يثب

الثورة أم التغيير

د كمال اللبواني  

Kamalلم تثبت الأحداث التي تراكمت طيلة ثلاث سنوات أن الثورة التي قامت ضد سلطة ونظام تعيس قد استطاعت اسقاطه أو بناء نظام آخر مختلف عنه ، ببساطة لأنها تحمل ذات المنظومة الفلسفية والقيمية التي نشأ منها وعليها النظام البائد،  ولم تثبت أي مجموعة من المجموعات المتحاربة بما تمثله وتحمله من قيم وفلسفات أنها أرقى من الأخرى ، ولم تحمل مشروعا حضاريا لا يعيد انتاج التخلف والاستبداد والفساد والجريمة حتى الآن. أي أن الثورة قد نجحت حتى الآن في تدمير النظام والدولة السياسية، لكنها ما تزال تراوح في مرحلة الفوضى تنتظر انتصار ديكتاتورية جديدة ، أو تنجح في انجاز عقد وطني آخر يتجاوز الماضي ويعيد صياغة المشترك المقنع من دون اكراه ، وهذا يعني أن بدء مسيرة البناء الجديد بعد التفكيك والتحطيم  يتطلب ثورة في صعيد الثقافة يعيد فيها كل طرف حساباته ويعيد بناء وصياغة ذاته بشكل متوائم مع وجود الآخر الشريك ، ومع حاجات العيش المشترك والانخراط في الحضارة ونمط الحياة الحديث .

فمن دون تدمير النظام السياسي القائم ، ومن دون اعادة صياغة الذات وتجاوز الموروث الأكثر انغلاقا وصنمية في الثقافة ، لن يمكن فتح باب التغيير ، وباعتماد ذات الثقافات السياسية التقليدية بألوانها المختلفة أنتجنا بحصيلة التجربة أنظمة متشابهة ونسخة عن نظام الأسد عينه في كل صعيد وباختلاف الصيغ ، فالفساد والاستبداد والتشبيح وغياب المؤسسة وعبادة الفرد  والسلب والجريمة والفظاعات موجودة بنسب مختلفة عند الجميع ، وتتحمل مسؤوليتها كل الثقافات المتوارثة ، ولأن الشعوب لا تتعلم الا من التجربة كان علينا أن نجرب ثلاث سنوات حاول كل طرف فيها أن يخضع الطرف الآخر لمنهجه التسلطي، وعجزنا جميعا عن تجاوز ذاتنا نحو صيغة أرقى للاجتماع ، وهي غير ممكنة من دون مراجعة نقدية ذاتية وتغيير في وسائل قراءتنا وانتاجنا لتراثنا كحياة معاشة ومجتمعات متجددة، فما كان صالحا في الماضي قد لا يكون في المستقبل خاصة ما يخص القيم السياسية .

فرجال السياسة في كل الأطراف أثبتوا أنهم نسخة أخرى عن نظام المحسوبيات واحتكار القرار وتغييب المؤسسة التي لم تكن معروفة في الماضي قبل نشوء الدولة الحديثة، المجلس التشريعي للمعارضة شابه مجلس شعب النظام ، والأحزاب الديمقراطية عبدت الفرد أكثر من الأحزاب الشمولية ، وضحايا العنصرية القومية أثبتوا أنهم أشد عنصرية من مضطهديهم …  ورجال الدين في كل الأطراف أثبتوا ضحالتهم وتسويغهم لكل أنظمة الفساد والتسلط ، وبرروا الجريمة والفظاعات بطرق متشابهة ، والمتحاربين على أساس ديني وطائفي تباروا في ارتكاب المجازر والفظاعات التي يندى لها الجبين ، والمناطق المحررة لم تختلف عن المحتلة الا في علم الحواجز وشعارات الجدران .. ولا اختلفت السجون ولا الخوات ولا الرشوة ولا التشبيح الا بالحجم والشدة ..  بالنتيجة نجحنا في التحطيم والعودة للمرحلة البدائية والوحشية .. ولكننا لم ننتبه أن ذات الثقافة  ستنتج ذات السياسة .

والآن ولكي ننظم هذه الفوضى ونتجاوز نظام الفساد والاستبداد والجريمة الحاكم في كل المواقع ، والمنقسم على ذاته والمتناحر في حضيض قيمي وأخلاقي ، وتحت ضغط المصالح وظروف الحياة البائسة التي يعيشها الجميع ، يجب أن نتحرك لتوليد منظومات فلسفية ومعرفية وقيمية جديدة ، يمكن البناء عليها للوصول لصيغ جديدة من التشكيلات الاجتماعية ، وهذا هو معنى الثورة وجوهرها الحقيقي ، فالثورة الحقيقية تبدأ اليوم بعد انجاز مرحلة التحطيم التي طالت كل شيء من حجر وبشر وقيم وتقاليد ومفاهيم ، وهنا ننتظر المبادرات التي تطلقها العقول المبدعة التي تحررت بفعل الثورة من النمطية الموروثة والدوغمائية العقلية ، تحت ضغط الحاجة ، وبنتيجة التجربة المرة .

فالمسألة اليوم ليست مسألة سلاح ولا مال ولا قوة ، المسألة هي مسألة ايجاد ثقافة جديدة ، لكن أي مشروع ثقافي جديد يجب أن يعترف بالتنوع وينظمه ، ويجب أن يمتلك وسائل تطوير الثقافات التقليدية ليقطع جذر الاستبداد والفساد ، ويبني المشترك ، فنجاح مذهب في ايجاد أدوات تصحيح قراءته لنصوصه ، سيشجع الآخرين على استعمال ذات الأداة في مذهب آخر ، والحقبة الحالية هي مرحلة ابداع ثقافي وتغير في نظم العقل ، ليس أقلها اعادة الاعتبار لدور المرأة التي أثبتت سنوات الحرب مدى أهميتها في ديمومة المجتمعات الإنسانية ، أي الكف عن استعمالها كعورة وشيطان جنسي والنظر إليها كإنسان حر يستطيع العيش تحت الشمس والسير في الشوارع والتحدث بصوت مرتفع ..   وفي السياسة اعادة الاعتبار للعقد والعهد والمؤسسة والانضباط القانوني ، في مواجهة عقلية العصبة والعصابة والتشبيح والترهيب .

فالكثير جدا من الممنوع التفكير فيه يجب أن يدخل ساحة المفكر ، بعد تحطيم النظام السياسي المستبد المغلق ، ويجب تفكيك العقل الدوغمائي الذي ينتجه من ثقافات مغلقة على ذاتها وعاجزة عن التلاؤم مع المتغيرات وما أكثرها .. وهنا روح الثورة التي انطلق بها خيرة شباب سوريا الذين سعى النظام للقضاء عليهم جميعهم . وهنا جوهرها وثمرتها التي ستعوض دنيويا ما دفعناه من ثمن ، والتي تنتشر كثقافة جديدة نحو المجتمعات الأخرى المشابهة التي ما تزال تعاني من ثقافة الاستبداد والتخلف ، وهي ثمرة الثورة التي تنتشر كبذرة تغيير في أرض عطشى وتتفتح زهورا بعدد أرواح الشهداء .. فالثورة أم التغيير ومولودها الجديد سيعني مستقبلا مختلفا .. وكل عام وأنت بخير أيها الأم العظيمة .

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.