يثب

حسابات التدخل الروسي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

فشل الاجتماع الرباعي الأخير في فيينا في التوصل للتوافق إلا على عقد اجتماع فاشل آخر في وقت آخر، مع زيادة عدد المشتركين بالفشل بحسب الاقتراح الروسي… فالروس اليوم وبعد تدخلهم العسكري صاروا معنيين بالحراك السياسي لإيجاد مخرج يكرس ميزان القوى الذي توهموا أنه صار في صالحهم … بينما الطرف الآخر غير معني في تسهيل هذا الأمر للروسي ، أي أن الموضوع ما يزال بعيدا جدا عن إمكانية التوصل لحل سريع وسهل، بعد أن تجاوزت الأحداث في سوريا نقطة اللاعودة، وصارت كل محاولة ترميم واصلاح للقديم هي نوع من العبث بعد أن مات وشبع موتا، فالمسألة السورية لن تحل باستخدام القوة وحدها، ناهيك عن أن حقيقة هذه القوة لا يعكسها المنظر الخارجي الراهن ….

هناك مرضين أساسيين صنفتهم الأمم المتحدة في أمراض نقص التغذية (وليس سوءها ): الأول هو المراسموس وهو نقص شامل ومستمر في كل العناصر الغذائية، يتظاهر بالهزال الشديد، و نشاهده في المجاعات وفي صور سيزر التي يعرضها لجثث السجناء، وهو ما يعاني منه أغلب الشعب السوري تحت الحصار وفي المخيمات، حيث لا تكفي السلل الغذائية ولا تسد الحاجة الأساسية من الحريرات مهما كان شكلها (نشويات أو دهنيات أو بروتينات أو حتى كرتون وأعشاب ). وهناك مرض آخر شائع أيضا هو الكواشيوركور وهو ناتج عن نقص شديد في الوارد من البروتينات فقط ، ويتظاهر ليس في هزال بل بدانه وانتفاخ ووذمات ووهن شديد وبلاهة عقلية … بسبب محاولة تعويض نقص البروتينات بتناول النشويات والدهون .

وبالعودة للسياسة فإن المعارضة السورية المعتدلة تعاني كما يعاني الشعب من نقص حاد وشامل في كل الموارد اللوجستية ، لذلك تبدو بحالة هزال ومراسموس سياسي وعسكري ، لكن يمكن تنشيطها بسرعة عندما تتوفر السلات الغذائية … بينما افراط الدعم اللوجستي لحلف النظام من شبيحة سوريين وايرانيين ولبنانيين وروس وأفغان يتسبب عنده بالبدانة السياسية والعسكرية، بسبب النقص الهائل في روح القتال وعقيدته، فتعاني من الكواشيوركور السياسي والفدامة والبلاهة وخوار القوة … والتي لا يمكن اصلاحها لأن العنصر المفقود هو الحق والمنطق والدافع . فكل مقاتل يعرف أنه مرتزق ومعتد وغير معني في هذا الصراع الذي دفعته اليه تعاسته، ولن يفيد في تعويض هذا النقص مباركات البطاركة في مطار موسكو ولا قبلات المرجعيات في قم … فالمواطن السوري لديه كل ما يحفز عنده ارادة القتال لأنه يدافع عن كل ما يحمل قيمة : حياته وأسرته وأرضه وشرفه ودينه وحريته وكرامته … وصحيح أنه يفتقر للغذاء والسلاح ، لكنه أبدا لا يفتقر للعزيمة التي أثبتت نفسها وما تزال كعنصر حاسم في النصر .

موسكو تسعى للاسراع في اعلان النصر العسكري وتكثف من ضرباتها الجوية ، في حين أن ايران تتململ على الأرض ولا تتحرك بالزخم المتوقع ، لضعفها أولا، ولكي لا تعطي للروس نصرا سريعا يبيعونه في سوق البزار المزدحم ويخرجهم منه ، وهم يريدون افهام الروس أنهم بحاجة دائمة لإيران، ويريدون منهم البقاء في المعركة التي يجب أن تستمر، فكل حل سوف يخرجهم من المعادلة ، طالما هم لا يملكون من سياسة سوى استخدام ميليشيات الزعرنة والتشبيح … بينما يصمد أبطال الثورة ويتشبثون بالأرض رغم سياسة الأرض المحروقة التي يعتمدها الروس ، ويدفع الثمن المدنيون الذين يرحلون نحو مخيمات جديدة …

أما الأمريكي فهو لا يفكر أبدا في رمي حبل النجاة للروسي الذي يغرق في الرمال المتحركة ، ولن يسمح له بإيجاد أي مخرج حتى لو وافق عليه السيسي وحلفاؤه العرب نكاية بتركيا ، أو قبل به حلفاء الإخوان أعداء السيسي أيضا نكاية بهم … فالأمريكي يريد من روسيا أن تتوسع في معركتها ضد الإسلام لكي تضعف التطرف وتستنزفه وتوجه قوته بعيدا عنها ، وتضعف أيضا روسيا هي الأخرى … فروسيا كامبراطورية اضطهاد وتمييز تحمل عناصر ضعفها في داخلها،  وروسيا المحاصرة اقتصاديا من قبل الغرب وسعوديا بأسعار النفط لا تستطيع تحمل التكلفة الكبيرة للعمليات الجوية التي عجز عنها حلف الناتو في ليبيا . وأرهقت كامل دول الخليج في اليمن .

تستطيع أمريكا رفع الحظر عن تسليح المعارضة السورية جزئيا لكي تحبط أي انجاز روسي ايراني، ومن دون دفع دولار واحد ولا جندي واحد. في حين يتخبط الدب الروسي ويتمرغ الحمار الإيراني، بعد أن توهموا النصر بواسطة أبواق الإعلام ، وأصوات هدير الطائرات … فالشعب السوري قد ألف القتال والطوى على الجوع ، وأهم من ذلك لا يستطيع الاستسلام لأنه يعني الموت … بعكس المعارضة السورية التي هي نتاج سوء التغذية المتمثل في افراطها وفسادها وتلوثها (وليس نقصها ) ، والتي تسافر شرقا وغربا بحثا عن الكراسي وخوفا من ضياع حصتها في أي تسوية اقليمية … ناسية أن الشعب السوري وحده وليس حكام روسيا هم من يحدد مستقبل قياداته ونظامه … وهو ما يتذرع به بوتين دوما وما نتمسك به أيضا . فالشعب السوري مهما اشتدت عليه المحن سيبقى متمسكا بسوريا ولن تثنيه عن استعادتها قوة لا تدوم …

فروسيا العظمى كما يتخيلها بشار وكما تحاول أن تظهر في تدخلها المدوي، ما هي إلا دبوب من ريش منفوش ، وما فشلت أمريكا في تحقيقه في العراق لن تنجح به روسيا في سوريا. ولن ينجح أي حل سياسي لا يعيد الاعتبار للقيم والأخلاق والعدالة … وأي سلطة انتقالية لا تحظى بدعم شعبي حقيقي سوف تسقط بهبة ريح … وأي احتلال عسكري سيكون مكلفا جدا وسيزول … وعلى من لديه عقل أن يستمع للشعب السوري ويحقق ارادته ، ويكف عن تجاهله إن كان قوى دولية عدوة أو صديقة، أو كان سياسيين متسلقين على ثورة هذا الشعب وباحثين عن كرسي وتمويل … فالمعني الحقيقي بأي حل والقادر الوحيد عليه ما يزال مغيبا، لذلك نقول وبالفم الملآن لا ولن يوجد حل سياسي، لأن الشعب السوري غير موجود وغير ممثل في طاولة التفاوض ومطبخ المخططات… ومن إجتماع فاشل إلى إجتماع أفشل … هذا هو مسار من لم يتعظ من تجربة جنيف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.