د. كمال اللبواني
كما انتجت الحضارة الغربية النظام الديمقراطي ، تتجه أوروبا نفسها للتمرد عليه بعد تجربة مشوقة وواعدة بدا خلالها أنه نظام متكامل قادر على حل مسألة السلطة بشكل كامل ونهائي بحيث يستوعب التغيرات الاجتماعية ويعدل السلطات بما يتناسب معها بطريقة سلسة وسلمية ….
فقد سادت الديمقراطية في القرن الماضي في الدول الغنية التي تمتعت بهامش ربح كبير من تبادلها الغير متكافئ مع دول العالم الأخرى ، والتي استطاعت حل أزمات الداخل عبر تصديرها ووجدت حلولها التوافقية المجتمعية على حساب المستعمرات أو من فائض التفوق التجاري والتكنولوجي مع العالم الثالث ، وفشلت الديمقراطية أو بقيت محدودة وناقصة في كل الدول الفقيرة أو غير الاستعمارية ، حيث شدة الأزمات تفجر التناقضات السياسية وتهيئ للاستبداد كوسيلة وحيدة للاستقرار ، لأن الديمقراطية كنظام يعجز عن استيعاب تناقضات المجتمع الفقير .
حاليا تعاني هذه الديمقراطية في أوروبا من أزمة خطيرة قد تطيح بها بسبب الفشل الاقتصادي المتنامي الناجم عن المزاحمة وضيق فجوة التبادل غير المتكافئ ، فكل تصويت يجري حاليا في أوروبا يحسمه التفوق العددي للعاطلين والمستعينين بنظام الضمان الاجتماعي الواسع المطبق فيها ، مما يكرس النظام الاجتماعي الراهن الذي يتسبب في تدهور الحالة الاقتصادية بشكل مضطرد . وبذلك تصبح الديمقراطية عاجزة عن احداث التغييرات اللازمة لانقاذ الاقتصاد وتغيير النظام ، و يصبح التمرد والثورة عليها هو الطريق الوحيد المتوفر للإنقاذ وتجنب الانهيار التام .
عاجلا أو آجلا سوف يثور اليمين المتطرف ويحتج على الديمقراطية ذاتها ويسقطها ويصعد للسلطة بطريقة غير ديمقراطية حاملا معه ما يتزود به من فلسفة وآيديولوجيا استبدادية عنصرية متطرفة وعنيفة ستغير وجه أوروبا الحضاري ، ويدخلها في صراعات وحروب أهلية واسعة داخلها أو مع الآخر ، ويجعلها تتخلى بالمفرق والجملة عن كل منظومة القيم الحضارية الانسانية والديمقراطية التي زينت بها سيادتها للعالم . فسقوط الديمقراطيات صار شبه حتمي إذا لم تحدث فيها اصلاحات جدية تستوعب المتغيرات وتتيح لليمين الوصول للسلطة ، ولأن هذه الإصلاحات ستصطدم بالرفض الواسع لذلك لا نتوقع لها النجاح ، باستخدام الطرق الديمقراطية المعهودة ، مما سيعني سقوط ليس فقط النظم الديمقراطية ، بل معها الوحدة الأوروبية والسلام بين دولها ، بل سيعني سقوط السلم الاجتماعي داخل مجتمعاتها ، وانهيار القيم التي حرصت الحضارة الغربية على التباهي بها ، وخروج الغرب عموما من الاستقرار ومن قيادة الحضارة التي ستنتقل لمكان آخر . فأوروبا التي استطاعت النهوض بعد حربين عالميتين ، لن تستطيع القفز فوق الحرب الأهلية القادمة بسهولة ويسر ، ومن دون ثورة تنظيمية وإدارية واقتصادية لا تبدو مؤهلة للقيام بها .
في دول العالم الثالث لا توجد ديمقراطية لكي نخشى عليها من الانهيار ، لأنها تتناقض مع الفقر ، وفي روسيا نظام قهري مافيوي ، وفي الصين نظام حديدي يستعين بنظام اقتصادي نيوليبرالي متوحش يطبقه إلى جانب الشيوعية ، وفي أمريكا يتعثر النظام السياسي الديمقراطي الذي يكرر الفشل وويتصف بالتناقض … فالأمريكيون الذين يتراجع اقتصادهم باستمرار وتتراكم ديون خزانتهم اختاروا رجلا أسود للبيت الأبيض للتعبير عن تجاوزهم للعنصرية ، وبعد أربع سنوات يختارون رجلا عنصريا مفرطا في عنصريته ويباهي بها ، فهل تغير الشعب الأمريكي 180 درجة في أربع سنوات ؟ أم أن النظام الديمقراطي يتم التلاعب به حسب الطلب … ما معنى أن تنحصر الخيارات في عائلات سياسية معينة رغم اتساع ورحابة أمريكا ، هل يعجز هذا النظام عن انتاج طبقة سياسية وحياة سياسية تضخ دماء جديدة ؟ يبدو أن الشعب لا يقرر إلا ما يراد له أن يقرره ، وأن الاستبداد هو الجوهر الحقيقي لنظام الحريات المزعوم . فمع تهافت الديمقراطية الأمريكية والتلاعب بها ، ومع تمرد أوروبا على الديمقراطية التي صنعتها بنفسها … ستكون نهاية هذا الشكل من الحكم أمرا وشيكا واقع لا محالة، فمسألة انهيار النظم الديمقراطية هي مسألة وقت لا أكثر …. ولكن أي نظام سياسي سيكون البديل عن هذا النظام ؟
في علوم السياسة ونظرياتها لا يوجد نظام سياسي آخر يستطيع أن ينافس اجرائيا وقيميا النظام الديموقراطي ، وإذا ظهر وبدا واضحا عجز هذا النظام ومرضه المميت ، فإن كل تخلي أو عودة عنه ستعني تدهورا نحو الخلف ، وتأتي بنظام أسوأ منه بكثير ، يستجيب لبعض القضايا الملحة في البداية لكنه سرعان ما ينتج مشاكل أعقد وأخطر منها ، وبالتالي لابد من التفكير قبل فوات الأوان في إصلاح النظام الديمقراطي ذاته لكي يتمكن من البقاء ، أو لجعله قادرا على العودة بشكل يتناسب مع وضع الدول المتقدمة ، و يتكيف مع وضع الدول النامية الفقيرة التي حرمت منه أيضا …
وهذا يتطلب التفكير بالنقاط التالية الضرورية لتصحيح النظام الديمقراطي :
-التخلي عن مبدأ المساواة في حقوق التصويت … فليس كل المواطنين سواء ، طبعا لا ندعو للتميز حسب العرق والجنس والانتماء الأهلي ، بل حسب التفاوت والاختلاف في الانتماء المدني ، والدور الاقتصادي : المنتج والذي يملك عقد عمل ليس كالمتعيش على الضمان الاجتماعي والمساعدات الحكومية ، ولا يعقل أن يقرر العاطلون والمتعيشون مصير نظام العمل والاقتصاد رغم أنف المنتجين ،
– ليس كل المواطنين قادرين على الاختيار الصحيح للسياسات بجميع مناحيها ، وبالتالي تصويتهم يتأثر بالدعاية والاعلان ولا يستطيعون تحديد خياراتهم ، لذلك هم لا يصوتون على السياسات والبرامج بل يفوضوا من يصوت عنهم فالمواطن يختار مندوبين عنه ، ونظام الاقتراع النسبي على البرامج الحزبية هو نظام مضلل .
– ليس كل أعضاء البرلمانات والمندوبين عن الشعب مؤهلين لاستصدار القوانين والخطط ، فمن يضع ويمرر القوانين عادة هم مجموعة خبراء خارج مجالس التشريع ، التي تقرها دون دراية وعلم بنتائجها .
– الأحزاب ببنيتها الحالية غير قادرة على انتاج سياسات متكاملة ، وليس لديها مؤسسات بحث ترسم السياسات بل تركز الأحزاب عملها على الدعاية والنشاط الانتخابي فمعظمها تجمعات انتخابية مؤقتة ( نموذجها الحزبين في أمريكا ) وبالتالي هذه الأحزاب غير مؤهلة لإدارة شوؤن الدولة ، ومن غير المفيد أن تتأرجح الدولة بحسب الحزب الحاكم بل لا بد من تمتعها باستقلالية نسبية ، تمنعها من التذبذب .
– مراكز البحوث تحاول سد هذا الفراغ المعرفي لكنها غير رسمية ولا تؤثر على نسب التصويت … وغير نزيهة التمويل ، والكثير منها يبدبج الدراسات من دون آليات بحث موثوقة وبالتالي يشوش الرأي العام .
– الديمقراطيات تتحكم فيها البيروقراطيات البليدة ، وتعتمد سياسات قصيرة النظر تهتم بالحصول على رضى الناخبين في الجولة القادمة ، وتعجز عن رسم استراتيجيات طويلة المدى تتطلب تفهم وصبر الناخبين ، فهي أضعف في هذا المجال من النظم التي يحكمها المستبدون .
– لا بد من اعتماد مبدأ تعدد مجالس التشريع وتخصصها وفق بنية هرمية ، بدل المجلس الواحد بحيث على سبيل المثال لا يمر قرار اقتصادي في مجلس العموم من دون موافقة مجلس الاقتصاد الذي ينتخبه المنتجون والعمال فقط ، ولا يمر قرار حول وضع الأطفال من دون موافقة مجلس الأمهات . ولا يمر قرار حول الإعلام من دون موافقة مجلس الإعلاميين …
– النظام النقابي يجب أن يتطور ويتمأسس ليشارك في النظام التشريعي . فالمجلس التشريعي العام يجب أن يمثل اتحاد النقابات العام . ودور المجلس العام هو التنسيق بين هذه النقابات وليس تدبيج القرارات والقوانين بعيدا عنها .
– لابد من اعطاء الدولة درجة من الاستقلالية عن التقلبات الحزبية، وتداول السلطات ، وبشكل خاص الإلتزام بسياسات استراتيجية بعيدة المدى .
– لا بد من التمييز بين الناخبين ، من حيث المجال الذي يصوتون فيه ، ومن حيث أهمية صوتهم ، ولا بد أن يتمثلوا بأكثر من طريقة بحسب نشاطاتهم ، فلهم جميعا حق متساوي في انتخاب نوابهم لمجلس العموم ، ولكن للبعض حقوق إضافية في انتخاب نوابه لمجالس تخصصية تتعلق بنوع النشاط الذي يساهم فيه .
– ولابد من التمييز بين المواضيع التي يتم التصويت عليها . ( الاقتصاد ، الأمن ، السياسة الخارجية ، السياسات الاجتماعية … )
– ثم لا بد من نظام يجمعهم معا … مجلس عموم يرتبط بمجالس تخصصية تشريعية فرعية ، ينسق بينها ويصدر قراراته بالتفاهم معها كل حسب اختصاصه . يضاف اليها مجلس الشؤون الاستراتيجية الذي لا يتجدد أعضاؤه دوريا
– يمكن اعتماد مبدأ اعادة انتخاب نصف المجلس كل سنتين بدل تجديده كاملا في كل دورة بحيث يخف أثر تقلبات المزاج العام على السياسات
– يمكن وضع معايير للمؤهلين للترشح خاصة في المجالس التخصصية ،
فالنظام الديمقراطي لا بد أن يبنى بطريقة أكثر تعقيدا ليتناسب مع تعقيدات الحياة ووظائف الدول والحكومات . فكما تم اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات يجب أيضا اعتماد مبدأ الهرمية وإيجاد طريقة للتخصص في السلطة التشريعية ، وتغيير في طريقة اختيار مجالس التمثيل ، و في بنية ووظيفة الأحزاب ، وفي كامل مؤسسة التمثيل والتشريع ، فلا يعقل أن يقرر العاطلون ما يدفعه المنتجون ، ولا أن يقرر المنتجون ما يجب أن يحبه المستهلكون ، ولا أن يسعى العسكر لتجنيد كل الطاقات وراء أحلام رجل بالمجد … ولا يستطيع الإعلام التلاعب بالرأي العام ، ولا المال السياسي سرقة قرار الشعب .
هناك عيوب وعطالة وسخافة وبيروقراطية وتفاهة تشوب النظام الديمقراطي الذي يكبل نفسه ويكبل الحياة السياسية ويتعثر ، لكن الحل ليس بعودة الاستبداد بل بتطوير هذا النظام الذي صار قديما ومعيقا في الغرب ، مع أنه مايزال حلما في الجنوب ، بل ربما لذات الأسباب ، هو يحتاج بصورة ملحة لهذه الإصلاحات قبل انطلاق جولة جديدة من الفوضى والجنون … ولا بد من الزام الدول العضوة في الأمم المتحدة بحد أدنى من المعايير الديموقراطية لكي يقبل ممثلي حكوماتها ومندوبيها ، فلا يعقل أن يمثل نظام مستبد أو حكومة شخص سفاح شعب مظلوم ويتكلم باسمه والعالم يقف متفرجا .
صبرا شعب سوريا … الثورة التي بدأت في سوريا كشفت عفن النظام العالمي وهي ستنتشر في العالم مستكملة مسيرة تغييره …