يثب

إيروس وأفروديت

د. كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بالأمس شاهدنا فيلم تطبيق حد الرجم على امرأة سورية من الرقة …

وهو ما أثار مشاعر الكثيرين خاصة من الفتيات، وأطلق عندهن مشاعر وتساؤلات خفية تستحق المناقشة، لأن الفيلم قد وضعهن مباشرة أمام تناقض صارخ بين الموروث والديني وبين الحياة الفعلية المعاشة في هذا العصر… هل نستمر بالكذب والتستر الذي إذا انكشف سيودي بنا، كما حصل لهذه الضحية ؟، أم نتنكر لتراثنا ونبطله ونبطل سلطاته نهائيا ونعلن أنفسنا بوقاحة كمخالفين له؟ أم نلتزم به ونعيش كما عاشت جداتنا ظعائن وسبايا وحرمات … ؟؟ بالتأكيد ليس هذا هو الوقت الملائم لفتح هذا النقاش لولا ذلك الفيلم . لأن تركيزنا اليوم يجب أن ينصب على استعادة الحق في الحياة الذي انتهكه النظام، لكن سلوك المتشددين وصل بهم لانتهاكه بطريقة أخرى مؤثرة… مما يعكس تعقد وتشابك المسائل التي لن تحل، على ما يبدو، إلا معا وجميعا … وما يجبرنا على العودة قليلا للأنثروبولوجيا .

في الماضي البعيد من حياة أسلافنا من الأنواع، التي تابعت جيناتها فينا حتى اليوم، والتي يبدو أنها مرت بمرحلتين مختلفتين من العيش، واحدة حياة زوجية كأعشاش على الأشجار، وثانية كقطعان وجماعات عاشت في السهوب والكهوف والغابات، بعد أن نزلت منها وطورت يديها وسارت منتصبة على قدميها .. ذلك الذي حدث قبل ملايين السنين  من التطور البيولوجي، الذي انتهى بالشكل المورثي الحالي للبشر، القادر على استيعاب النفس الانسانية العارفة التي نفخها الله فيه، مميزا له عن سائر الكائنات التي تشبهه في التكوين لدرجة التطابق أحيانا ( الاختلاف الجيني بين جينات البشر وقرود الشمبانزي لا تتجاوز 1% )

فيما مضى لحاجات تكيفية في مرحلة الأشجار تكونت جينة الحب والحياة الزوجية، التي تربط الذكر بالأنثى وتجعلهما يعيشان معا، متلاصقين مترابطين عاطفيا وجسديا لفترة طويلة تسمح بتنشئة الأطفال ، وهي الجينة التي رمّزها اليونان بآلهة خاصة للحب سموها (أفروديت)، وفي مرحلة لا حقة أرقى تجمع أسلاف البشر على شكل قطعان وجماعات أكبر محكومة بسلطة ولها نظام أعقد، حيث نشأت تبعا لحاجات التكيف أيضا جينة جديدة ، يسعى من خلالها الذكر للوصول لكل الإناث، كما تسعى من خلالها الأنثى لإرضاء واستمالة أفضل الذكور ، وهي الجينة المسؤولة عن اشتهاء الآخر وتبديل الشريك، وهي ما سماها اليونان بآلهة الشهوة والمتعة ( إيروس ) وهذه المورثة ساهمت في تطور وارتقاء أسرع، حيث يحرم الذكر القوي الذكور الضعيفة من مقاربة الإناث، بل يستعملهم كأنثى، وهو ما أوجد جينة الشذوذ ( gay ) التي نلحظها في بعض أنواع القرود، وأحيانا تقوم الأنثى بإرضاء فحولة الرجل عندما يستعملها كما الذكور الخانعين … وهو ما ربط بين الجنس والسادية المازوشية ، وكل ما يوضع تحت باب المخالف للأفروديت … والذي سمي بسبب ذلك بالشذوذ الجنسي الذي هو تكوين جيني طبيعي، يمكن كبته لكن لا يمكن تغييره.

وفي مرحلة متقدمة من الحياة المجتمعية ( قبل 3 آلاف سنة) نشأت حاجة ماسة لتقديس رابطة الدم والنسب والأخوة القبلية، ( المجتمع الذكوري التموزي بعد المجتمع الأمومي العشتاري) والتي من دونها لن تعيش القبيلة حالة تشارك اقتصادي عسكري قيمي يجعلها قادرة على البقاء والدفاع .. فالذي يجبر القوي أن يحمي ويعطي الضعيف هو ذلك الرابط المقدس الذي هو الدم والقرابة والنسب، الذي يحدد دور كل جيل وكل شخص ضمن نظام متقدم للأسرة هو الأرقى، والذي يعتمد تماما على الشرف والاخلاص وجينة الأفروديت لوحدها، ويتطلب قمع ومنع جينة الإيروس بشكل كامل، لأنها ستؤدي لانفراط عقد الجماعة وانهيارها واستباحتها وهلاكها. فالتسامح مع الخيانة الزوجية والتنازل عن قيم الشرف وتشوش رابطة النسب كان يعني النهاية الحتمية للجماعة ككل، وعليه كانت تلك العقوبة الزاجرة ( الوحشية ) الترهيبية على الزنا والتلاعب بالرابط المقدس. والتي ظهرت في أغلب الديانات : منذ اليهودية وما بعدها فحرمته المسيحية  كخطيئة أيضا، وتبنت قدسية العلاقة بين الرجل والمرأة والشرف ورابطة الدم، واعتبرتها رابطا الهيا لا ينفصم تحت أي ظرف، مع الإشارة لاحتمال خرقه لكون ذلك من طبيعة البشر. وتشدد الشارع الإسلامي جدا في تطبيق هذا الحد لوحشيته، لكنه حافظ عليه لضرورته الملحة في زمانه…

وعندما قامت الثورة البرجوازية الصناعية ، وما رافقها من ثورة مجتمعية وسياسية وفلسفية ، انطلقت فلسفة الحرية التي تسعى بالعودة لطبيعة الإنسان وفطرته، واستعادة حريته، التي أصبحت ممكنة نتيجة تطور وتغير نمط الاجتماع والاقتصاد وتضخم دور الدولة، التي صار بإمكانها تحمل أعباء اضافية تعوض النقص الذي يحدث بسبب تهتك وتهافت النمط التقليدي من الأسرة، فصارت تربية وتنشئة الأولاد واجب يقع على الدولة عندما لا يتحمله الأبوان، مما لم يعد يبرر تلك العقوبات الزاجرة، ولم يعد يقدس ذلك الرباط الزوجي، الذي تحول لقرار شخصي ليس ملزما بموجب النظام القانوني (كشكل وحيد مسموح به لممارسة الجنس) ،  ومع ذلك لم يسمح باستعادة دور جينة الإيروس والرغبات المرتبطة بها واطلاقها وشرعنتها، قبل أن بطلت الحاجة لدور الأسرة الاقتصادي، وبعد أن تمكن الطب من فصل المتعة عن الانجاب وطور وسائل التحكم بالحمل، وبعد نشوء مؤسسات رعاية وخدمات تملأ الفراغ وتعوض عن دور الأسرة التقليدية … وهو الذي سمح بالبناء عليه، واعادة إطلاق جينة الإيروس وبشكل واسع وطاغي على كل الثقافات منذ منتصف القرن الماضي، وبالتالي شرعنة نمط حياة واستهلاك وفنون عصري، يقوم على الحرية والاغراء والغواية والمتع الجنسية الاختلاطية الاباحية، التي صارت تتظاهر مع الجينات الأخرى الشاذة ، إلى جانب الأفروديت وتتمتع بالشرعية الأخلاقية والقانونية مثلها في الدول تباعا…

عندنا في الشرق الأوسط ، ومع التطور المشوه والتحديث المصطنع والهمجي، الذي جاء على شكل غزو تحديثي ثقافي غربي سطحي، من دون تحولات موازية في بنية المجتمع والسياسة والاقتصاد، تداخلت القيم والمفاهيم في المجتمعات المستباحة المحكومة بالاستبداد، وأطلقت الثقافة الغازية عند الأجيال الجديدة الناشئة رغبات جديدة تبحث عن شرعيتها، لا يقبل بها المجتمع المحكوم بمزيج من القمع السياسي والعرف التقليدي، وبذلك عاش ويعيش كل شبابنا وبناتنا تناقضا هائلا، وتحريضا واستثارة محبطة ومدمرة، تحطم وتشوه كل حياتهم، وتتسبب بتهتك أدمغتهم وتحطيم وعيهم، وتعقيد سلوكهم لدرجة مدمرة فعلا …

في بداية التسعينات كنت قد لمست تفاقم هذه الظاهرة فكتبت عنها كتابا يحاول شرحها نشرته دار الريس تحت عنوان الحب والجنس عند السلفية والامبريالية، والذي شرحت فيه أن طبيعة الانسان هي الحب والزواج والأسرة، وأن طبيعته أيضا الخيانة، وأحيانا الشذوذ، وكلها مكونات مورثية موجودة فيه رغم ارادته وتتحكم به، لكن المجتمع يشرعن ويسمح أو يبطل ويقمع، تبعا للنظام الجنسي المتبع كتكنيك سياسي – اقتصادي، يخدم دور ووظيفة قابلة للتغيير مع تغيره، وأن تغيرا كبيرا قد حدث في نمط الحياة الحضارية، تسلل كنمط عيش واستهلاك وثقافة قاهرة، لا يمكن الوقوف في وجهها لأن ذلك يعني البقاء خارج الحضارة المتشابكة العلاقة بين مكوناتها، وهو ما يتطلب منا اعادة التفكير في الموروث والتقليدي المعتمد قانونا وعرفا وشرعا، لكي لا يسقط نظامنا وننهار نحو الفوضى … وهو ما حصل فعلا بعد ذلك بعشرين سنة سياسيا وسيتبعه اقتصاديا ثم مجتمعيا وجنسيا.. فيما سيأتي من أيام، لأن الثورة هي تفجر لرغبات متراكمة لم تعد تجد وسائل تلبيتها ضمن البنى الفوقية السائدة العصية على التطور …

لذلك نعتبر أن الفهم التقليدي (المغلوط حاليا) للدين، وعدم فصل الشكل عن المضمون والاصرار عليه، هو الذي يصنع في هذه المرحلة تناقضا بين الإيمان والشريعة ، ويجعل من القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار، و يصنع تناقضا بين ديننا وتراثنا الذين يجب أن يحترم، وبين متطلبات واقعنا المتغيرة تبعا لمتطلبات الحضارة التي تفرض علينا التكيف القيمي والقانوني معها، من دون التضحية بالغايات والوظائف التي هي أساس الدين والمجتمع والخير والحق معا. وهذا يتطلب انفتاح العقول والغاء دائرة الممنوع التفكير فيه، وابداع انماط عيش ونظم مناسبة للغايات لا تعبد صنم الأشكال .

لا أستطيع أن أدين أو أشجع أي طرف من أطراف الحادث المذكور ، فالكل محق مع أن النتيجة مفجعة لأنها تعبر عن الفشل الفكري والمفهومي والفلسفي الذي ولد الفشل السياسي والحرب الأهلية البربرية … لكنني لا بد لي من شكر داعش التي قدمت لنا الدليل على أن استمرار الماضي أو محاولة العودة إليه قد أصبح جريمة بل ارهابا وحشيا …

هل نبقى في مرحلة ( النفاق ) نمجد الشريعة ونطبق غيرها، أم نبحث عن الجديد الذي علينا بناءه ولا يتناقض مع احترام جوهر الدين ومحكمه ولا يدين التاريخ ؟ … أريد أن أسمع جوابا من أنصار تطبيق الشريعة بحرفها وليس بمقصدها،  ومن كتبة كتب الديانة المدرسية التي تدرس في الدول التي تعتبر الاسلام مصدر التشريع … فأنتم تدرّسون الشريعة الاسلامية والتي تعتبر اليوم بعرف التحالف الذي تقاتلون ضمنه إرهابا ( أنظروا التعليقات الغربية على فيلم الرجم ) .

أخيرا أضع سؤالا لكل شاب وشابة تريد أن تكون طبيعية وصادقة ومؤمنة، هل نحن فعلا نقرأ ونفهم ديننا بشكل صحيح ؟؟ أنا شخصيا لا أعتقد ذلك، وأرى أن العيب كامن في العقل الذي يقرأ ويفهم ويطبق هذا الدين، الذي له قراءة وتطبيق آخر مختلف ومتناسب مع تغير العصور وتبدل الأزمان ، وبالتالي تبدل العقول القارئة .. من هنا ينفتح باب الخروج من هذا التناقض المدمر لدواخلنا ولحياتنا. فكم امرأة وفتاة تستحق الرجم وفقا لما ندين به… حتى ضمن نسوة كتيبة الخنساء الداعشية، ناهيك عن الرجال والمشايخ والأمراء الذين تم استبعادهم عمليا من جرم الزنا بوضعهم خارج دائرة الاتهام بسبب الثقافة الذكورية… ومنهم كما أشتبه الأب والقاضي الذين نفذوا القصاص ذاتهم.  أو فلنكن خجولين كما قال السيد المسيح ( من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ). وإلا فلنكن مسلمين صادقين (لا نكذب ).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.