سوريا، لندرك أن التدهور والنكوص الراهن في بنية المجتمع السوري، هو نتيجة هذه السياسة المديدة، غير المسؤولة منذ نصف قرن. فالنظام السوري كان جاهزاً دوماً لإصدار وتبني قوانين محافظة ورجعية للأحوال الشخصية، لمهادنة الطبقة الاجتماعية الأكثر المحافظة وكسب ولائها، كما أنه كان قابلاً لاختيار سياسات وبرامج اقتصادية معادية ومخالفة تماماً لمصالح ملايين النساء الريفيات، عبر رفع أسعار المشتقات النفطية والتخلي عن دعم المنتجات الزراعية. وبذا يخرج ملايين النساء من سوق العمل ويحولهن إلى عاطلات عن العمل مهشمات الدور والمكانة الاجتماعية الاقتصادية. فعل النظام ذلك على مراحل متوالية، فقط لإرضاء طبقة الأثرياء الفاسدين المحيطين به.

ليست الصورة النكوصية التي تظهر بها النساء السوريات راهنا، سوى خاتمة موضوعية لمسيرة طويلة من اللامبالاة تجاه العنصر الأكثر فاعلية وتعبيراً عن محصلة السياسات الاستبدادية الأسدية. وليس هذا الامتهان الأخلاقي والوجداني والروحي، عبر ممارسة جرائم التعذيب والاغتصاب ومجازر ذبح المدنيين، سوى الذروة التعبيرية القصوى لما أراد النظام أن يسوق به المجتمع السوري، ويأخذه من أكثر مجتمعات المشرق مدنية وحداثة، نحو البربرية غير الخجولة من بربريتها.

بعض المعطيات من ذلك التقرير تقول: خلال عام 1983، كان مجموع طلاب الصف الأول للمرحلة الإبتدائية عام كان 329037 طالبا، لكن طلاب الثاني الثانوي بعد عقد من ذلك التاريخ عام 1993 (من المفترض أن يغدو طلاب الصف الأول الابتدائي، طلابا في الصف الثاني للمرحلة الثانوية بعد عقد) بلغ طلاب الثاني الثانوي عام 1993 فقط 53440 طالبا . أي أن التسرب طاول 82 % من مجموع الطلاب الداخلين للسلك التعليمي في ذلك العقد. وأرقام العقد الذي يليه تذهب للتوضيح (مجموع طلاب الصف الأول من المرحلة الإبتدائية 1992 ما مجموعه 501327 طالبا، لكن طلاب الثاني الثانوي بعد عقد من ذلك التاريخ عام 2002 (من المفترض أن يغدو طلاب الصف الأول الابتدائي، طلابا في الصف الثاني للمرحلة الثانوية بعد عقد) بلغ طلاب الثاني الثانوي عام 2002 فقط 74320 طالبا فقط، أي أن مؤشر نسبة التسرب من المدارس خلال هذا العقد قد بلغ أيضا قرابة 83 في المئة من مجموع الطلاب). ما الذي يمكن أن ينتجه هذا الإيغال في تجهيل المجتمع السوري لعقود وعقود، سوى المزيد من النكوص المجتمعي.

توضح معطيات التقرير حسب الأرقام الصادرة عن منظمات دولية، بأن سوريا تحتل مركزا متأخرا في شأن انتشار الأمية (تحتل سوريا المركز 119 من أصل 177 دولة من حيث انتشار الأمية، حسب برنامج الأمم المتحدة التنموي لعام 2007)، لكن الخاصية السورية تكمن في الفروق الشاسعة لإنتشار الأمية في أوساط الذكور والإناث، حيث تقارب نسبة الإميات ثلاثة أضعاف نسبة الأميين. وإذ لا يذكر التقرير إرقام الأميات السوريات، لكنه يشير إلى نسبة النساء السوريات اللواتي لم ينهين المرحلة التعليمية الأبتدائية عام 1994 كان 30.2 في المئة منهن، لترتفع تلك النسبة وتغدو 31.8 % عام 2000، ثم لترتفع من جديد عام 2003 لتغدو 32.3 في المئة! ولو أخذنا بالحسبان المستوى المتواضع للتعليم في مراحله الأولى في سوريا، يمكن الاعتقاد وقتها أن الأمية بمعاييرها الدولية الرصينة، تطال نصف النساء السوريات تقريبا. خصوصا في عهد الإصلاح والتحديث مع الأسد الابن!

لكن الأرقام الأكثر فجاجة وتعبيرا عن الخراب الذي أصاب حضور المرأة السورية، هي التي تمس حالتهن في العقد الأخير من تاريخ سوريا المعاصر. فخلال عقد كامل (2001-2011)، ومع كل الإصلاحات الاقتصادية الموعود، وبينما زاد حجم الذكور في الحقل الاقتصادي بقرابة نصف مليون مشتغل، فإن أعداد النساء المشتغلات قد إنخفض بقرابة الربع، لتشكل نسبة 12% فحسب من مجموع المشتغلين السوريين. فعام 2001 كان عدد المشتغلات السوريات هو 803000 عاملة ليهبط بعد عقد كامل ليغدو فقط 415000 عاملة، حدث ذلك مع كل الزيادة السكانية التي طالت أعداد السوريات الطالبات للعمل. كان هذا العدد البسيط هو من قرابة خمسة ملايين سوري كانوا ينشطون في سوق العمل السورية.

على المنوال نفسه، تشير أرقام التقرير إلى أنه عام 2000 كانت نسبة العاطلات عن العمل 31 في المئة من مجموع الطالبات لعمل دائم، لكن ذلك الرقم ارتفع عام 2011 ليغدو 71 في المئة. وأنهن كن يشكلن 55 في المئة من العاملين بالقطاع الزراعي عام 2001، لينخفضن بعد عقد من السياسات الليبرالية العدونية تجاه الريف السوري، ويصبحن فقط 12 في المئة من العاملات في الحيز الزراعي.

صحيح، ثمة ملايين السوريات المهشمات المحافظات الخجولات الريفيات المعنفات، مكسورات الإرادة والخواطر، هؤلاء الذين أوصلهم هذا النظام لهذا «الحضيض»، ليصدر للعالم دعايته التقليدية بأنه يحكم شعبا لا يستحق التعامل المدني السوي. لكن هؤلاء الملايين من السوريات اللواتي يظهرن على شاشات التلفزة، هن الخامة الأكثر تعبيرا عن الممارسات المتراكمة لنظام آل الأسد بالمجتمع السوري. ورد الإعتبار والاحترام والمكانة والثقة لهن، هو النضال السوري الأكثر جدارة بالتقدير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.