يثب

جنيف أم لاهاي

د. كمال اللبواني

في البداية كانت الثورة ثورة حريات وحقوق ، أيدها الغرب معنويا على اساس أنها تقلص النفوذ الايراني والتسلطي والمزاود بالمقاومة ، والذي يزعزع استقرار المنطقة ، وتبني لعلاقة أفضل مع الغرب . كثورة حريات وحقوق .

مع تزايد دور المساجد و ارتفاع نسبة الشعارات الاسلامية ، ومع تزايد القمع والقتل ، ومع تزايد الاعتماد على السلاح ، بدت ملامح تغير في المواقف الغربية ، و لم تعد متشجعة كثيرا للدعم ، فأصبحت قلقة من مستقبل الثورة ومصممة على ضمان تحقق رؤيتها التي تتناسب مع برنامجها الخاص بتطور المنطقة ، ومع تزايد التغيرات على الأرض ، أصبحت محافظة بشكل متزايد ولم تعد متشجعة لسقوط النظام ، بل صارت تفكر بإعادة هيكلة النظام القديم وفك ارتباطه بإيران وتقليم أظافره فقط ، خوفا من التجديد الجذري غير المضمون . وعندما تراجعت الأقليات عن التعاطف مع الثورة ، وعادت لتعزيز ارتباطها بالنظام ، ومع تزايد الطابع العسكري الاسلامي على العمل المسلح …  دخل الغرب في حيرة وأصبح ميالا لعقد صفقة مع ايران ذاتها لكبح جماح الاسلام السياسي العسكري الذي صعد بقوة للدفاع عن الوجود والحق في الحياة .

كما أن النظام وحلفاؤه عملوا كل ما يمكنهم لتشجيع  نشوء حركات متطرفة جدا المعارضة في صفوف، أملا في استعادة دعم الغرب المصاب بفوبيا الإسلام ….  وسهلوا لبعض هذه القوى المتشددة سيطرتها على مناطق واسعة ، وتجنبوا التصادم معها، على أمل أن تطغى صورتها على صورة المعارضة ، ويصبح الغرب بين خيارين إما القاعدة أو النظام ، فالخيار الثالث الذي راهن عليه لم يعد موجودا بشكل متزايد ..  وهكذا لعب النظام بالنار واستفز كل التعصب والتشدد السني العروبي، وجمع حوله بشكل مستفز الأقليات المذعورة من هذا المشهد الرهيب من الجريمة والعنف . وانتظر النظام دعم الغرب وتحوله عن تأييد الثورة . لكن أمريكا فهمت الواقع الجديد الطارئ ، وتعاملت معه ببرود ولا مبالاة ….  ثم حسبت حساباتها على  الشكل التالي :

إن هي قوضت النظام بالضربات ، أو عن طريق مساعدة المعارضة المسلحة ، فهي ستسمح بانتصار الخصوم بعد أن هيمن الاسلاميون السلفيون الجهاديون على المعارضة الداخلية بشكل عام ، والمسلحة بشكل خاص ، وإن هي تخلت عن دعم المعارضة ( وهي تفعل ذلك فعلا ) ، واستمر حلفاء النظام بدعمه ، قد ينتصر النظام ، وهو أيضا عدوها الذي لا يؤتمن .

لذلك كان خيار جنيف هو الخيار الوحيد المسموح به أمريكيا ، لأنه يقطع الطريق على فوز أي من الطرفين العدوين ، بل يتيح الفرصة لقيام سلطة لا تمثل أي منها وهي لذلك ( سلطة بلا لون ولا طعم ولا رائحة كما يظهر من استعراض أسمائها المقترحة) ، مع العلم أن كلا الطرفين لا يتوقع أن يرضيا عنها بغير القوة والاجبار كما هو باد للعيان .. لكن يبقى مقدار قوة ونفوذ تلك السلطة موضع تساؤل … إنها مرتبطة  بمقدار استنزاف وضعف القوى المتصارعة ، التي يجب عزلها واضعافها ضمن عملية منهجية تشارك بها الدول الإقليمية كلها ، بما فيها ايران . ومن هنا اصرار أمريكا علي حضورها ليس حبا بها ، بل من  أجل الزامها بالركب الأمريكي – الروسي ، الذي تسلمت روسيا القيادة فيه، بعد أن ضمنت أمريكا عناصر الخطر ( الكيماوي السوري والنووي الإيراني ) ، فروسيا اليوم فعليا هي المتعهد لهذا الحل وهي المدير الذي سيعمل على انتاج السلطة القادمة ، وعلى الجميع الحضور إليها والتباحث معها ( تماما كما صرح وزير الخارجية الروسي  بضرورة جر المعارضة للقدوم لموسكو ) .

فالنتيجة المرجوة من جنيف إذا ليست السلام ، ولا ايجاد نهاية للظلم والاستبداد والاجرام في سوريا .  بل منع انتصار أي من الطرفين اللذان سيساقان لجنيف سوق النعاج للمسلخ .. واللذان لا يتوقعان في جنيف سوى التعرض للضغوط وانقطاع الدعم عنهم بالنتيجة . وخسارة السلطة القادمة بالتالي لصالح ما لا يرضون عنه . فالمطلوب منهم هناك هو تسليم السيادة والقرار للمجتمع الدولي و للمتعهد الروسي ،الذي سيفرض السلطة التي يريد هو وعلى مزاجه ، وهي بالضرورة سلطة لا علاقة لها بالهوية والدين . بل سلطة مضمونة الولاء للغرباء ( أي عدم وطنيتها هو شرطها ) ناهيك عن علمانيتها أو شيوعيتها ، أو تمثيلها للأقليات أساسا ، وللفئات الاجتماعية  الاقتصادية الأكثر طفيلية .

الغرب … أيضا روسيا  تخشى فعليا الهوية العربية لأنها تزيد صعوبة السيطرة على المنطقة ، وتخشى أكثر  قيام دولة اسلامية ولو على جزء من سوريا، لأنها  ستكون قاعدة لتصدير التطرف والعنف والثورة مجددا ، خاصة لشعوب روسيا المسلمة المضطهدة تاريخيا ، وبشكل أخطر للصين أيضا  .. وكذلك الغرب يخشى التطرف وقيام دولة وقاعدة للجهاد الاسلامي خاصة في منطقة ذات موقع مهم ، و روسيا أصبحت تخشى التقسيم لأنه سوف يؤدي حكما لدولة متشددة في المناطق الأخرى السنية الفقيرة ، لذلك لم تعد تدعم مشروع ايران بقيام دولة شيعية – مسيحية في الساحل السوري اللبناني  .

أما لماذا وصل الاسلاميون المتشددون لهذه الدرجة من القوة، وهيمن جناهم الأكثر تشددا ، فهو بسبب اصرار النظام على مواجهة  الثورة التي قامت ضده كديكتاتور فاسد باستعمال كل آلة القتل والتدمير ، ثم الاحتماء وراء لهيب صراع تاريخي طائفي قومي  طويل يحاول جاهدا جر الجميع اليه ، كنا ظننا أننا تجاوزناه، لكن أعيد تأجيجه برغبة ايران وبسلوك النظام ….   لقد استفز النظام وحلفاؤه كل المشاعر عند العرب السنة ، لدرجة استدعت قدوم النصرة والدولة وكل من هو  متحمس وصاحب مروءة ودين ( ارهابي متطرف ومتشدد كما يسمونه) …  وصار هناك فصل ، وتحول تاريخي (من ثورة ضد النظام ، لصراع طائفي قومي قديم حديث) ..

الأقليات عموما أخذت قراراتها بالتحالف مع النظام في وجه الأغلبية .  فالكرد مثلا تخلوا عن حلفهم التاريخي مع العروبة والتركمانية ( ربما بسبب استيراد الثلاثة للفكر القومي من الغرب العنصري ) بنسخته الأوروبية الفاشية النازية ، و تراجعوا عن اطار حلفهم الديني التقليدي، وانتهزوا الفرصة لتعزيز مشروع استقلالهم العدائي .

والمسيحيون أيضا انسحبوا من هذا الغطاء الجامع للتنوع عبر التاريخ ، لصالح تقوية القوى الشيعية المقاتلة ، التي بنظرهم ستحطم عدوهما المشترك أو تنهكه وتتحطم معه، فيسودون هم في النهاية بدعم الغرب الذي هو حليفهم الموثوق ، لكنهم بذلك يقوضون عمليا أساس وجودهم الذي لم يكن النفوذ الغربي ،بل الحلف التقليدي تحت راية الدولة الاسلامية ، (لاحظ هنا أن أعدادهم تناقصت بشدة في العراق ولبنان ) وحيث انتصرت الشيعية السياسية الصفوية الجديدة ، مكان الصيغة الدينية السنية التاريخية التقليدية …

تزايد مستوى العنف والتشدد والتحدي الوجودي ولم تعد الخلافات على مصالح يمكن تسويتها ، بل على قيم ومثل ورموز لا يمكن التسوية بينها … تحول لصراع رمزي معنوي يسترجع صور التاريخ بشكل مفرط ..  ولا مكن القفز فوقه من دون تعامل رمزي أسطوري يرضي عبر تطبيق العدالة ، ومن دونها سنكون في حالة تجديد وتفعيل الصراع ..

ما هو إذن الحل البديل عن جنيف؟ الحل البديل في لاهاي ، في تجريم النظام  لتبرئة الأقليات ، واقامة العدالة لمنع الانتقام والوحشية ، وفتح باب المصالحة مع الاعتراف بالخصوصية والتنوع ، فالصراع المرير عبر التاريخ لا يمكن تجاوزه بتكرار الجرائم المسكوت عنها،  بل بالعدالة ،  وهي وحدها التي تسمح بالسلم ، وبإعادة بناء الحلف التاريخي القديم للعيش المشترك  على مبادئ : الحق والعدل ، وحقوق الانسان وقيم الدين ، والقانون الدولي …  هذا أفضل بالتأكيد من القفز  نحو سلطة تشكلها روسيا  بشخصيات كرتونية لا انتماء ولا هوية لها ، لا تستطيع الدخول للداخل من دون حراسة الجيش الروسي الذي سيضطر للباس القبعات الزرق ، والغوص في وحل المستنقع السوري وسط شماتة أمريكا وابتسامتها الخبيثة … روسيا تقع تحت شهوة السيطرة والنفوذ، و ولعها بتشكيل حلف عسكري من السلطة والمعارضة  لمحاربة الاسلاميين، الذين دافعوا عن بقاء الشعب والعروبة والاسلام، الروس يسعون لتشكيل حلف لأنصار النظام وللأقليات في مواجهة الثوار الذين سيستمرون بالحصول على الشرعية والدعم الداخلي والخارجي، طالما استمرت الجرائم و العدوان والخطر الوجودي الذي يهدد حياة أغلبية الناس وهوية البلاد وثقافتها ….

فأين السلام الموعود في جنيف ؟  إنه مرتبط فقط باستسلام المجاهدين والشعب والثورة ، وتخليهم عن أهدافهم وحقوقهم، وعن معاقبة من ارتكب بحقهم أبشع وأشنع الجرائم  … فهل هم فاعلون ؟؟؟

لهذا السبب نحن ممن يعتبر الذهاب لجنيف خيانة للثورة والوطن والشهداء والعروبة والاسلام ….  بشكل واضح وجلي .

عندما استخدمت روسيا ايران في مواجهة المصالح الأمريكية في المنطقة …  ثم حاولت حماية النظام السوري من ضربات أمريكية قاتلة ، تمكنت أمريكا من شراء ولاء أيران لها ، وخرجت روسيا من اللعبة خاسرة حليفها الرئيس ، لذلك انفتحت بسرعة على السعودية وشقيقتها مصر ، لكي تعوض خسارتها مستغلة انزعاج السعودية من غزل حليفها الأمريكي لعدوتها اللدود ايران ، وبذلك تغيرت مواقع القوى السياسية  وأصبحت روسيا لاعبا ووسيطا في المنطقة وبيده الكثير من الأوراق ، والقليل من المصالح الخاصة التي لن تتحقق إلا جزئيا فهو لم يعد يملك صداقاته الحميمة ، ولا بالتالي عداواته السابقة .. طبعا ما عدا الاسلام الجهادي ..  وبذلك تحول دورها من طرف لوسيط إلى حد ما .

أما هذا الذي تسمونه ارهابا فهو ردة فعل الضعيف على غطرسة القوي ، المشكلة أن من يعتدي ويهين ويستفز ..  لا يدرك مفعول فعله على الآخرين وينكر جريمته ، فيقول أنه يتعرض للإرهاب، من دون أن يعرف أن ما يتعرض له هو رد فعل على سلوكه الأكثر بشاعة ،

الواقع في مجتمعاتنا يشبه خلية النحل التي يخرج ذكورها للدفاع المميت يقاتلون ويموتون في سبيل الدفاع عن وجود الخلية التي تتعرض للهجوم ، هم من يتنطح كلما شعرت الأمة  بالتهديد الوجودي هم أشخاص يتقمصون الجماعة ويستغرقون في المعنى ويعيشون حالة من الترفع عن المادي نحو المعنوي شهداء وطلاب شهادة ..

وهل المعنوي هام أكثر من المادي .. ومن المصالح ؟  نعم … لأن الوجود الاجتماعي هو وجود قيمي قبل أن يكون وجود مادي،  ولا مادة من دون نظام وكلمة ومن دونها هو عماء – خلاء – ماء …. فالوجود الذي هو عرش الرحمن هو عماء  من دون الكلمات والمعاني التي ينطقها وجودا فيه ، فالعماء هو دفتر كلمات الخالق الذي يصبح وجودا منظما ومعاشا ومحسوسا .. لنسأل ما قيمة الشرف؟ ما قيمة العدالة ؟ .

الاسلام هو عقد السلم الاجتماعي ومن خرج عنه للحرابة يقتل ، ليس لسبب ايماني بل لسبب جنائي ، لأن الخروج عن عقد السلم واستباحة الدم والمال والعرض هو فتنة أشد من القتل . وقد سبق للإمام ابن تيمية أن أفتى بحالة مشابهة تماما عندما استباحوا بالتعاون مع تيمورلنغ المدن السنية ، ومن يستبيح دماء المسلمين وأملاكهم يستباح دمه ، هذه هي العدالة ، ومن يشترك له عقوبة الفاعل ، ولو اجتمعت أهل صنعاء على قتل أمرئ لقتلتهم به ، وبالتالي يجوز معاقبة الجماعات المتورطة وحلها وتفكيكها كجماعات جريمة تاريخية متكررة .. أما أن ندعى لمكافأة القتلة فقط لأنهم يستطيعون قتل المزيد … المسألة ليست حسابات وتجارة بل مبادئ وهوية ووجود رمزي تاريخي تهون أمامه التضحيات .. وما معنى الشهادة إذا لم تكن التضحية بالذات من أجل قيم الجماعة ووجودها .

المشكلة أنهم سولت لهم أنفسهم تكرار جرائمهم ، واستعادة تاريخ العداء بين سكان منطقة واحدة ، الصراع ليس بين دولتين ..  إنه صراع مكونات متداخلة شكلت عبر التاريخ دولا مشتركة ..

تستطيع أن تتوقع الدول حالة العداء مع جيرانها فكل حدود لها هي حدود عدائية مفترضة ومحروسة بالأسلاك والجيوش .. والتسويات بين الدول لإنهاء حالة الحرب هي تسويات مصالح .. لكن داخل المجتمع لا يمكن تطبيق ذات المعايير … لا بد من عدالة ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) ومن دونها همجية وانتقام ، وانتقام مضاد وجاهلية ..  لقد سولت له أنفسهم الاستبداد والفساد ثم الاجرام ثم ارتكاب المجازر ، وأساؤوا تقدير رد فعل خصمهم بل أخذتهم العزة بالإثم ..  حتى جاءهم من يريهم البأس … طبعا هؤلاء لا يمثلون الحالة الطبيعية للمجتمع . إنهم تعبر متطرف جدا وحرج عن أزمة وجود .. تتعرض لها أمة ومجموعة انسانية .. وعلينا أن نتوقع المزيد بقدر الامعان في التحدي والجريمة .. وعلينا توقع انتشار عدم الاستقرار في كل مكان شرق وغرب الشرق الأوسط الكبير الذي هو العالم الإسلامي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.