يثب

الرقص فوق الجثث

شرعية الدم

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يحدث أحيانا ولشدة الحزن والهياج أن تنطلق في الجنازة زغاريد العرس، لكنها لا تلبس أن تطغى عليها صرخات التفجع والعويل  .. وفي التاريخ سبق أن رقصت القبائل المتوحشة على جثث أعدائها في كرنفالات النصر التي تقيمها بعد المعارك الطاحنة لتنسى قتلاها .. لكن لم يحدث أبدا أن أجبر أهالي القتلى والضحايا على الرقص والاحتفال واظهار الفرح لمقتل ذويهم ، فهذه قمة الاجرام وذروته ، أي ما يسمى في علم الجريمة (بالجريمة الكاملة ضد الانسانية) التي تتم عن عمد وسابق اصرار وترصد ، ثم تتبع بمشاعر البهجة والسرور ، وتشويه الجثة واخفاء معالم الجريمة، وإجبار المتضررين منها على انكارها ونسيان فكرة العدالة … فهذا غير مسبوق في التاريخ . ولا يقوم به الا حاقد وجبان ومجنون معا .

أنا هنا  أقصد العلويين العرب الذين دفعوا ثمنا باهظا، وفقدوا نسبة كبيرة من شبابهم في معركة شخص يبحث بشكل مرضي عن السلطة ويوظفهم في معاركه الخاصة، التي ستنتهي بالاحتلال الايراني للجميع ، ويوهمهم النظام بأنهم قد انتصروا لمجرد بقائه في السلطة ، أيضا السنة العرب الذين يرزحون تحت احتلال الشبيحة وحالش والعباس والحرس الثوري، وتمارس عليهم كل طقوس الاضطهاد والحرمان والترهيب بهدف التركيع، الذي وصل إلى مستوى أبعد كثيرا من الخنوع .. تصوروا مثلا كيف ترقص امرأة سجن كل أولادها ، لكنها لا تريد أن تصدق أنه قد تم تعذيبهم حتى الموت كما يحدث عادة لأن مصيرهم ما يزال قيد الكتمان  ،،و كما حدث لأكثر من مئتي الف سجين .. تخيلوا متعتها وفرحها ورقصها الذي يعطي الشرعية  للمجرم المسؤول … وتخيلوا فرحة أم فقدت ابنها من أجل أن يبقى معتوه في السلطة ساقه رغما عنه لمعركة مجنونة ضد شعبه .

أعراس المهزلة هذه ليست جديدة على هذا النظام الغريب العجيب ، فهي مستمرة ومتكررة لكنها لم تكن بهذا المستوى من الجنون والهذيان الناجم عن الذعر ، أو تشمل هذا العدد الكبير من المواطنين، فقد سبق واقترح البعض انتخاب حافظ للأبد .. لكنه خيب أملهم ومات ، وسبق لبعضهم أن دعاه ربا والها .. وما يزال يدعوه بهذه الصفة حتى بعد دفنه .. لكنهم بالعملي والثابت كانوا يقبضون ثمن ذلك مصالح مفرطة في الأنانية ، فالنظام قد بنى نفسه على مبادلة الولاء والطاعة والمديح الممجوج  بالمنافع الحقيرة والخسيسة والجريمة التي تحولت إلى عرس للديمقراطية .

أذكر عندما جرت بيعة  2007 كنت وقتها في السجن ، يومها أجبر كل المساجين من كل الجنسيات على التوجه نحو مفرزة الجناح بالأهازيج  لممارسة الحق في التصويت لبشار بالدم وبدبوس واحد استعمل لألف سجين .. متجاهلين حتى ابسط القواعد الصحية المتعلقة بالإيدز والتهاب الكبد وغيرها ، ولزيادة هيجان الذعر والخوف ، وبهدف مزج العواطف لتوليد حالة من الهذيان والتخليط والانفلات السلوكي ، أطلقت الاشاعات عن اصدار عفو عام عن المساجين ، الذين عادوا من عرس الديمقراطية الهزلي الصاخب الملطخ بالدم .. ليناموا منكسرين على مشاعر الذل والهوان واليأس ، ويكتشفوا عمق مأساتهم بأنهم فقط جددوا لسجنهم وعذابهم واحتفلوا به ..

يقول فاك لاف هافل عن نظام الاستبداد : (هم يجبرونا على قبول أن واحد زائد واحد يساوي ثلاثة ليس لأنهم لا يعرفون أنها اثنان، أو لا يعرفون أننا نعرف ، بل فقط للامعان في اذلالنا والتأكد من قدرتنا على تغييب عقولنا خوفا منهم ، وامعانا في تحطيمنا ) . وفي ذات السياق يقع الاصرار على ممارسة الرقص الهزلي وطقوس الهبل من قبل كبارهم وصغارهم للامعان في اذلال أنفسهم كطريقة وحيدة لتأليه سيدهم الوضيع .

كان التصويت بالدم رسالة لكل من يفكر بالاعتراض، وكانت الشعارات بفداء الأسد بالروح والدم تطلق بمناسبة ومن دون مناسبة، وكل ذلك في سياق التحضير للمذبحة المتوقعة في أي مكان أو زمان يوجد فيه من يقول لا .. وهي قمة الديمقراطية والتعددية والشرعية التي يدعونها.. إنها شرعية الخوف المعزز بالدم والمجازر والتعذيب حتى الموت والاعدام الجماعي .. وشرعية الغطرسة إلى حد الجنون .. إنه نظام العار والجريمة والذل الذي ثار عليه الشعب السوري وسيستمر بإذن الله .

1797611_591344080963287_8096703422263453220_nلنترك التوصيف الحزين لما جرى ويجري، ولنعود للتقييم السياسي لما فعله الأسد بالأمس وتوهم فيه النصر:

1-      قدم صورة لا شك فيها أنه غير مستعد لأي تنازلات، بل ممعن في تسلطه واستبداده ووقاحته ، لتسقط للمرة الألف كذبة التصحيح والتطوير والتحديث والتغيير والاصلاح والتوافق والحل السياسي ..  لقد أطلق بالأمس رصاصة الرحمة على مسار جنيف وهو المسار المصمم لإيجاد مخرج لائق له وللمجرمين من عصابته.

2-      رفع مستوى الغطرسة والتحدي لدرجة العمى الذي سيودي به وبحلفائه ، والتي سوف تتسبب في نفور حتى المعارضة التي صنفها بالوطنية، والتي حاولت طوال ثلاث سنوات تقديم الأعذار لسلوك الأسد واتهام المعارضة بإطالة عمر الأزمة عندما ترفض الحوار مع النظام وتصر على اسقاطه أولا .

3-      قدم البرهان لكل دعاة الطريق الثالث من دول وشخصيات .. أنه لا حل لمشكلة سوريا الا عبر  طريق واحد أحد هو اسقاط النظام ، لأن هذا النظام يغلق الباب على كل تغيير أو حل ، فإسقاط الأسد هو مفتاح الحل مهما كان شكل هذا الحل ، وهو ما دأبنا على ترديده .

4-      قدم لمخدوعي المصالحات التي تجري تحت ضغط التجويع والترهيب الصورة الحقيقية لمستقبلهم الذي سيخضعون فيه لسوية أعلى من الغطرسة المجنونة والتجبر والإذلال والاحتلال فذروة الاحتفالات جرت في قم والضاحية ومعسكرات العباس .

5-      قدم البرهان الواضح لكل الأقليات أن السبب في دمار العقد الوطني هو نظام بشار وحده ، وبغض النظر عن أشكال معارضيه ومآربهم المختلفة فكل من عارض الأسد كان على حق ، وكل من ساعده كان على باطل .

6-      ما حدث بالأمس ما كان ليحدث لولا تفاهة المعارضة الخارجية وفشلها وفسادها ، ولولا انحراف الثورة وتسليم أمورها للمتطفلين والمتطرفين والمجانين والفاسدين والمخترقين والوكلاء ، والذي تسبب في تراجع تأييد الثورة ونفر الكثير من أصدقائها المحتملين ، وقدم الأعذار لمجانين عشق النظام وما يمكنهم أن يتشدقوا به من تبريرات .

بعد مجزرة حماه رفع اعلام النظام شعار (سوريا الأسد ..قائدنا إلى الأبد ) ، وهو يدل على أن الأسد هو آخر رئيس لسوريا ، بسبب استعداده لتدميرها إذا شعر بالخطر ، وقد استعد لكي لا تكون سوريا موجودة بعده ، وهو ما فعله وريثه عندما رفع شعار الأسد أو نحرق البلد في وجه الثورة ..

بقي علينا هنا أن نؤكد أن مشكلتنا مع هذا النظام ليست مشكلة سياسية ولكنها جنائية وأخلاقية ، وبالتالي لن تجد حلها في الحوار أو  عبر صندوق الاقتراع كما يتوهم السفهاء . بل فقط بالسلاح والقتال  لكسب الحرب التي أعلنها الأسد ضد شعبه الثائر على جرائمه وأزلامه ومخابراته ، الحرب التي لن تضع أوزارها الا بتحقيق العدالة وازالة الطغيان ، بعدها فقط يمكن لصناديق الاقتراع أن تحسم التنافس بين المواطنين الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء الناس ، وسجلهم نظيف من الجريمة التي يرتكبها النظام ، و ترتكبها المعارضة أيضا . فهذا النظام المجرم لم يكن شرعيا قبل عرس الدم ، ولن يكون بعده، ولا حتى مجرمي المعارضة وفاسديها سيكونون شرعيين بعد زواله … لأن سوريا إما أن تكون حرة عادلة نزيهة كريمة أو لا تكون .

وليعلم الجميع أن الحرية والكرامة هي وطننا الذي نقاتل من أجله بغض النظر عن اسم الدولة أو شكلها أو من يحكمها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.