يثب

لعبة الأعداء العلاقة مع الإسرائيليين بين مصلحة السلام ورغبة الانتقام

بقلم : نجيب أبو الفخر

بينما نشهد العقد السابع من يوميات ما سمّي – افتراضا – الصراع العربي – الإسرائيلي ، يطفو على السطح نوع من أشكال التحول البطيء في الذهنية الشعبية في التعاطي معه ، بعد افتضاح جوهره الذي لا يحمل أيّ مقومات للصراع  المفترض أن يكون بين متكافئين على الأقل ، بينما هو فرض واقع من قوّة ضاربة منظّمة ، ومدعومة إلى حد مطلق من المجتمع الدولي ، على شعوب منطقة عربية تحكمها برمتها أنظمةٌ لم تحاول أبدا أن تسخّر إمكاناتها بشكل جدي لمواجهة هذا العدو الذي اغتصب الأرض منذ عقودٍ خلت ، إلا أنه في الإعلام العربي عموما يحمل هذه الهوية الوهمية  التي تسوّق على أنها حقيقة حاضرة وحقيقية .

ربما يعود السبب بشكل رئيسي إلى القتال الدائر في كل أنحاء سوريا ، والذي كشف   الغاية الأساسية من تمويل التسليح السوري طيلة العقود المنصرمة تحت شعارٍ واهم عنوانه التوازن الإستراتيجي مع العدو الصهيوني ، بينما ثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن حقيقته كانت لضمان أمن حدود هذا العدو ، عبر قمع أي حركة شعبية قد تحمل قضية هذا الصراع على محمل الجد

لقد ذُهِل العالم بإمكانات القتل والتدمير التي ُوجّهت تجاه الشعب السوري ، لكنه مع ذلك لم يحرّك ساكنا لسبب بسيط ، وهو الإرادة الإسرائيلية التي أرادت حماية النظام المُخلص الذي حمى حدودها  مستخدما كل الذرائع لأكثر من خمسة عقود مُذ تولى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع ضمن ترقيات من سمّي خطة ( كوهين ) التي زرعها في صفوف القيادات السورية آنذاك ، لتمكين من اختارهم ودربهم ، من اختطاف حكم سوريا ، ومن ثم ارتهانه ، وتوجيهه والتحكم به ، لأطول فترة ممكنة

من هنا بدأت لعبة الأعداء ، التي أرادتها منظومة الحكم في إسرائيل ، لتكرّيس حالة الخطر التي تستثمرها بأعلى كفاءة لابتزاز العالم الغربي والشرقي والشمالي والجنوبي ، بذريعة أنها واحة السلام في وسط صحراء تخلو من كل نوايا الخير وتغصّ بالأعداء فقط … وعندما وَضعت قواعد لعبة الأعداء مَنحت حتى الحكام العرب ، مَكسبا مقابلا يضمن لهم السيطرة على شعوبهم مدى الحياة ، حتى جعلت منها سيطرة قابلة للتوريث ، بألف حجة وسبب ، لا يأتي في رأسها الأسرار العسكرية ، والمصلحة القومية أو الوطنية ولا تنتهي عند عباءة المقاومة أو الممانعة !!

وهنا ننعطف إلى تأنيث شكل الصراع ، في الذهنية العربية التي تربّت كما تُربّى العذراء في منزل جدتها ، فهي دائما مُستهدفة ، ولا يمكن أن تَبني لنفسها أهدافا سوى التعايش مع حالة مقاومة هذا الاستهداف ،  ودائما موضع طمع ، ولا يمكن أن تطمح لأكثر من الممانعة ضد أصحاب هذا الطمع !! الشخصية العربية تربت على أنها الأنثى التي لا يحق لها أن تتحرر ، وأن تعيش عمرها فقط في خدمة قضية صون عفتها ، من عدوّ غاصب ، أقوى منها فقط في مخيلتها المريضة عمدا !

نحن العرب في كل المقاييس أقوى من الإسرائيليين في جو السلام الذي يرفضونه جملةً وتفصيلا في الصميم ، بينما يُصرّحون بإرادته في العلن ، بينما نحن أضعف منهم في جو الحرب الذي نُصّرح بأننا قادرون على النصر فيه في العلن بينما نعلم في الصميم أننا عاجزون عنه لألف سبب وسبب ، ليس أولها الدعم الدولي المفتوح والغير مشروط  للتفوق النوعي للإسرائيليين على كل دول الجوار وما ورائهم.

عندما توجهت نية إعلام نظام بشار الأسد ، لاستخدام دوره في لعبة العداء مع الإسرائيليين، كوسيلة لافتعال حرب شكلية قومية ، على طريقة والده ، لصرف الأنظار عن جوهر الثورة في سوريا ، ردّت اسرائيل عليه بقسوة من خلال قصف مستودعات قاسيون بصواريخ زلزلت دمشق لِتُذكّره بأنها هي سيدة اللعبة ، وهي من تضع القواعد التي ربما نسيَ والده تعليمه إياها كما يجب ، كانت تريد أن تقول له إن نصر البراميل الغبية الذي تتوهمه على شعبك الأعزل ، لا يمكن أن يقارن بأبسط الصواريخ الذكية التي تضمن لنا التزامك وأمثالك بما نضعه من قواعد للمنطقة برمتها ، ومنذ تلك الحادثة تناسى الإعلام الأسدي فكرة التحريض على زج الإسرائيليين معه في الواجهة ، وفهم تماما أن عليه خدمتهم بتدمير سوريا بصمت .

إسرائيل والنظام توافقوا منذ بداية الثورة على معادلة تخدم مصالحهما المشتركة : الحفاظ على لعبة العداء ، والسعي للتحكم بإيقاع الثورة عبر اختراقها ومن ثم إدارتها في أدق تفاصيلها الدولية ، وحتى الداخلية ، لمنح الذريعة في تدمير البلد الذي تحكمه اليوم معادلة ( مزيدا من الدمار ، تعني مزيدا من عقود إعادة الإعمار ) وعليه فقد تم رسم الأدوار ، وتقاسم النفوذ ، ورسم مستقبل اللعبة ، وحتى أن الإسرائيليين اليوم قد أنجزوا ترخيص عشرات شركات الإعمار في رومانيا وبلغاريا والصين والهند ودول أخرى مع شركاء وهميين لكنهم سوريين ليدخلوا ملف إعادة إعمار سوريا من أوسع أبوابه ، كثمن جديد لدعمهم للنظام في صموده عبر تسخير نفوذهم الدولي لمصلحة بقاءه وانتصاره !

إلا أن الشعب السوري الذي دفع الدم والروح والولد والأرزاق في سبيل نيل حريته ، يثق تماما بأنه ما من قطرة دم سورية بريئة أهرقت إلا وكانت فيها بصمة إسرائيلية ، وهو الذي تربّى على هذه المُسلّمة عقودا طويلة رغم إحساسه بلعبة الأعداء بين نظام القتل في دمشق وبين حكام إسرائيل من الصهاينة ، وحيث تتنامى مجددا روح الانتقام من كل من كان له يد في ذبح السوريين أو كان له دور في التستر أو حماية فاعليه ، فإن الفرصة في امتصاص هذه النقمة كانت دوما سانحة ، وقد أدرك حكام إسرائيل ذلك وحاولوا توجيه الأنظار نحو دور إنساني يمكن أن يلعبوه في الحرب الدائرة في سوريا ، من خلال إرسال المساعدات الإنسانية وإنشاء المشافي الميدانية وإنتاج الأفلام التسجيلية التي توثق دورهم ( الإنساني ) والإعلامي إلى جانب الضحايا الأبرياء من الشعب السوري ، الذي تفاوتت مواقفه في تقييم هذا الدور ، حيث رفضه ممانعوا النظام ممن امتطوا الثورة دون أن يقدموا بديلا يسد احتياجات شعبهم ، ورفضه بعض المقتنعين فعلا بأن على هذه الثورة أن تنتصر وحدها وبمساندة الأصدقاء حصرا أصحاب الموقف الواضح من نظام الاستبداد في دمشق ، وقَبِلهُ بعضٌ آخر ممن  رأى أن اسرائيل التي لم يتجاوز عدد الضحايا العرب على يدها بما فيها الحروب معها  الخمس وعشرون ألفا خلال سبعة عقود ، ليست العدو الأول مقارنة مع من ذبح أكثر من ربع مليون سوري خلال أقل من ثلاثة سنوات ، وبدأنا نسمع عن نوع من الغزل السياسي مع الدور الذي من الممكن أن تلعبه إسرائيل في إنهاء الأزمة السورية ، كان أبرزها ، وأكثرها تحديدا ما سمّي بمبادرة الدكتور كمال اللبواني التي لم تستخدم عبارة الدور الإسرائيلي في إنهاء الأزمة بل في إسقاط النظام تحديدا لأن ما تمر به سوريا هو ثورة وليس مجرد أزمة وهدفها إسقاط النظام وليس فرض التسويات ، حسب المبادرة التي شرعنت نفسها بالاستناد إلى أن النظام الذي استقوى على شعبه بالإيراني والروسي  والعراقي وجنود حزب الله اللبناني ، قد فتح الطريق أمام الثورة بالاستعانة بأي قوة في المنطقة لتحقيق تغيير المعادلة ومن ثمن صناعة النصر والحرية لكل السوريين

أول من حارب مبادرة اللبواني كان ساسة الثورة الذين استخدموا طريقة النظام في التعاطي السري مع الإسرائيليين ، الذين شنّوا حربا ضروسا على مجرد أفكار طرحها اللّبواني ، واستخدموا كل منظوماتهم الإعلامية وصبيانهم لتعزيز تيار من أسموا أنفسهم ممانعوا الثورة !!!  الذين في غالبيتهم ، يفضلون بناء جسور سرية مع الإسرائيلي ولا يجرؤون أن يبنوا أي تواصل علني حتى لو كان ذلك في مصلحة شعبهم ، ثم جاءت تصريحات زعيم المعارضة الإسرائيلية لتكشف تواصلا قديما ومستمرا مع غالبية زعماء المعارضة السورية ، وغالبيتهم ممن تصدوا لمبادرة اللبواني العلنية ، ثم تمت تعرية التحريض السعودي على دفع صبيانها في صفوف الثورة للالتزام بلعبة العداء مع الإسرائيلي ، من خلال الكشف عن تواصل سري بين السعوديين والإسرائيليين ، فأُحرجت السعودية وخَذَلت حَمَلة رايتها في قلب التمثيل السياسي للثورة السورية .

مبادرة اللبواني التي دعت الجميع إلى اللعب تحت النور ،  لم تَبني عمليا أي علاقة مع الإسرائيلي بل كشفت عن الكثيرين ممن كانوا قد أنجزوا شوطا كبيرا في هذا الاتجاه بالسر ولمصالحهم الشخصية فقط وحصرا ، ومع أن اللّبواني وَضع شرطا علنيا بارزا في مد أي جسور ، عنوانه العمل من فوق الطاولة وتحت الضوء وعلى مرأى من الشعب ، ومع أنه حدد معاييره في وجوب النصر على النظام باستخدام كل الفرص والأوراق والتحالفات الممكنة ، إلا أن الكثيرين ممن يتلقون تعاليمهم من دمشق ، أوعز لهم بالسهر على إجهاض المبادرة في مهدها ، وتخوين كمال اللبواني الذي ناصره غالبية أصحاب الوجع من السوريين الذين يريدون الحرية بأي ثمن بعد أن خذلهم كل العالم ، وهم موقنون بأن أعداء الحرية من قيادات الثورة المتسلقين في الائتلاف هم أشد خطرا من النظام نفسه لأنهم صبيانه الذين زرعهم لتفريغ جدوى الثورة !، وبناءا على هذه الرغبة انتقل محور العمل على هذه المبادرة من المستوى السياسي المقيّد إلى المستوى الشعبي والمجتمعي المنفتح ،  سعيا للتخلص من خَطرِ ما قد يُنتجه سلام الأنظمة والحكومات من سلامٍ ( موقوت ٍ) وهش  وضعيف وواهن ، واستبداله بسلام ِ مُجتمعات ٍ أهلية كفيل بأن يصون نفسه بنفسه ، وأخذت المبادرة بالتمدد في الوسط الأهلي ، ليبدأ الخوض في عملية تطعيم المبادرة بالمطالب والمتطلبات الأهلية وتحصينها بالمخاوف المجتمعية من الثمن اللاحق ، فأعيدت بلورة المبادرة على أسس أكثر صلابة  واستحوذت على قبول وتبني مجتمعي أكثر من ذي قبل كونها حملت عاملين مهمين في متنها : الأول هو العلنية في كل الخطوات وثانيهما ، رفضها لسياسة الخطوة خطوة أو التوريط ، وتركيزها على اتفاق شامل محدد المراحل والمستويات وواضح المعالم والأهداف والالتزامات ، فإما أن يكون هكذا أو لا يكون .

هذا التبني المجتمعي للمبادرة الذي أعلن فشل طابور النظام في صفوف الثورة من التصدي له ، اضطر أن يدفع النظام لأن يتصدى بنفسه لمهمة سحب البساط علنا من تحت مبادرة كمال اللبواني التي توجهت أصلا للشعب الإسرائيلي الذي بات يطلب بدوره مواقف مُعلنة من حلفاء إسرائيل السريين في المنطقة في خطوة لإحراج حكومته أصلا وإعلان تململه من لعبة الأعداء التي تُبنى عليها السياسة الإسرائيلية ، بعد أن أدرك الشعب الإسرائيلي المختلط بدوره أنها لعبة اتفقت عليها أنظمة البلدين لابتزاز العالم  على حساب سلام المنطقة برمتها  ، ومع بروز التفضيل الإسرائيلي الرسمي للتعامل علنا مع النظام الأكثر سيطرة على الأرض ، أرسل نتانياهو مبعوثه اليهودي الأميركي بناءا على طلب من بشار الأسد نفسه في محاولة لاسترضاء الإسرائيليين واقناعهم بجدوى لعبة الأعداء ، طالبا منهم إغلاق كل الطرق على مبادرة اللبواني لطالما أن فرصة الاستمرار في لعبة المقاومة لا تزال سانحة ، وقد ربط تعهده بجدول زمني يُنهي فيه الحرب في سوريا قبل نهاية عام 2014 ، ويبدأ بتأمينها استعدادا للبدء في عملية إعادة بناءها التي سيكون للشركات التي تريدها الجارة – العدوّة – الحصة الوافية فيها !!!

خرج مبعوث نتانياهو ليدلي بتصريح يدعم فيه موقف الأسد حيث قال بأن الأسد رغم كل هذه الحرب في بلده لا يزال متمسكا بموقفه من اسرائيل وبحقوق بلده في الجولان ، إلى آخر ما هناك من كلام يسترضي به القومجيين من أنصار بشار ويطمئن فيه كل أطراف لعبة الأعداء في المنطقة .

نظام الأسد الذي استخدم ورقةً إضافية لتعزيز إثبات نظرية قدرته على الاستمرار في اللعبة ، كان قد أعلن عن تأسيس ما أسماه ب ( حزب الله السّوري ) الذي ربما سيقوم بتحرير الجولان على غرار تحرير جنوب لبنان من قِبَل ( حزب الله اللبناني )  حين انسحبت اسرائيل منه وحدها ودون سابق انذار ، ليستغل الأخير هذه الفرصة فيعلن عن تحرير الجنوب ، في الوقت الذي يعجز فعليا حتى اليوم عن تحرير مزارع شبعا اللبنانية ، لتبقى الورقة التي تثبت حقيقة دوره في المنطقة مكشوفة لكل من يريد التفكّر في قواعد لعبة الحفاظ على ذريعة التوتر في المنطقة برمتها .

بين أطراف اللعبة من أنظمةٍ تحاول الاستفادة من حالة الاستنفار الطويلة الأمد على الجانبين ، على حساب أمن شعوبهم ومستقبل مجتمعاتهم الذي اتضح مما يحدث في سوريا أنه لن يضمن الأمان إلا بالسلام المجتمعي العميق ، وبين المصالح الحقيقية لشعوب المنطقة في الانتقال إلى مستوى مختلف من التعاطي مع علاقاتهم المتبادلة  من منظور مصلحي ، تبرز الحاجة للصوت الأهلي في كلا البلدين ، القادر وحده على فرض مطالبه بإلزام من يتحدث باسمهم بالسعي جديا في اتجاه السلام ، وعدم إعاقة أية فرصة أهلية في البدء ببناء الأسس المصلحية التي سيستند عليها مستقبلا  والتي تبدأ بحالة الوقوف إلى جانب مطالب الشعب السوري المقهور في نيل حريته ، في معركته ضد أعداء الحرية في المنطقة من إيران إلى سوريا ، هذه المعركة التي إن خَسرها هذا الشعب الذي لم يبخل بروح أو مال أو ولد في سبيل نصرتها ، فلن يبقى لديه ما يخسره في رحلة الانتقام من كل من ساند نظام القتل في دمشق سرا أو علنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.