منذ البداية لاحقهم النظام وقصف مشافيهم وأحرق عياداتهم الأطباء وملائكة الرحمة يموتون تحت التعذيب

حتى قبل أن يتم تحويل الثورة السلميّة في سوريّا إلى ثورة مسلحّة، كان لا بدّ من وجود أطباء، للعناية بالمتظاهرين السلمييّن، الذين تعرّضوا لاعتداءات الشبّيحة عليهم بالضرب المبرّح، قبل أن تأتي المرحلة التي يتدخّل الأمن جهاراً للاعتداء عليهم بالرصاص الحيّ. ففي التظاهرات الأولى، كان يتمّ الاعتداء على المتظاهرين من شبّيحة مأجورين من قبل النظام، ومن قبل رجال الأعمال، الذين أثروا من خلال عمليات تبييّض أموال رموز معيّنة في السلطة، أو بسبب الفساد المتراكم من قبلها. فكانوا يُحيطون بأولئك المتظاهرين ويقومون بتفريقهم بالهراوات والسكاكين. وكان على رفاقهم أخذهم إلى البيوت ليتمّ علاجهم على يد أصدقائهم طلاب الطب والتمريض، أو بواسطة رفاقهم المنخصّصين في الإسعافات الجراحيّة. ومهما كانت إصابة ذلك المتظاهر خطيرة، لم يكن من الممكن إسعافه في المشافي الحكوميّة أو الخاصة؛ التي تحوّلت إداراتها لمؤسّسات تتبع لفروع الأمن، إذ سرعان ما كانت تتصل بالأمن، ليأتوا ويعتقلوا ذلك المصاب، ثم يكملون حفلة التعذيب تلك، رغم جراحه ودمائه، في أقبية لا رحمة فيها.

في حلب، مثلاً، كان يتطوّع الملاكمون، المتدرّبون في المركز التدريبيّ الخاص بالملاكم الآسيويّ محمد غياث طيفور، للاعتداء على المتظاهرين في الشوارع، وحتى في داخل مدرّجات الدراسة في كليّات جامعة حلب، كي يخنقوا الحراك الثوريّ هناك. وتمّ اغتيال ذاك الملاكم في حادثة مشهورة من قبل الجيش الحرّ، كتهديد مباشر لطلابه في المركز التدريبي، ولآل «بري» الذين أسرفوا في الاعتداءات على المتظاهرين وأهاليهم، ليلاقوا فيما بعد مصيراً دمويّاً في حادثة شهيرة أيضاً ومرعبة. وهذا بالضبط ما حصل في التظاهرات الأولى التي خرجت في كافّة المدن السوريّة، كي يبدو الأمر وكأنّ الأهالي هم التي يعتدون على أبنائهم طواعية، كي يُعيدوهم إلى جادة الصواب، وإلى حظيرة النظام، وبأنّ رجال الأمن وقوى الأمن الداخليّ كانت تفضّ تلك المشاجرات بين الأهالي ليس إلا.

الكثير من الأطباء، وهذا الكلام ينطبق على مساعديهم، في التخدير وطلاب الطب وطلاب التمريض والمتطوّعين معهم، كانوا شجعاناً في اتخاذ موقفهم الإنسانيّ الطبيعيّ، إلى جانب جرحى التظاهرات، فقدّموا خدماتهم للجميع، بشكل احترافيّ ومجّاني، سواء في عياداتهم الشخصيّة، أو في المشافي التي يملكونها أو يعملون فيها، أو حتى في بيوتهم، أو في الشوارع الجانبيّة، التي كان يهرب إليها المتظاهرون. ثمّ اضطروا إلى إنشاء مشافٍ ميدانيّة بسيطة، قد لا تتوافر فيها أدنى المعايير المتفق عليها للقيام بعملهم الطبيّ، عندما بدأ النظام باجتياح المدن والقرى بحجة القضاء على الإرهابييّن، كوصف حكوميّ للمطالبين بالحريّة والعدالة.

تلك المشافي الميدانيّة عاشت جدرانها أصعب الأوقات، وأصعب الأنفاس، وأصعب العمليّات أيضاً… فما بالك بالجرحى والأطباء والممرضين، الذين كانوا يعملون في بعض الأحيان لأيام متواصلة، من دون راحة أو نوم، وبالاعتماد على طعام وشراب بسيطين. وكثير من الأطباء كانوا يجرون عملياتهم داخل المشفى الميدانيّ، ثم يُكملون العمليّات في البيوت والشوارع، عندما كان يتمّ قصف تلك المشافي الميدانيّة فجأة بالمدفعيّة والطائرات. وهناك حالات عدة لمسناها شخصيّاً، تمّ فيها إخراج رصاصات وزرع الأسياخ في القدمين أو اليدين، أكملها الأطباء في أماكن أخرى، بعد نقل الجرحى بسرعة من داخل غرف العمليّات البسيطة، بسبب القصف المفاجئ. وكانت نتيجة العمل الجراحيّ ممتازة. ولكن هناك الكثير من الأطباء الذين لاقوا حتفهم، بانهيار مبنى المشفى الميدانيّ فوق رؤوسهم وجرحاهم ومساعديهم وأهاليهم، بسبب القصف المفاجئ على ذلك المشفى.

الطبيب الذي يتخذ قراره بمساعدة الجرحى، وتقديم خدماته لمن تعرّض لذلك العنف الهائل من آلة القمع الوحشيّة، كان يعلم بأنّه ما عاد بإمكانه أن يعمل في عيادته الشخصيّة لمدة طويلة مقبلة، أو حتى أن تبقى عائلته بأمان في المدينة التي يعمل فيها؛ فبمجرّد أن تصل المعلومات إلى أجهزة الأمن حول طبيب قدّم خدماته لجرحى التظاهرات، ثمّ جرحى العمليّات العسكريّة، كان يؤدّي ذلك إلى هجوم الأمن على عيادته وسحله أمام الجميع وقذفه إلى السيّارة التي ستأخذه إلى المجهول الدمويّ. وإذا لم يكن موجوداً في وقت المداهمة، لحسن حظّه بالطبع، لم تكن الدوريّة تعود خالية الوفاض؛ بل كانت تقوم بنهب المعدّات الطبيّة الموجودة في العيادة، وكذلك الأثاث، وتقوم بالدعس على شهادات الطبيب بعد تكسير إطاراتها على الأرض. وكانوا في بعض الحالات يقومون بحرق العيادة نفسها، كتفريغ لشحناتهم الوحشيّة، التي نمت وزادت طوال الطريق الواصلة بين فرع الأمن وعيادة الطبيب «الخائن والإرهابيّ»!

في حالات كثيرة كان يقوم رجال الأمن بالبحث عن زوجة الطبيب وأولاده لاعتقالهم، كوسيلة ضغط عليه كي يقوم بتسليم نفسه للفرع الأمنيّ المذكور. فكان على الطبيب وضع عائلته في مكان آمن، وغير معروف للجهات الأمنيّة، إذا كان يُريد أن يمارس واجبه، من دون أن تتعرّض عائلته للخطر المحدق. ففروع الأمن لا تكترث لا لزوجته ولا لأولاده، مهما كانت أعمارهم، عندما تطلب من ذئابها المجيء بفريسة معيّنة!

الأطباء العازبون كانت حالتهم سيئة أيضاً؛ فقد تمّ الاعتداء على الكثير من آبائهم وأمهاتهم، وفصل إخوتهم وأخواتهم من الوظائف، بسبب عملهم الإنسانيّ، بتقديم الاسعافات لمواطن من مواطنيّ بلده، وليس لأحد أفراد الجيش الإسرائيليّ على سبيل المثال. ليس بسبب قسمهم في تقديم المساعدة الطبيّة لكلّ من يحتاج إليها وحسب، بل كذلك بسبب ضميرهم الحيّ في الوقوف إلى جانب الجريح والمقبل على الموت بسبب مناداته بالحريّة والعدالة.

طلاب الطب تعرّضوا للاعتقال والضرب المهين في الشوارع وساحات الجامعة وفي داخل كلّياتهم. وكثير منهم تمّ فصله بناء على توجيهات أمنيّة بحتة؛ من دون التحقيق معهم وسماع أقوالهم، ومن دون مخالفتهم لقوانين الجامعة، ومن دون أن يكون لهم الحق في الطعن بذلك القرار التعسفيّ، أمام الجهة التي حدّدها القانون. ذلك القرار الذي قضى على آمالهم في أن يكونوا أطباء في المستقبل، كنهاية مأمولة لجهدهم ودراستهم طوال سنوات الدراسة الطويلة. ولكن ذلك الفصل لا يُقارن بالقرار الذي اتخذه في قرارة نفسه، بأن يكون إنساناً قبل كلّ شيء، ويقدّم المساعدة لمن قد لا يستطيع متابعة العيش من دون مساعدته. ذلك القرار الشخصيّ الشجاع، الذي قد يودي بحياته في أيّة لحظة، خلال عمله الإنسانيّ الاعتياديّ.

هؤلاء هم الشرفاء. سيقول الكثير من الناس، ومعهم حق. وسيقولون عن الأطباء الذين هربوا من البلاد، آخذين معهم عائلاتهم وأموالهم، وصفاً غير لائق أبداً، وهذا ما يحتاج لتفصيل كبير لا يسع المجال لشرحه هنا. ولكن، كي نكون إنسانييّن أيضاً، وغير ظالمين ومتسرّعين في إطلاق الأحكام، علينا أن نلمّ بكل حالة من حالات هروب طبيب ما إلى خارج البلاد، إلماماً كاملاً. فالناس ليست متساوية لا في الشجاعة، ولا في القرارات الصحيحة، ولا في المواقف، ولا في رباطة الجأش، ولا في فهم معنى قسم أبيقراط، ولا في تحمّل أساليب الآلة القمعيّة والوحشيّة لهذا النظام الديكتاتوريّ.

أطباء كثيرون لا بدّ أن يُعاد لهم اعتبارهم مهما طال الزمن. رغم أنّهم لم يهتمّوا بذلك أولاً كي يهتمّوا بذلك في النهاية. ولا بدّ أن نعرف أماكن دفنهم الغامضة، بعد قتلهم تحت التعذيب، في أقبية الأمن. كي تذهب عائلاتهم إلى هناك وتروي ظمأه بالنظرات الجديدة للحياة الجديدة.

أطباء كثيرون ما عادوا بيننا كي يعرفوا كم عاش من بعدهم جرحى، قاموا هم بعلاجهم تحت الخطر، وعلى حساب حياتهم هم بالذات.

المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.