يثب

تحليل سياسي للحدث العراقي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لا يمكن أن نصدق أن تنظيما محدودا ..  منغمس منذ سنوات في معارك مع النظام، تعداده لا يتجاوز ألفين مقاتل ، يستطيع فجأة أن يطور قدراته وامكاناته بشكل مذهل ،و بعشرات الأضعاف ، من دون دخول عناصر وتنظيمات جديدة كبيرة العدد  الحرب معه ، بل إن ما حدث يوحي بأكثر من ذلك ، أي بمساعدة دول اقليمية ، على الأقل بشكل غير مباشر في مستوى التخطيط والتنفيذ ، نظرا للمستوى الرفيع من التنظيم والتحكم والهجوم وتطوير الهجوم ، والذي أدى إلى انهيار دراماتيكي للمنظومة الأمنية العسكرية التي دربت طويلا ، وزودت بأحدث الأسلحة الأمريكية ، والتي تتكون في أغلبها من مكونات مجتمعية مغايرة لسكان المنطقة ، نظرا لعزوف العرب السنة عن لباس بدلة الجيش العراقي ، ولمفاعيل قانون اجتثاث البعث أيضا ، وهو ما جعل المالكي يثق بولاء جيشه ويرسله لقمع انتفاضة العرب السنة، التي بدأت مع دخول الاحتلال الأمريكي ، واستمرت بعد جلائه بسبب الدور القذر الذي لعبه المالكي في متابعة عمليات القمع والانتقام والاستئصال وارتكاب المجازر بشكل طائفي منهجي ومستمر ، وهو ما أعطى الشرعية لكل من يعارض هذا النظام مهما كان لونه الأيديولوجي ( بما فيها داعش كشكل وحيد استطاع الاستمرار )  ..

إذن نحن نتحدث عن انتفاضة عارمة أو ثورة مسلحة دخلت الحرب ضد نظام المالكي البغيض ، وربما قبلت التحالف مع داعش، أو حتي قبلت بقيادتها ، من أجل هزيمة العدو المشترك ، لكن أن نسميها كلها داعش فهو ما يستعمله الاعلام الايراني لاستعداء الغرب، وخاصة أمريكا ودفعها للحرب معه ضد السنة، ولجم الدعم والتأييد  المتوقع لهم من الدول العربية .

وعليه فاللعبة اليوم هي : هل نقبل هذا التوصيف ونجلس على الحياد ، أو نساعد المالكي وايران على النصر ضد الارهاب، أو نساعد المعتدلين الثوار على التحرر من النظام ،ثم لجم داعش واحتوائها وتفكيكها لصالح نظام  وطني معتدل ، طالما أننا جميعا لا نريد التطرف ولا الارهاب ولا الظلم ، ونسعى لمشروع حرية حضاري للجميع .

ولكي يكون قرارنا صائبا يجب أن نحسب العوامل المختلفة والمصالح والمخاوف لنا ولغيرنا من الفرقاء في لعبة توازن القوى وتنافس المصالح .

ايران ومعها نظام المالكي والأسد و حسن ..  كانت تعمل على بناء الهلال الشيعي ، وليس لها مصلحة حاليا في تقسيم العراق ، ولا في حل سياسي فيه يحيده عن هذا المشروع .. لذلك لا نقول أن الثورة  مؤامرة ايرانية خبيثة  إلا إذا كان الهدف منها في النهاية هو تدمير ما تبقى من وجود للسنة باستعداء العالم عليهم لسحقهم وتهجيرهم .. وهي مخاوف محقة لا يمكن تبديدها من دون الاسراع في الغاء المظاهر الداعشية ، والامتناع عن الانتقام الهمجي والسلوك الطائفي ، والاسراع في ابراز قيادات وطنية معتدلة مقبولة من الغرب . وهنا تكمن خطورة اللعبة إن كانت ايرانية ، أو ضدها . فهي قد تنقلب لعكس الأهداف المتوقعة بسهولة .

كردستان متورطة بشكل كبير في الأحداث ، فالإرادة والتحكم متمركزة عندها ، و لا نستبعد بل نرجح أن تكون اسرائيل قد ساعدتها في التخطيط والتنفيذ : فكردستان  تريد اعلان دولتها واستكمال رسم حدودها كما تشتهي من دون ممانعة من أحد ، وهي لذلك تحتاج لأمرين ( تفكك العراق وتدهور سلطة المالكي ، وبروز تيار متطرف إلى جوارها يبرر لها دوليا احتلال المناطق المتنازع عليها ) فحدوث الثورة و بروز داعش في قيادتها هما مصلحة كردستانية بامتياز ، كما أن تفكك الفرق العسكرية ، وفرار قادة وجنود الجيش العراقي المخطط له في المنطقة، وأغلبهم كرد وخروجهم باتجاه حدود الاقليم ، ثم اجتياح البشمركة لكل المناطق المشتركة مع العرب ،يعزز القناعة بهذا التحليل ، وهو ما أشار إليه المالكي المرعوب تلميحا دون تصريح  ..

أما مصلحة اسرائيل في تفكيك العراق فليست بحاجة لبرهان ، وكذلك دعم الكيان الكردي الحليف التاريخي ، والذي سيضعف كل من العرب وتركيا وايران ، وكذلك مصلحتها في كسر الهلال الشيعي ، الذي يجعل من ايران قوة عظمى يصعب ترويضها ..  وهي بالضبط ذات مصالح الغرب أيضا ، والذين هم بنفس الوقت لا يريدون داعش كبديل . ويختلفون مع اسرائيل بأنهم يعتبرون ما يجري هو لعب بالنار وغير محسوب، لذلك حافظت الدول الغربية على موقف سلبي ، بينما حرصت الدول الاقليمية المتورطة على درجة كبيرة من التمويه خاصة اسرائيل وقطر وتركيا  ..

اسرائيل التي بدأت تحتك بقوات الحرس الثوري وحزب الله ومليشيات عراقية على حدودها مع سوريا ، والذين ينسقون مع داعش وحركات متطرفة سنية أخرى منها الاخوان الذين رسخوا تحالفهم مع ايران بعد طرد العرب لهم واعتبارهم منظمة ارهابية ، ويريدون كمحور ايراني استعمال الجناح السني التكفيري القاعدي كيد خفية لزعزعة استقرار الدول العربية ، وللتحرش بإسرائيل ( تحت شعار القدس : فيلق القدس ومنظمة بيت المقدس … ) ، كما يريدون استعمال الحدود مع اسرائيل كورقة ضغط تكتيكي بديلة عن جنوب لبنان ، و أن يجعلوا  من تهديد وجود  اسرائيل بالسلاح الاستراتيجي ضمانة لعدم استخدام  الغرب للقوة ضدهم ،  وهم يستمرون في مشروعهم للهيمنة على الشرق العربي والمقدسات الاسلامية … اسرائيل التي فهمت (بل أفهمت جيدا ) أبعاد ما يجري في سوريا ، لم تنتظر قدوم الخطر  لحدودها  ،بل ربما عالجت المشكلة من جذورها وبعيدا عنها ،بسبب قدرتها وتحكمها بمفاتيح اللعبة في دول الجوار … وهي هنا متشابكة المصالح مع مصالح العرب والثورة السورية …

مصلحة تركيا متناقضة جزئيا ، فهي إن خسرت قليلا بسبب وجود كيان كردي مستقل إلى جانبها ، لكنه موجود وقائم وليس جديدا … واعلان الاستقلال هو أمر شكلي ، لكنها ستكسب  بالمقابل التعاون الاقتصادي والنفطي والذي يجعل هذا الاقليم معتمدا على صداقة تركيا بشكل اساسي، لأنه داخلي ومعزول وعلاقاته متوترة مع الجوار الآخرين .. ، كذلك قيام الكيان السني سيكون حليفا طبيعيا لتركيا ، حتى لو كان متشددا  ، كذلك من مصلحتها اضعاف العدو التاريخي الصفوي ، لذلك يتوقع وجود دور مساهم تركي في هذا الحدث وهذا السيناريو ، الذي تم التمويه عنه جيدا بقصة اختطاف الديبلوماسيين التي أتوقع لها نهاية سعيدة في الوقت المناسب ..

أما الدول الخليجية فهي بالتأكيد ذات مصلحة كبرى في اسقاط وكسر الهلال الشيعي ، واضعاف ايران تمهيدا لإسقاط نظامها ، الذي يهدد وجود وأمن دول المنطقة كلها ،وينشر الفوضى والصراع المذهبي حيث حل … ووجود متطرفين في العراق ليس خطرا عليهم بذات الدرجة منه على ايران أو الغرب ..  والأردن أيضا لا يخشى سوى أن تسيطر قوى التطرف كونه أقرب .. وبتقويض هذا الاحتمال تتبدد كل مخاوفه وتبقى مصالحه الكثيرة في وجود جار صديق شقيق  وحليف تاريخي معروف ومضمون .. وهو ما سيساهم باستقرار الاردن ورفع التهديد الايراني عنه والذي يجيد اللعب بالورقة الفلسطينية .

أما الثورة السورية فهي ذات مصلحة كاملة  بكل شيء يحصل ، حتى لو كانت داعش هي فعلا ولوحدها من سيحكم المنطقة السنية في العراق، فهي بهذه الحال تنقل المعركة مع الحرس الثوري ومليشيات العراق الشيعية من سوريا لأرضهم ، وتخفف الضغط عن الثوار في سوريا ، أيضا حدوث ذلك يجعل داعش  تدخل في صراع مع من وظفها ووجهها نحو سوريا ، فتكون الثورة قد ردت هدية المالكي اليه وفي نحره ( وهو وعد الله :أن يجعل كيدهم في نحورهم ) ، هذا في حال سيطرة داعش ،

أما في حال سيطرة القوى السياسية القومية ، والدينية الصوفية ، فذلك سيجعل من المناطق المحررة في العراق والمحررة من سوريا وحدة سياسية عسكرية تعزز كثيرا الثورة السورية وتقوي كلا الطرفي وتلغي داعش سوريا  ، كما يجب توقع العكس … نتيجة الضغط العسكري على الثورة في العراق أو على داعش فيه من قبل المجتمع أو غير دول ، عندها سيحدث فرار أعداد كبيرة من المقاتلين لسوريا وجلهم سيقف إلى جانب داعش السورية…  وهذا عنصر الخطر الوحيد الذي قد ينجم عن انتصار الانتفاضة العراقية ..

مع التأكيد على فارق جوهري بين سلوك داعش سوريا ، و داعش العراق ، فهي في العراق  ليست كما هي في سوريا مكونة من غرباء انتهازيين يريدون جمع الثروة والسلاح لغايات أخرى في بلد آخر، يمعنون  في اقتحام الصديق الضعيف ونهبه ، قبل مقارعة العدو القوى ، وينسحبون من كل مواجهة شرسة ويركزون على نهب الموارد بعقلية الراعي المتنقل .  لأنها في العراق  أشبه بالنصرة في سوريا ، ذات ارتباط كبير بالعشائر والسكان  الذين يستطيعون امتصاصها ولجمها عندما تنتهي مهمتها كعصا وفزاعة ورأس حربة ،

لكنها في العراق … قد تصبح خطرة عليهم لدرجة انقلاب النصر لدمار هائل  وخسارة استراتيجية ، في حال تسلمت مقاليد السلطة في المناطق المحررة ..  وهو ما سيبرر تشكل حلف معادي هائل بقيادة ايران وروسيا وعضوية أوباما الضعيف ، يسحق السنة وجوديا ، وهذا هو  الخطر الوحيد الكفيل بتحول النصر الكبير على إيران في العراق ..  لهزيمة كبرى للسنة في كل المنطقة .

لكن العشائر الذين نعول عليهم في امتصاص ولجم داعش … هم كعادتهم يكرهون الدولة والسياسة ، ويفضلون النأي بالنفس والاستقلال الإداري عن المركز وصداقته معا ، فالعشائر هي أشبه بسلطة ودولة داخل الدولة ، واستقلالها ووجودها مرهون بضعف الدولة المركزية أو تفككها ، وهم يستشعرون الخطر من المجتمع المدني ومن الحياة السياسية الحزبية الحديثة ، ومن السلطة الدينية أيضا التي لا تمر عبر سلطتهم ، وبذلك لن يكونوا شريكا يعتمد عليه في  اضعاف داعش ، أو في الصراع مع المالكي .. وغالبا سيبقون على درجة من الحياد ، في ما عدا ردات الفعل الانتقامية والثأرية المؤقتة على ما يرتكب بحق أبنائهم ، فمشاركتهم لا يتوقع أن تكون طويلة ، ولا أن تمتد لمشروع وطني .. فهي محدودة بردة الفعل التي تتخامد مع الزمن ، ولذلك أتوقع أن تبرد الجبهات عند حدود تقسيمية طائفية وقومية ، ويصعد للسطح الصراع على السلطة داخل المكونات الطائفية بين داعش والمجتمع المدني ، وبين شيعة العراق العرب والفرس ، وبين الاقطاع السياسي الكردي وحركات الشباب الديمقراطي المدني ،  ويصبح التقسيم غير المستقر أمرا واقعا بانتظار مشروع توحيد جديد مختلف فوق قومي وفوق ديني .

إذن كل شيء متوقف على الدور والمهمة التي تقع على عاتق المجتمع المدني العراقي والأحزاب والتنظيمات السياسية والعسكرية ، لكسب هذه المعركة ضد المالكي و ضد التطرف معا ، وهذا يحتاج لمساعدة كبرى من الدول ذات المصلحة لتحقيق أمرين : أولهما كسر الهلال الشيعي واخراج العراق خارج الهيمنة الايرانية أو بجزء منه ، ثانيهما منع القاعدة و داعش والتطرف من استعمال اراضي السنة في العراق والشام كمكان آمن وقاعدة انطلاق نحو الجوار والعالم ، وعلى هذا نستطيع أن نشكل تحالف اقليمي دولي منسجم ومتوافق المصالح، لدعم ما يجري وتوجيهه بالطريق السليم ، مما سيشكل تغيرا مهما في ميزان القوى في المنطقة ، يساهم في استقرارها وانهاء أزماتها ، الناجمة عن شعور طرف (ايران) بالقوة والقدرة على هزيمة الآخر . وهو ما سيساهم في انهاء الأزمة في سوريا  والله أعلم .

 وعليه فإن السياسة التي أقترح اعتمادها هي :

( يجب دعم قوى الاعتدال لتحقيق مطالبها العادلة التي تقوض مشروع الهيمنة الصفوي ، بشرط التزامها بمكافحة التطرف وفي هذا  مكسب للجميع ،  

أما اعلان الحرب عليها فيحولها لخزان داعم لهذا التطرف من جهة ،  ويرسخ الهلال الصفوي أيضا من جهة أخرى ، وفي هذا خسارة للجميع ، ومكسب فقط  للنظام الإيراني الذي يحارب شعبه أيضا ويتبادل الشرعية مع قوى التطرف ويستعملها كيد قذرة تخدمه ، كما يجب أن نتوقع تصالحه معها في مرحلة لاحقة لالتقاء المصالح وتشابه الهويات)

في الوقت الراهن يجب أن لا نتوقع موقف معلن واضح يصدر عن هذه القوى الوطنية العراقية فيما يخص داعش ، لأنه سيشق الصف قبل استقرار الجبهات خاصة في بغداد التي يرجح أن تقسم مذهبيا . لكن  يجب البدء بمساعدتها هذه القوى المعتدلة فورا لتشكل منافسا قويا ، وربما فيما بعد قادرا على امتصاص التطرف ،ضمن خطة منهجية اقليمية لإعادة الاستقرار والتعاون ، وبناء الجسد السياسي الاقتصادي الاتحادي بين مكونات المنطقة  ، بعد  دمار خريطة سايكس بيكو  المصطنعة بفعل الفوضى الخلاقة .

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.